صحيفة المثقف

الفارسيّة مفتاح الاجتهاد في الحوزة النجفيّة

يُقلقُ المتابعين للشأن الحوزويّ سؤالٌ يسعى بعضُ المستأكلين إلى لفلفته وتمييعه، ترى ما هي العلّةُ التي لم يوفّقْ إثرها (أغلبُ) العراقيّين من ركوبِ صراطِ الاجتهادِ والمرجعيّةِ في مطلعِ وأواسط القرنِ المنصرم، مع أنّ مركزَ الحوزةِ العلميّةِ (حينها) هو: محافظةُ النجفِ العراقيّة، لكن المفارقةَ التي نلحظها: ما أن يذهب العراقيّ إلى الحوزةِ، وتفرح أسرتهُ وعشيرتهُ بذلك؛ حتّى يعود بعد شهورٍ قليلةٍ؛ ليصبح (ملّا) لقراءة التعزية، أو (وكيلاً) لجبايةِ الأموالِ إلى موكّليه!!

للإجابةِ على هذا السؤال المُقلقِ: سأترك المجال إلى أثنينِ من أساتذةِ الحوزةِ العلميّةِ الإيرانيين المنصفين، والذينَ عاصروا تلكَ الفترةِ، ودرسوا في حوزةِ النجفِ على يدِ كبارِ أساتذتها، الأوّل هو: السيّدُ أحمد المدديّ، من طلّابِ (المغمور) السيّد البجنوردي والخوئي، ومّمن يحترمه ويجلّه السيّدُ السيستانيّ كثيراً (1)، والثاني هو: السيُّد علي أكبر الحائري [شقيقُ المرجع الحائري]، من طلّابِ السيّدِ محمد باقر الصدر والخوئي أيضاً، وسأستقي إجابتَهما من حوارٍ مفصّلٍ أجرته معهما مجلّةُ: "پژوهش و حوزه" الفارسيّة، في شتاءِ عام: (2004م)، وفي العددِ: (16) تحديداً، وقد حمل الحواران معلومات هامّة، أتمنّى أن أوفّقَ للتعرّض لها لاحقاً، لكن ما يهمّني منهُ حاليّاً هو إجابةُ السؤالِ الذي صدّرتُ به المقال.

قال السيّدُ المدديّ ما ترجمته: «لقد كان الغالبُ في الحوزةِ إلى ما قبل السيّد محسن الحكيم والشهيد محمد باقر الصدر هو النزعةُ غير العربيّةِ، إلّا ما يقرأه بعض قرّاء التعزيةِ الذين كانوا يأتون من القرى والأريافِ، ويتميّزون بعمامةٍ خاصّةٍ بهم، كنّا نعرفهم بها، وكانوا بعد دورةٍ مختصرةٍ يرجعون ويمارسون القراءة والتبليغ في شهر محرّم، ويكتفون بقراءةِ بعضِ المبادئِ، وكانوا قد يخرجون أحياناً لجمع الزكاة إلى خارجِ النجف» (2).

أمّا السيّدُ علي أكبر الحائري فقد عزا الهوّةَ التي خُلقت بين الحوزةِ والأمّةِ في هذا البلد العربي [على حدّ تعبيره] إلى تركيبةِ الحوزةِ الفارسيّةِ، مُعبّراً عن غصّتهِ ببيانٍ أصرحٍ ليقول: «... لقد كانت الصبغةُ العامّة لحوزةِ النجفِ قبل أواخرِ مرجعيّةِ السيّد الحكيم (فارسيّة)؛ فدروسُ المراجعِ تُلقى بالفارسيّة، والحضورُ ينطقون الفارسيّةِ، سواء كانوا من إيران أو أفغانستان أو باكستان؛ ولذا كانت محافظات العراق محرومةً من فوائدِ التبليغِ والإرشادِ بسبب هذه الحالة، مع أن ظاهرةً التبليغِ ظاهرةٌ ضروريّةٌ كما نلاحظها في الحوزةِ العلميّةِ في مدينةِ قم؛ حيث ينتشرُ الطلّابُ في كافّةِ المحافظاتِ الإيرانيّةِ في موسمِ التبليغ».

لكن الحائريّ [الأخ] عاد ليستدرك قائلاً: «لم يكن (جميعُ) المراجعِ الذين كانوا قبل الشهيدِ الصدرِ يلقون دروسَهم بالّلغةِ الفارسيّةِ؛ فالسيّدُ الخوئيّ ـ مثلاً ـ كان درسُه بالعربيّةِ المشوبةِ بالّلهجةِ التركيّةِ، حتّى أنّي في أوائل حضوري في درسه لم أكنْ أتفهّمُ ما يقولُه بشكلٍ كاملٍ، إلى أن اعتدتُ بعدَ مدّةٍ على بيانه وطريقةِ إلقاءهِ، وأمّا غيرهُ من المراجعِ كالسيّد محمود الشاهرودي [الكبير] والإمام الخميني والسيّد الزنجاني والشيخ حسين الحُلّي كانوا يحاضرونَ دروسَهم بالفارسيّةِ...»(3).

أجل؛ حتّى الشيخ حسين الحُلّي المتوفّى سنة: (1974م)، والذي هو من عشائر آل طُفيل، أخذَ يُعطي دروسَه بالّلغةِ الفارسيّةِ المكسرّةِ؛ لأنّ عمومَ طّلابِ النجف في مرحلة البحث الخارج كانوا إمّا من الناطقين بالّلغة الفارسيّة كالسيّد السيستاني، أو من متعلميها في بيوتهم النجفيّة، أضف إلى ذلك فإن حضور الحليّ عند النائيني بالّلغة الفارسيّة سهّل عمليّة تدريسه بنفس الّلغة أيضاً، ومن هنا فلا مندوحة للأستاذِ الذي يريد لدرسه التوسّع ولأفكاره الازدهار من التدريس بهذه الّلغة،  مع أنّي واثقٌ ـ ولي في وثوقي ما يبرّره ـ إنّه لو اقتصر على الّلغةِ العربيّةِ في دروسهِ، وربّى جيلاً من أبناءِ جلدتهِ، لما وصل الحالُ بهِ إلى ما وصلَ إليهِ في أُخريات حياته، وما بعد حياته أيضاً، وسنخصّص مقالةً لذلك لاحقاً.

• ومن هنا تعرفُ السببَ الذي دعانا إلى التشكيك بإجازات الاجتهاد التي منحها المراجع الذين كانت دروسهم بالّلغة الفارسيّة، لبعض طلّابهم العرب المنحدرين من بيئة عشائريّة جنوبيّة؛ فالطالب ُالذي ولدَ وترعرعَ في النجفِ في تلك الفترة يمكن له تعلّم الفارسيّة ببساطةٍ في ظلّ ذلك الجو الفارسي الغالب على النجفِ وكربلاءِ، خصوصاً في داخل الأسُر العلمائيّة، فيتمكّن حينئذٍ من حضورِ دروس المراجعِ والاستفادةِ منها، أمّا من ولد في الناصريةِ وترعرعَ فيها، فكيف يمكن له تعلّم الّلغة الفارسيّة التخصّصيّة في هذه السنوات البسيطة؟!(4).

• ومن هنا تعرفُ أيضاً أحدَ الأسبابِ التي أخفقَ فيها طلّابُ الحوزةِ العراقيين من الاستمرارِ في دراستِهم الحوزويّةِ، وتطويرِ قابليّاتهم في تلك الفترة الزمنيّة؛ «وذلك لأنّ طلابَ الحوزةِ غير العراقيين لم يكونوا بصددِ التبليغِ لعدمِ إلمامهم بالنطقِ بالعربيّة، فلم يكن لهم هدفٌ سوى الدرسِ والوصولِ إلى مرتبةِ الاجتهادِ، وأمّا طلّابُ الحوزةِ العراقيين فحيث إنّه يمكنهم ممارسة التبليغ في بلدهم؛ فإنّهم سرعان ما يذهبون من النجف إلى مُدنِهم للإرشاد والتبليغ» (5)، وبذلك يوضعُ حاجزٌ قهريّ لغويّ أمام نموّ الشريحة العربيّة من طلّاب الحوزة، فيضطرونَ إلى العودةِ إلى مناطقِهم... .

سنتوقّف في الحلقةِ القادمةِ على المعالجات التي سعت إليها مرجعيّةُ السيّدِ محسن الحكيم وحزبُ الدعوةِ الإسلاميّة [السابق] بغية ردمِ هذه الهوّة، [يُتبع].

 

 

.......................

الهوامش:

(1) حضرَ المدديُّ ما يقرب من سنتين عند السيّد السيستاني أيضاً، وهو من أساتذة نجله: محمد رضا السيستاني.

(2) مجلّة: "پژوهش و حوزه" الفارسيّة، العدد (16)، ص 50.

(3) المصدر السابق، ص 65ـ 67.

(4) راجع مقالي السابق: إجازات السيّد الشاهرودي الكبير.

(5) مجلّة: "پژوهش وحوزه" الفارسيّة، مصدر سابق، ص 50.

 

https://m.facebook.com/story.php?story_fbid=887196791402646&id=100003369991996الفارسيّة مفتاح 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم