صحيفة المثقف

نص: "تاريخ الماء والنساء" بين التجربة والتمرد

wejdan abdulazizمن النصوص التي تدفع المتلقي أن يعيش إشكالية التجربة النقدية التي عايشت نصوصا مجنسة تماوجت بين ما هو سردي والآخر شعري، وأحيانا عبور الأول إلى الثاني أو بالعكس، ورغم هذا نتلمس انساقا واضحة المعالم، ممكن التعامل معها حسب الرؤية التقليدية السياقية، إلا أن انفتاح النص الحديث على الرؤى الحياتية بوعي جمالي، تطلب منا الوقوف بحذر وبأكثر من قراءة، وقد لا نصل إلى المبتغى المطلوب، (فالنص ـ الآن ـ كائن يحيا ويعيش متأثرا بظروف الزمان والمكان أسوة بالشاعر /منشئ النص، الأمر الذي افرز فكرة شعرية جديدة تصل حد التطابق مع ما نعرفه عن التجربة الصوفية، فالمعرفة عند المتصوفة معاناة معاشة، بمعنى إن الصوفي يحيا ويمارس أفكاره إلى الدرجة التي فيها "الذات" محورا للمعرفة ..) 1، مما نجد هناك في نص (تاريخ الماء والنساء) حياة متحولة اختلطت فيها تجربة الشاعر أمير ناصر التي تبلورت عبر عقود من السنين وخلجات الشاعر الشاب عمار كشيش الذي حمل روحا متمردة على ما هو مألوف وسياقي، لهذا تفاعلت الرؤى فكريا، مع صراعي ذاتي منفرد احيانا وثنائي اخرى، مما أعطى للنص انفتاحا موضوعيا يتطابق نوعا ما مع تسميته بالنص المفتوح، حيث شخص الناقد عبد الله الغذامي ثلاث حالات بقوله (تعودنا ـ نظريا ـ على تقسيم حالات تلقي النص إلى حالتين، هما: حالة الإقناع، وحالة الانفعال، ولكن يبدو ـ اليوم ـ وكأننا في مواجهة مع معادلات تلزم منا إعادة تصنيف حالات التلقي لدينا وهي حالات أراها أصبحت ثلاثا .)2، وشخص الأولى بحالة الإقناع ذي التوصيل العقلي، والثانية بحالة الانفعال وتعتمد على التعبير الذاتي المرتكز على الحس الوجداني المباشر الذي ينشأ عنه انفعال تلقائي، وكان ميلنا اعتماد الحالة الثالثة، وهي "الانفعال العقلي" وكما أسلف الناقد الغذامي : انها تضمن للنص الشرط الجمالي وتعني الخلط بين الوظائف العضوية للإنسان، أي الحسية والعقلية بمعنى ترويض العقل ليكون إنسانيا، بمقابل ترقية العاطفة لتكون انتظامية ومهذبة، وحينما نمعن في قراءة نص الشاعرين نلاحظ اختلاط آخر، تمثل باختلاط السردية مع شاعرية النص بنكهة المحاولة الواعية والجادة منهما في إثراء النص بالكامل بالمعرفية والتناصات المتتالية مع المدينة وتاريخها ومع المرأة ككيان حي يتنفس الحياة في أجواء عطاءات النهر والماء، (وبذا فان الشعر هنا ليس فعلا تدوينيا كما ان كتابة قصيدة لاتعني إضافة مؤلف إلى رف من رفوف المكتبة، بل هو نوع من المكابدة اليومية التي يواجهها الشاعر عبر معراجه الذي نسميه النص، ان هذه الانعطافة التي شهدتها المرحلة الشعرية الجديدة في العراق، والتي أجملناها بالتحول من شعرية المعرفة إلى شعرية التجربة، لم تكن لتحدث لولا توافر عدد من المبررات المشروعة لمثل هذا الانحراف)3،.. إذن ملاحظتنا عن انحراف النص أعلاه موضع دراستنا، هي باجترار التاريخ بطعم الواقع، جعلنا ندل على تحولات النص الشعري المشترك بين أمير ناصر وعمار كشيش، برسم لوحة بعدة زوايا مختلفة، قرأتْ أوجه الوجع والألم والحزن و والأمل والفرح معا سواء في وجه المدينة أو المرأة، و(هذه واحدة من أهم وظائف الشعر حققها لنا الشاعران وهما يشيران إلى طبقات الجمر والرماد التي في الروح مثلما هي تحت آدمة المدينة التي كررت تاريخا قديما من التراجيديا السومرية دون ان تدري، لكن الشاعرين التقطا عناصر هذه التراجيديا وجسداها في نص شعري جديد وجاذب يكاد ينزلق نحو السرد لكنه يأبى ذلك لكي يحتفظ بنبضة الشعر الحارة إلى نهايته) "خزعل الماجدي" وهذه الوظيفة أظهرت نزوع الشعر الجمالي نحو تأسيس عالم من الحلم والتنبؤ بافاق من السمو، وهو بحث يمزج بين الممكن واللاممكن، رغم ان الشعر ضمن منطقة اللاممكن، كما هو ديدنه .. جاء في النص ما يلي : (أصغيت طويلا إلى الماضي عبر اختفاء مدن المياه وتآكل فضائها... رأيت لحظة مخبوءة في الزمان، تأتي وتمضي وتأتي كما لو كانت رؤيا تبحث عن ذاكرة فما كنت احسب ان الأشجار في مدينتي تموت غير إنها ماتت وبعضها أشطأت في جذع منخور، عرفت إن أحزاننا الجميلة وحدها التي لا تزول، وأوراق المخطط التي تهرأت في دار البلدية لا معنى لها فالمدينة تمحو الخطوط وتمحو خطى الحاكم الانكليزي فيها وتمحو في التراب بذور أشجار جوز الهند الوافدة، وتبدأ من نقطة هناك، من المياه القديمة التي تنهمر من احد أكتاف دجلة الوسطى فتغمرها بالخراب او النماء... من كوثي الموصولة في دلمون... وليست المياه القديمة وحدها وانما مشيئة الالهة وبؤس الطائفين في ممالك الماء.... كلما شرعت بتسجيل الارقام والتواريخ والامكنة اجد نفسي مؤرخا خارج الوقائع ففي مدينتي اشجار اشطأت ومعبد يسمونه القصر ونهر اعمى، ونهر آخر بعد ان حفر مجراه الجديد بوسائل حديثة، ومسرح مدرسي ونحات فطري وشاعر مثل جمع من المجانين وخريطة مهملة لمهندس أجنبي...)، من هنا وجدنا ما قاله أدونيس عن القصيدة، من ان : (القصيدة المنفتحة ذات الشكل المنفتح تتضمن مبادهات ومقاربات تغير باستمرار مقاييسنا الشعرية والجمالية : من هنا يعارض الشاعر الجديد الثبات بالتحول، والمحدود باللامحدود، والشكل المنغلق الواحد المنتهي، بالشكل المنفتح الكثير اللانهائي، ويعلن أن الشعر تجاوز حدوده النوعية القديمة، وصار عالما فسيحا من الأوضاع والحالات الروحية والتعبيرية، فيما وراء الحد والنوع، وفيما وراء كل قاعدة وكل تقليد.)4، فـ(الموجود الحقيقي هو الشاعر، وهو القصيدة : وفي تعاقب القصائد وإكمال بعضها بعضا، ما يغير فهم الشعر أو النظر إليه . فالشعر أفق مفتوح . وكل شاعر مبدع يزيد في سعة هذا الأفق . اذ يضيف إليه مسافة جديدة . وكل إبداع هو، في آن، ينبوع وإعادة نظر : إعادة نظر في الماضي وينبوع تقويم جديد. وإذا كنا نعني بالشعر، الشعراء وقصائدهم، فان إدراك معنى القصيدة أساس أول في إدراك معنى الشعر . والقصيدة شكل إيقاعي، واحد أو كثير، ضمن بناء واحد، لكن الشكل الإيقاعي وحده لايجعل بالضرورة من القصيدة أثرا شعريا فلابد من توفر شيء آخر اسميه البعد، أي الرؤيا التي تنقل الينا عبر جسد القصيدة او مادتها او شكلها الإيقاعي . القصائد كشكل إيقاعي لاغير، ليست شعرا، بل مصنوعات شعرية اذ ليس الشعر علما ينميه ويطوره شيئا فشيئا بحاثون وعلماء)4، وهذا الانفتاح احتوى معرفية تشعبت بين التاريخ الموغل في القدم، وبين تاريخ الواقعة العيانية المعاشة التي عايشاها الشاعران، ولربما تلاقحت ذاكرة امير ناصر وذاكرة عمار كشيش بزق الأولى معلوماتية للثانية، وتتلقى الثانية هذا بوعي شحنها باتجاه اثبات موقف بان (الحاجة الى الجوع أسمى من الحاجة إلى الشبع)، فالشاعر أمير ناصر يقول : (علمني سعد الصفار أن أحسن قراءة المدن، وعلمني أن انتقي جملي، وعلمني أن أكون وحيدا، قلت في فراقه الأول :

تذكرتك ليلة البارحة

وأسرجت ذاكرتي للقاء

وهيأت صحبي وهيأت صحبك

وكأسا لي وكأسا لك

وأخرى للذين رفعنا لهم صورا

ع الجدار الأمين

وصوت المغني الشجي الأنين

(كرام الحي متى عيني تراكم)

وخامسة لي ...

وتتوحد الرؤى بين الشاعرين بدلالة النص : (لست أمير أو عمار، بدافع الشهامة اكتب نيابة عنهما)، ثم يتصاعد الصراع والقلق في هذه الرؤى الممتزجة في النص، وكأني بهما يصارحا بعضيهما بعبارة : (النص كون مجنح لماذا تقيده بهذه العبارة)، (النص نهر أو شجرة في الأرض، على حائط المعرض فواحة) ...

لتكون المعادلة أمير + عمار = النص، لكن النص بدى ممتلئا بالشعر والسرد، مثلا عبارة: (الماء يضحك في النهر مثل السماء، كلما نرميه بحجر يبصق في وجوهنا / الشجرة أرملة مهملة يتساقط ثمار بكاؤها)، وفي قمة نشوة القراءة أتذكر ما قاله الأستاذ الدكتور محمد صابر عبيد : (فاذا كان تعدد المناهج النقدية دليلا حيا على خصوبة العقل الإنساني وفاعليته ورفضه السكونية والثبات والكسل والقناعات النهائية، فانه في الوقت ذاته دليل تمدد وانفتاح وخصب الحقل الأدبي الذي تشتغل فيه تلك المناهج، وما تطلع في أرضه من ثمرات جديدة ومغرية ومثيرة وما يجري على الأنواع من تجدد وتحديث)5، وهذا مانراه حاصلا في نص (تاريخ الماء والنساء) للشاعرين أمير ناصر وعمار كشيش تاركين الباب مفتوحا لقراءات أخرى، قد تجد ما لا وجدناه هنا ..

 

وجدان عبدالعزيز

.......................

مصادر البحث

1 ـ كتاب (تحولات النص الجديد) جمال جاسم أمين /دار الشؤون الثقافية العامة /الموسوعة الثقافية رقم 95 الطبعة الأولى ـ بغداد ـ2010م ص57

2 ـ كتاب (تشريح النص) عبدالله الغذامي / المركز الثقافي العربي الطبعة الثانية 2006م ص51

3 ـ تحولات النص ص59

4 ـ كتاب (مقدمة للشعر العربي) ادونيس / دار الساقي / بيروت ـ لبنان / طبعة منقحة 2009 م ص96 وص98

5 ـ كتاب (تمظهرات القصيدة الجديدة) أ.د.محمد صابر عبيد عالم الكتب الحديث ـ اربد ـ الاردن الطبعة الاولى 2013 م ص

6 ـ نص (تاريخ الماء والنساء) للشاعرين امير ناصر وعمار كشيش /دار ميزوبوتوميا / بغداد شارع المتنبي / الطبعة الاولى 2013م

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم