صحيفة المثقف

بعثة الحجّ العلمائيّة سنّة حسنة تحوّلت إلى سيئة

تقول الحكايات إن السيّد الشاهرودي الكبير، المتوفّى قبل ثلاثة وأربعين سنة، هو أوّل من بادر لتأسيس بعثة الحجّ العلمائيّة، والتي تعني: إرسال مجموعة من العلماء والفضلاء إلى الحجّ سنويّاً؛ لغرض إجابة أسئلة الحجّاج الوافدين من جميع أقطار العالم، والتواصل المباشر معهم، واستلام حقوقهم الشرعيّة... وقد حكى القاصّون ـ كما سنذكر مصدر ذلك ـ سبباً لهذه المبادرة فقالوا:

كانت حياة السيّد الشاهرودي الكبير بسيطة جدّاً، ورغم كونه من مراجع النجف المهمّين في الربع الثالث من القرن المنصرم، إلا أنّه لم يكن يتملّك استطاعة ماليّة تمكّنه من الذهاب إلى حجّ بيت الله الحرام، واهتماماً بذلك: تبرّع أحد مقلّديه من أهالي الكويت بمبلغ مالي لهذا الغرض، ليصبح سماحته مستطيعاً بالاستطاعة البذليّة كما يُعبّر عنها الفقهاء، لكن سماحته توقّف عن قبول هذا العرض؛ إذ إن هذا المبلغ وإن حقّق الاستطاعة بالنسبة للشخص العادي، إلا أنّه لا يحقّقها بالنسبة إليه كمرجع؛ إذ الاستطاعة التي توجب على الإنسان الحجَّ يجب أن تتناسب مع مقامه وشأنه كما يقولون، فإذا كان الإنسان العادي تتحقّق استطاعته بمبلغ ماليّ يسير، فالمرجع لا تحقّق استطاعته إلا بتحقّق استطاعة مرافقيه وأقاربه وأعضاء مكتبه وخدمه وحشمه... إلى غير ذلك من الأشياء المتناسبة مع عنوانه ومقامه وشأنه.

ولأجل أن يرتكز رفض هذا العرض على مبرّر شرعيّ طلبَ سماحته من أحد طلّابه المبرَّزين، والذي سنذكر اسمه في المنشورات الّلاحقة، أن يفتّش له عن مخرج فقهيّ لذلك، فبحث التلميذ وأخبر أستاذه أن لا محيص له إلا بقبول هذا الطلب؛ وقال له: سيّدنا جاء في صحيحة أبي بصير: «من عُرض عليه الحجّ ولو على حمار أجدع مقطوع الذنب، فأبى، فهو مستطيعٌ للحجّ»، وقد قبلت في بحثك الفقهي هذه الرواية، [رغم إعراض المشهور عنها]، وبالتالي لا طريق لك إذا ما أردت التمنّع من الذهاب إلى الحجّ إلا بأن تطلب من الباذل أن يتراجع عن بذله!!

ولأجل تحفيز الباذل على التراجع قيل له: إن مصاريف حجّ السيّد المرجع كثيرة جدّاً ولا يمكن تأمينها بهذا المبلغ الذي دفعته...، لكنّ هذا الأمر لم يثبّط عزيمة الباذل، فحبّه للسيّد المرجع جعله يصرّ على تحمّل جميع النفقات مهما كانت، وبهذه الطريقة أُلزم المقلّد المسكين أن يضاعف مقدار بذله؛ ليشمل جميع المرافقين، وربّما تُظهر الصور المُرفقة عددهم!!!

وفي هذه السفرة رأى المرحوم الشاهرودي الاهتمام الذي يوليه الحجّاج حينما يرون مرجعهم وتلامذته بينهم، فلا حواجز تبعدهم عن الأسئلة ولا مسافات، فرأى ضرورة مجيء مجموعة من الفضلاء وطلّاب العلم في الحجّ في كلّ سنة وعام، ودعا لاستمرار هذه السنّة الطيّبة، وفي السنة الّلاحقة أعني سنة: (1387ق) أسّست مكاتب المرجعيّات في النجف بعثات دينيّة في الحجّ، فكانت بعثة السيّد الشاهرودي برئاسة ابنه السيّد محمد، وكانت بعثة السيّد محسن الحكيم برئاسة ابنه المرحوم السيّد محمد باقر، فصارت سنّة الحوزة العلميّة أن ترسل للحجّ بعثةً سنويّة، تضمّ عينة من فضلاء كلّ مكتب من مكاتب المرجعيّة؛ بغية الإجابة على استفتاءات الناس، وتفقّد أحوالهم، واستلام حقوقهم الشرعيّة.[لقراءة تفاصيل أكثر عن هذه الحكاية لاحظ: كتاب الإمام الشاهرودي، لأحمد الأشكوري، ص75فما بعد، نقلاً عن مجلّة نور العلم الفارسيّة].

أمّا اليوم فآسفي: إن هذه السنّة الشاهروديّة الحسنة تحوّلت إلى سنّة سيّئة؛ ففي كلّ سنة تُرسل مكاتب المرجعيّات الدينيّة عموماً مئات المبتعثين إلى الديار المقدّسة، و(جملة منهم) لا وظيفة لهم سوى (التكاثر) والتفكّه والتبضّع والاستنابة والعمرة المفردة، بل صار الذهاب السنوي إلى الحجّ سمة الفضل والمقام في الحوزة العلميّة، حتّى وإن أدّى ذلك إلى تعطيل الدروس وترك الواجبات الوطنيّة والدينيّة الأخرى؛ فالحجّ في بعثة المرجعيّة أقوى ملاكاً من الدرس والتدريس ومن كلّ شيء آخر... وهكذا تُلزم بعثة الحجّ الحكوميّة وفقاً لعامّ حوزويّ فوقاني بتخصيص مئات المقاعد السنويّة من حصّة الحجاج المساكين إلى مكاتب جميع المرجعيّات الدينيّة، سواء أ كانت هذه المرجعيّات من الطبقة الأولى أم من الطبقة العاشرة، وسواء أكان في الحجّاج من يقلّدونها أم لا، وإذا ما تمنّعت عن ذلك أو ماطلت فتلك جريمة لا تغتفر... نسأل الله أن يقيّض للحوزة رجالاً ينظّموا أمور بعثاتها وفقاً لاحتياجات الحجّاج الواقعيّة والحقيقيّة، وبعيداً عن سياسة التبشير والدعايات، ويعيدوا هذه السنّة الحسنة إلى نصابها الصحيح، والله من وراء القصد.

 

إيضاحان ضروريّان:

الأوّل: وصفنا السيّد محمود الشاهرودي بالكبير للاحتراز من تداخل اسمه مع السيّد محمود الهاشمي الشاهرودي، الفقيه والمرجع المعاصر، لذا وجب التنويه.

الثاني: لستُ ضدّ وجود مرشدين في عموم حملات الحجّ السنويّة؛ فهذا الأمر ضروريّ جدّاً لتعليم الناس مناسكهم وشعائرهم، ولكنّ بعثات الحجّ التي تُرسلها مكاتب المرجعيّات الدينيّة شيء مستقلّ ليس له علاقة بذلك، لا ماليّاً، ولا رقابيّاً، ولا مقاعديّاً، وهذا الأمر يعرفه كلّ طالب حوزة مبتدئ، وإنّما ذكرناه لكي لا يخلط بعض الأخوة الأوراق على المتابعين.

 

ميثاق العسر.

...............

لمشاهدة بعض الوثائق أسلك الرابط التالي:https://m.facebook.com/story.php?story_fbid=880252078763784&id=100003369991996

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم