صحيفة المثقف

أسئلة الرواية الاماراتية.. دراسة لخمس روايات اماراتية (2)

1- أميرة حي الجبل .. لعلي احمد الحميري

2- إمرأة استثنائية لعلي ابو الريش

3- لعله انت .. لباسمة يونس

4- بين حين واخر .. للميس فارس المرزوقي

5- ريحانة .. ميسون صقر القاسمي

 

2/12 أميرة الجبل .. لعلي أحمدالحميري

 أسئلة الرواية: هناك ثلاثة اسئلة رئيسة طرحتها الرواية:

1- سؤال الهوية

2- سؤال السرد

3- سؤال الثقافة

أولا: سؤال الهوية

من الجلي انه في ظل الصراعات التي تفرزها التحولات الاقتصادية والسياسية، يصبح موضوع الهوية (الانتماء) مسألة بالغة الاهمية، إن على النطاق الفردي أو الوطني، وأجد أنه من الطبيعي أن تهتم الأعمال السردية المعاصرة للروائيين الاماراتيين بالتركيز على الهوية في عالم ما بعد الطفرة الاقتصادية في الداخل وعصر المعلوماتية والتقنيات المتسارعة التي انتجت الحداثة الجديدة، للحفاظ على معالم الشخصية الإماراتية وعدم الوقوع تحت مسارات مسح الذاكرة الجمعية للمجتمع .

ولكن ماهي الهوية؟

يذكر قاموس المعاني أن هوية الإنسان هي حقيقته المطلقة وصفاته الجوهرية كبطاقة الهوية مثلا التي تحمل اسم الشخص وتاريخ ميلاده وعمله ومكان إقامته في بلده.

يرى دول لاشولييه إن الهوية هي طبع وذاكرة الشخص ولكنا نأخذ هنا بمفهوم الهوية، نحن بكل ما نحمله من تاريخ وثقافة ولغة ودين مقابل الاخرين، وما نعنيه بالاخرين: أن وجود الاخرين هو الذي يحقق (نحن) ومعرفتنا بهويتنا لابد أن يمر بمعرفة الاخرين لهويتهم، والوجود الانساني، هو في الاساس علاقات بين نحن وهم، من هنا تتمايز المجموعات البشرية .

فالهوية الوطنية او الاجتماعية تعني الرابط المشترك بين ابناء ذلك الوطن او المجتمع والذي يقوم على الموروث التاريخي المشترك واللغة، وقد عملت المجموعات البشرية على ان تضع حدودا لهويتها لتمييزها عن الاخرين، وهذا يعني بداهة ان الهوية هي حدود متقابلة، بمعنى ان الهوية تتحقق بوجود هوية مغايرة وهذا ما نسميه اليوم (الآخر )، وقد عانت البشرية الكثير من الحروب والمآسي بسبب الهوية من حيث نفي الاخر وعدم الاعتراف به إلّا كتابع

ولكن تطور المفاهيم السياسية والايدولوجية وانتشار الوعي العام جعلا من الاخر، وجودا قابلا للتعايش معه على اساس القبول والاحترام المتبادلين، وجعل من العلاقات مع الاخر وسيلة لبناء مصالح مشتركة في العيش وفي بناء مجتمعات حضارية تهدف الى الرفاهية

لقد أكدت رواية علي الحميري على سؤال الهوية على مستويين

المستوى الاول: هو المستوى الدلالي، والذي تمثل في سلوك بطل الرواية محمد، والذي تميز بشخصية متوازنة وهادئه وتملك رصيدا اخلاقيا (علاقته بصفية ورفضه الهروب معها)، وهذا السلوك هو من مميزات من تربى في ظل قيم عشائرية راسخة ومتوارثة

والمستوى الثاني :هو المستوى المباشر، كحديث محمد عن آرائه في النظام الاشتراكي، وكذلك عمله مع المنظمات السرية الوطنية، ومشاركته في العمل المسلح ضد الاحتلال، رغم ان هذا الجانب لم يعالجه المؤلف بعمق، كما انه (منع) محمد اثناء وجوده في بيت ابو عزيز، متخفيا، أن يحاول تقديم العون للقوات الوطنية، فضلا عن انه لم يقدم لنا ما يفيد أ ن (محمد) سيتابع عمله النضالي بعد ان تم اختياره أميرا لتحالف القبائل، وارتبط رسميا بصفية.

ورغم ذلك فإن كلا المستويين يقودان الى ذات النتيجة، وهي ان مجتمع الرواية يحمل هوية اسلامية عربية وفكرا قوميا

 

سؤال السرد

ينطوي السرد على عنصرين رئيسين: الاول ملحمي من شأنه أن يستوعب المتغيرات بوتيرتها المتصاعدة، موثقاً حراك المجتمعات، وتشكّل القيم الجديدة فيها ورصد نبض ثقافتها وفكرها وتعقب آثار الأزمات والفجائع والإنتكاسات والتطورات والتصدعات وإنهيار العوازل والحدود بين الدول المختلفة .

 والآخر درامي ينطوي على حرارة الصراعات وتشقق الذات المأزومة، والإنهيارات المتتابعة أمام الصدمات العنيفة المباغتة، وترصد حالة الفوضى والتأزم الناجمة عن التحديات التي تواجه المجتمعات والأفراد، فالسرد فضاء متسع رحب، وجمالياته غير قابلة للقولبة والتقعيد، بل مفتوحة على أفق التجريب، وهو ساحة تلتقي في رحابها الأنواع الأدبية كلها، بل وغير الأدبية أيضاً كالتقنيات السينمائية والفنون التشكيلية متصالحة مع المسألة الإجناسية، تفض إشكالات النوع وتتصالح مع الفنون وتستضيفها دون حساسية أو تبعات عاصفة.

 

 

ولكن ما هو السرد؟

يعرفه جان ريكاردو بعد ان يجعله مرادفا للشكل بقوله "من الواضح ان السرد هو طريقة القصص الروائي، وان القصة هي ما يروى، وهما يحددان وجهي اللغة".) فالقصة هنا هي مادة السرد الأساس عنده والسرد هو الصياغة الشكلية اللغوية التي تعرض لهذه المادة من المؤلف

والسردهو الطريقة التي يقدم بها الكاتب روايته لحدث ما، وما تخضع له من مؤثرات، بعضها متعلق بالراوي والمروي له، والبعض الآخر متعلق بالرواية ذاتها، والحديث هنا لايتحدد فقط بمضمونه، ولكن أيضا بالشكل أو الطريقة التي يقدم لها المضمون، وهذا معنى قول كيزر (إن الرواية لاتكون مميزة فقط بمادتها ولكن أيضا بواسطة هذه الخاصية الأساسية المتمثلة في أن يكون لها شكل ما، بمعنى أن يكون لها بداية ووسط ونهاية)

ويميز الشكلاني الروسي (توماتشفسكى) بين نمطين من السرد: سرد موضوعي و سرد ذاتي

نظام السرد الموضوعي: يكون السارد مطلعا على كل شيء حتى الأفكار السرية للأبطال وفي هذا النوع يكون الراوي محايدا فهو لا يتدخل ليفسر الأحداث، وإنما يصفها وصفا محايدا كما يراها.ونموذج هذا الأسلوب هو الروايات الواقعية

وفي السرد الذاتي لا تقدم الأحداث إلا من زاوية نظر الراوي فهو يخبر بها ويعطيها تأويلا معينا يفرضه على القارئ .ونموذج هذا الأسلوب هو الروايات الرومانسية .

أما عند افلاطون، فأنه الخبر من حيث زمن وقوعه "الماضي، الحاضر، المستقبل "

ولا يمكن اختصار السرد بالرواية ذلك لأن السرد أكثر عمومية، على الرغم من ان الرواية تمثل الجوهر في هذا السرد، فانها تفترض في هذا السياق اشتراطات أدبية، تاريخية وفنية

واليوم فان السرد (لا يحصر مجال درسه وموضوعه بلون من ألوان الأدب، بل إن دلالة دارسه (السرد) قد اتسعت لتشمل فن الرواية والقصة القصيرة، والحكايات الشعبية والأساطير، والأحلام والأفلام والدعايات والخطابات السياسية والمسرحيات والبانتوميم وكذلك الموسيقى والرقص وفن الرسم والأخبار اليومية)

ان سؤال السرد هنا : هل استطاع المتلقي ترتيب أحداث الرواية التي قدمها علي الحميري على لسان السارد علي محسن، ترتيباً مقنعاً كما يريد صانع السرد.

 مما لاشك فيه ان المؤلف، وعلى لسان السارد استطاع ان يقدم للقارئ (المتلقي) ما يمكنه من متابعة بناء خط مسار الرواية على نحو تراتبي وان كان يتصف في بعض الفصول بالتعاقب البطيئ، ولكن لاننسى انه لم يسمح للمتلقي بالمشاركة الفعالة، في عملية البناء، كما اسلفنا، ليخرج بالنص الى عاام التأويل والدلالة

ان السرد في الرواية كان على (مقاربة) باشتراطات العمل السردي وان يك قد تضمن بعض الصفحات التي لاعلاقة لها بالسرد وعلى وجه الخصوص حديث محمد عن راس المال والنظام الاشتراكي، فالحديث هنا كان مباشرا ويمكن تصنيفه تحت مصطلح الايدلوجي

كما يتضح من حركة شخصيات الرواية في عملية السرد ان السارد لم يكن غير المؤلف نفسه بدلالة (تقويل السارد) لشخصيات الرواية كلاما بعيدا عن قدراتهم الادراكية، وهذا يكشف ايضا عن هيمنة المؤلف المطلقة، والمؤلف هنا يضع قناعا للتمويه وتفادي المسؤولية التي قد يورطه بها احد الشخصيات، وكأن المؤلف هنا يحيلنا الى تجربة شخصية

كما نلحظ ندرة التنويعات في السرد، التي تعتمد على التباين والتعدد والأختلاف في الجوانب الأيديولوجية والنفسية والاجتماعية، فقد كان يجري على وتيرة ذات نغم ثابت، لا تشتمل على تباين لغوي، أي اساليب لغوية متنوعة، ولهجات اجتماعية واقليمية.

ورغم اني اجتهدت كثيرا في متابعة زمن الرواية والذي لم استدل عليه الا في الصفحة 294 ولكني اجد العذر للمؤلف والسارد في انهما منذ الصفحات الاولى ربطا زمن الحدث ببطل الرواية

 وفي حديث للمؤلف مع صحيفة الاتحاد، قال الحميري عن زمن روايته (يعود زمن الرواية إلى الخمسينات من القرن الماضي وبداية الستينات، مع بداية التفتح العربي على التغيير الاجتماعي الذي حدث مع انتهاء مرحلة الاستعمار واغتصاب فلسطين وما رافقه من نشأة للأفكار القومية العربية وظهور الأحزاب السياسية في المنطقة العربية، عندما كانت انشغالات الناس تنصب في هذا الإطار).

وربما تأثر المؤلف في استخدامه للزمن، بما عرضة د.عبد الملك مرتاض حول الزمن المتعاقب، وهذا الزمن دائري لا طولي، ولعله يدور حول نفسه، وعلى الرغم من أنه قد يبدو خارجه طولياً فإنه في حقيقته، دائري مغلق مثل زمن الفصول الاربعة التي تجعل الزمن والتحولات في النص في مظاهر متشابهة أو متفقة ومثل هذا الزمن في تصورنا لايتقدم ولايتاخر . وانما يدور حول نفسه.

اما بالنسبة للغة السرد فقد كانت، من حيث بنائها، متماسكة وتخلو من الهنات، ولكن ما يمكن تأشيره أنها لم تتضمن الكثير من دلالات سؤال السرد على المستوى الثقافي اود ابتداء ان اوضح ما المقصود بالمستوى الثقافي، وهل هو في مستوى النص السردي، اي بنيته اللغوية والاسلوبية ومجاراته للاساليب السردية الحديثة، أم في تمكّن المؤلف من النص السردي؟، من التقاط المتغيرات الثقافية، سواء في إنتاجها أو التفاعل معها وإعادة بثها من جديد وبطريقة فنية. ومسألة تداخل الثقافي مع السردي تنبع من إشكالية طرح خطابين مختلفين في الرؤى والأهداف والمقاصد والبنى السردية و الثقافة (هنا) لا تهدف إلى البعد التراكمي فقط في تناول السرد لهذا الالتقاط، لأن الثقافة حصيلة معرفية، والسرد الروائي يشتغل على دمجها بالواقع الحياتي والمعرفي من دون إثقال السرد بكم المعلومات. فالرواية بطابعها الحواري قادرة على التمثيل الثقافي، لكن ضمن قدرات واعية تحفظ للنص السردي توهجه الحكائي بما يتناسب ورؤية المؤلِّف والسياق الثقافي، ولا تقتصر الفاعلية التمثيلية للنص الروائي على المرجعيات السردية، بل تنفتح على حقول معرفية ثقافية واجتماعية وأخلاقية ودينية وسياسية واقتصادية وتعليمية مما يفسح المجال للتمثيل الثقافي عبر النوع السردي، ومثل هذا العمل يتطلب ملكات وإمكانيات تقنية عالية من المؤلف .

والسؤال هنا، هل استطاع المؤلف علي الحميري، ان يجعل من عرضه السردي الذي جمع بين الحكاية والسرد الروائي، وبين الواقع والمتخيل، في استعراض الاحداث والشخصيات، بالمستوى المطلوب؟

نعود ثانية الى الرواية للوقوف على المعطيات اعلاه

1- لقد اجتهدت الرواية لتقدم لنا المشهد الثقافي في خمسينيات القرن الماضي في واحدة من امارات ساحل عمان المتصالحة

في الصفحة 14 يصف السارد (حياة الحي الساكن الصامت، الذي لا ترى فيه بعد صلاة العشاء، او الصلاة الاخيرة، كما يصفها كبارنا حركة او تسمع صوتا فتبقى قناديلنا الضئيلة مضاءة الى وقت متاخر من الليل، فيلتئم الرجال في احد نواديهم المعروفة، كبيت العم بو باشا، أو فناء العم محمد حسن، أو عريشة الخال بخيت بن فضل، تلك كانت ابرز منتديتهم، اقصد كبارنا، يكادالسمر يكون فيها تناوبا يتبادلون الاخبار ويناقشون الاسعار ويتدبرون امور الحي) .

أما الشباب وكبار صبية الحي، فلهم منتدياتهم الخاصة، أكثر من واحد، ثلاثة او أربعة، غير ان أبرزها، وأقربها الى قلوب الجميع، والذي يستقبلهم في أي وقت، فحانوت بكر بن عامر، ذلك الراوية العظيم والفنان المبدع اللبق المرح، طيب القلب والذي يقنعك بالإصغاء اليه، عندما ينشر اخباره وحكاياته وملاحاته، رغم علمك المسبق بأن كل ما يقوله غير صحيح، وأن جلّه خيال، بل قد تطلب منه سرد موضوع سبق لك أنت نفسك أن أخبرته به، يغريك بذلك اسلوبه الجذاب في السرد.............)

إن الروائي علي الحميري يوكد بوضوح ان هذه المنتديات، فضلا عن حكايات الجدّات، هي مصدر كتابته الروائية والقصصية، بمعني ان ما يحكى هو الثقافة السائدة آنذاك وهي مرجعه التي صب ما سمعه في منتدياتها بقالب روائي في معرض (العين تقرأ 2014) وفي مقابلة خاصة قال الحميري:

(اذا اعتبرنا الكتابة والحكاية أو القصة ضرباً من ضروب المعرفة، فالمعرفة تأتي مما نسمع ونرى ونقرأ، ففي صغري، سمعت الحكاية التي عشقتها فيما بعد، وعندما نستمع إلى حكايات الجدات فهن يعلمننا ثلاثة أشياء، هي الإيمان والمحبة والجمال، وعندما كانت أمي أو جدتي ترويان القصص، كنت أجلس عند النافذة حتى أنظر إلى القمر لأتخيل الصور التي تتحدثان عنها، وعشقت الحكايات، والعشق مهم جداً ليس للكاتب فقط، بل لكل من يريد أن يكون متميزاً، لقد فقدنا الإبداع عندما لم نعد نعشق)،

2- من المتعارف عليه ان الثقافة تعني: الكل المركب الذي يتضمن المعارف والعقائد والفنون والأخلاق والقوانين والعادات وانماط السلوك

وفي جزئية العادات والسلوك، كان سؤال السرد الذي قدمه علي أحمد الحميري، قد تناول موضوعين:

الاول :سلوك الطبقة الفقيرة في الزقاق في مقابل سلوك طبقة الاثرياء الجدد الذين احتلوا مساكن الفقراء بالتحايل والتخويف والاغراء، وقد سبق ان كشفنا عن هذا الجانب في متن البحث

الثاني :وهو سلوك ابناء العشائر سواء في طبيعة تعلقهم بالارض او في توجههم عاطفيا وعمليا لتأكيد انتمائهم القومي، وإن يكن هذا الجانب قد تم طرحه بشيء من المباشرة في عملية السرد

3- كشف الروائي علي الحميري عن الوضع التعليمي الذي كان سائدا زمن الرواية والذي لم يزد عن الدراسة الثانوية، ومن جهة ثانية كشف عن تعلق المواطنين بالتعليم، فمحمد (بطل الرواية) بسبب عدم توفر الكفاية من المدرسين في الثانوية لديهم، فضلا عن الخطر الذي يهدده بسبب ملاحقته من قبل السلطات حينها، عمل خادما ليواصل دراسته وليبتعد عن اعين السلطات التي تلاحقه لعمله في جمعية سياسية سرية (الصفحة 287)

4- ما يمكن ان يشكل تساؤلا هو اغفال المؤلف لتفاصيل التركيبة الاجتماعية في فضاء الرواية، لقد تحدث عن نمطين من التركيبة الاجتماعية، الفقراء في الزقاق الكبير وسكان العشاش يقابلهم سكان القصر من الاثرياء، في حين ان سنوات الخمسينيات من القرن الماضي كانت تتضمن شريحة اخرى موجودة بقوة في المجتمع وهي طبقة العبيد، حيث كانت تجارة الرق متعارف عليها وهي شائعة، ولكن المؤلف تجاهل هذه الشريحة في معرض حديثه عن سكان القصر واستعاض عنهم بخدم (أحرار) يجيئون ويذهبون .

وأخيرا، لابد من القول ان الرواية انجزت مهمتها (بحدود) في تحويل التراكم المعرفي المخزون في الذاكرة الى واقع مثبت على الورق لمرحلة تاريخية مهمة في مسيرة دولة الامارات العربية المتحدة . مرحلة سبقت تكوين الدولة المدنية الحديثة، وهي مرحلة مهمة من ناحية السياقات التاريخية وما تحفل به من مبررات تقود الى هذا البناء الحضاري الجديد.

ورغم أن السرد في رواية علي الحميري لم يهتم بالمكان من حيث التوصيف او التحديد الجغرافي، وترك ذلك لمخيلة المتلقي، فإنه في تقديري، قصد الى عدم التقيد بالانساق السائدة لأن الفن يطرح الدلالات خارج اطرها المالوفة .

ما يطرحه النص، هو ان المكان، أي جزء من هذه الدولة الحديثة، لأنه على العموم، كان فضاء متماثلا في بنيته الاجتماعية، كما ان المكان الجديد الذي انتقل له لم يلعب دورا مركزيا في التغييرات التي تعرضت لها الشخصية المركزية في الرواية عدا وقوعه في حب (صفية) وهي حالة يمكن ان تقع له حتى في قريته .

ويقول الحميري عن (مكان الرواية): تدور الرواية في حيّ بسيط، اسمه حي الجبل من بلادنا، ولا أقصد ببلادنا هنا الإمارات وحدها، بل إن بلادنا هنا هي منطقة الخليج العربي بأكملها، حيث التطابق في طبيعة الحياة الاجتماعية والاقتصادية والثقافية بمعنى ما، أي عندما لم تكن هناك بين الناس حدود أو خنادق».وهذا يعني أن المكان افتراضي عند الحميري وليس مكانا محدد المعالم والمواصفات، وهو ما يسميه النقاد بالمكان المتخيل وهوعند (محمد سويرتي)، المكان الذي لا يحيل على مرجع و لا يشبه الواقع، ولكن المتفق عليه انه يمكن للروائي ان (يتخيل مكان) الحدث الروائي

اما العنصر النسائي في الرواية فهو مدين لظهوره في فضاء الرواية لبطلها، وبالتالي فهو عنصر ملحق لإضفاء التنوع في الشخصيات على الرواية، ويمكننا القول ان المرأة هنا متواجدة في النص لتعكس الملامح الشخصية والنفسية لبطلها محمد .

صفية الشخصية الثانية في الرواية وهي هنا تلعب دور الفاعل الموازي الثاني، كما يسميه الهقادوهو المحرك المركزي لكل الافعال والاحداث (سواء كان ذلك بطريقة مباشرة او غير مباشرة) التي تصدر عن الشخصيات والفواعل ويسميه يقطين ايضاً (الفاعل الأكبر) و(الفاعل الوحيد) فهو يظهر قبل ظهور (الفاعل المركزي)

وفي الرواية وجدنا ان صفية ظهرت وعائلة زوج اختها، في بداية السرد وقبل ظهور محمد .

واقتصر دورصفية، على مشاعر الحب لمحمد، وطوال عملية بناء الرواية لم تساهم بأية مظاهر تعاطف أو اهتمام بالأحداث التي كانت تدور حولها، ففي الصفحة 210 يقول السارد:

اتجهت الى دورة المياه، ثم أدارت أكرة باب ‘حدى الغرف، اشعلت ضوءها واتجهت الى شرفتها الخشبية الكبيرة، المطلة على المدينة الساكنة، خالية الشوارع ...عدا سيارات تمر بها، بين حين وآخر، جلها دوريات لسلطة الغزو تراقب المواطنين المستمرين في رفض وجودها، المؤيدين للمقاومين خفية، يوقف أفرادها العبور بعد الحادية عشر ليلا ... اما سيرة مدينتها العريقة ... عاصمة الشمال، قبل الغزو فكانت سكونا ليليا مريحا ................

ويتابع السارد: وبرغم الساعة التي حددتها سلطات الغزو لمنع التجول، فالثوار متواجدون في كل مكان، يعرفهم أغلب أهل المدينة، ويتحدثون ببهجة عن عملياتهم التي يفاجئون بها سلطة الاحتلال، بين حين وآخر، عدا بعض البيوت المنتفعة من وجود الغزو، كبيت خالها الكبير

لننتبه، ان هذا ما قاله السارد، وليس صفية التي كانت تشعر بالبرد وبالمرض وبالحب، وكل هذا لايصلح ان يكون معادلا موضوعيا لما عرضه السارد، صفية لم تكن ولو جزئيا تحمل بعضا من ذلك المزاج العام المناهض للغزو ولم يمر بخاطرها ان تتساءل عن، من هم اولئك الثوار أو ان تعرض لحديث مع زميلاتها في المدرسة، الاحداث الكبيرة التي كانت تشغل أهل المدينة والتي تقوم بها الحركات السرية التي تعمل على طرد المحتل كانت بعيدة عن ذهنها

كانت صفية اسيرة دائرة الحب التي صنعها المؤلف ولهذا كانت شخصية تابعة لبطل الرواية وتدور في فلكه. ويؤكد ميشيل بورتو " إن الشخصيات التخيلية تبقى مجرد كلمات، وكائنات من ورق، عليها أن تحمل براهينها المقنعة في نفسها، وأن تعيش حتى ولو كانت قد وجدت حقيقة" بمعنى ان الشخصية في الرواية هي جزء من البيئة التي "خلقها "الروائي ولهذا يجب ان تعيش حياتها على هذا الاساس، ونحن نجد صفية وكأن ما يدور حولها لا يمثل اي معنى لها

 الشخصية النسائية المتميزة كانت الشيخة( زينب) زوجة أمير تحالف عشائر المنطقة والمناضل الذي سقط في واحدة من المعارك مع الاحتلال، سالم العمر

يقول السارد في( الصفحة 248 )ان سعد (شقيق صفية) يعرفها منذ عهد الشيخ عبد الله، لما تطّوع وهو، ما زال صبيا لا يتجاوز الخامسة عشرة، بنقلها من المدينة عبر الجبال الموحشة، ليوصلها الى القرية المجهولة.

وفي الصفحة 250 يقول المؤلف على لسان السارد: من يومها، بدأت المهمة التي أعدت الشيخة زينب بكرها لها، عندما انحنت على أبيه في كفنه، تقبّل جبينه، وتعده بان تنتقم له برجالها

بضعة اسطر في الصفحة 248 وسطرين في الصفحة 250، غاية في الاهمية ويقدمان دلالة موحية بعدد من التأويلات التي يمكن أن يتصورها المتلقي متفاعلا مع النص:

1- أن للشيخة زينب دورا مهما في اعداد محمد للقيادة، وهي قد وضعت هذه المهمة نصب عينيها وعملت على تنميتها لديه

2- ان الشيخة زينب كانت في صلب الحدث، وقد تعرضت للهجرة من مدينتها الى قرية مجهولة عبر ممرات جبلية خطره ومعها محمد

3- ان وعدها لزوجها وهو، بعد في كفنه بأنها ستنتقم له برجالها، يعني انها تعرف العدو وانها تعرف السبب الذي دفع بزوجها الى الاستشهاد من أجلة، وانها ستعمل على الانتقام برجالها، مما يعني ان لديها ما نسميه خطة عمل، وانها بالتأكيد ستتعاون مع الحركات المعادية للاحتلال والعاملة في الساحة السياسية.

ولكن يبدو ان للمؤلف رأي آخر، إذ ابعد الشيخة زينب عن فضاء العمل الروائي بالكامل كما ترك موضوع مشاركة التحالف الذي تم التوصل اليه بين القبائل، معلقا، لينتقل الى مشهد جديد حين يكتب عن رحلة عبدالله وفاطمة وعلي محسن الى اوربا، منتقلا –كما يبدو – الى مكان روائي آخر ليبدأ به الجزء الثاني من روايته (أميرة حي الجبل)

ويمكن ان اشير الى ان المؤلف اهتم بالمشهد العام لنضال الحركات السياسية المعادي للاحتلال واعطاها توصيفا شاملا بانها حركات تحمل فكرا قوميا اسلاميا، دون ان يسمح لأي من شخصيات روايته بالعمل المباشر والمحدد ضمن تلك الحركات.

صحيح ان الروائي غير ملزم بالحديث عن التاريخ، ولكن الصحيح أيضا، أن يوظف هذا التاريخ .

 إن جماليات توظيف التاريخ في الرواية، هو الذي يفصل بين النص الادبي والنص التاريخي المجرد، غيرالأدبي.

والرواية المعاصرة تخضع الخطاب التاريخي لسيطرتها، فتقدمه بطريقة جديدة، تتناسب وطبيعة الخطاب الروائي.

ومما يلحظ أن الحميري لم يدخل في تفاصيل الحدث تاريخيا، كما سبق عرضه،

وبدت الرواية اقرب الى العمل الرومانسي، فهي ظلت في معظم صفحات السرد، تدور في اطار علاقة العشق بين صفية ومحمد، ومشاعرهما المواربة او المباشرة.

 

ذياب فهد الطائي

......................

د.محمد صالح الشنطي، اسئلة الفكر وفضاءات السرد، دراسة نظرية وتطبيقية في في الرواية العربية المعاصرة، مؤسسة الوراق للنشر والتوزيع 2013

نظرية الأدب: رينيه ويليك واوستن وارين، ترجمة محيي الدين صبحي، المجلس الأعلى للثقافة والفنون، دمشق، ط 3، د.ت :279- 280.

د.عطية طه، مقدمة في السرد،، مجلة دراسات اجنبية، العدد 15 في ايلول 1981

 د. مهند حمزة حبيب، الشكلانيين الروس ودورهم في تطوير النقد الادبي، مطبعة اليقين، بغداد 2004 ص 49

، د.فؤاد زكريا، جمهورية أفلاطون الهيئة المصرية العامة للكتاب،، 1974ص 267

د، ميجان الرويلي ود.سعيد، البازعي، دليل الناقد الادبي، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء –المغرب ط3 2002 ص 174

صحيفة الاتحاد في 03- 05- 2014

النقد البنيوي والنص الروائي، محمد سويرتي، افريقيا الشرق، المغرب، ج1، 1991 ص 122

 مجلة عيون المقالات، العدد 8 في عام 1987 ص 66، يوري لوتمان، مشكلة المكان الفني، ترجمة سيزا قاسم،

صحيفة الاتحاد في 03- 05- 2014

في نظرية الرواية " بحث في تقنيات السرد "، د . عبد الملك مرتاض، سلسلة عالم المعرفة، ع ( 240 )، الرسالة، الكويت، ط1، 1998ص135

د.عبد المنعم السرحاني، بناء الشخصية في الرواية، مطبعة الامل، بغداد 2004 ص 311

ميشيل بورتو، بحوث في الرواية الجديدة، ترجمة فريد انطونيوس، دار عوينات، بيروت 1982 ص64

د.محمد رياض وتار، توظيف التراث في الرواية العربية المعاصرة، من منشورات اتحاد الكتاب العرب، دمشق 1992 ص 104

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم