صحيفة المثقف

قراءة في رواية د. عبد المالك المومني: خضرا والمجذوب

855-hateefiالعين والجوابي: إذا كانت عبارة "مع سبق الإصرار والترصد" تفيد بأن الفاعل قد أتى فعله عامدا، فإن أخذها بالمعنى الإيجابي مع تحوير بسيط، يجعلها تنطبق على المنجز الروائي الأخير " خضرا والمجذوب" للدكتور عبد المالك المومني، فالرواية كُتبت عن سابق تفكير وتخطيط وتدبر، ولم تخرج إلى النور عفو الخاطر، وهو تفكير وتخطيط وتدبر ليس ابن السنة أو السنتين أو العشر سنوات، بل واكب كل أطوار وتقلبات حياة الكاتب، إنها روايةٌ حلمٌ، روايةُ عمرٍ وروايةُ حياةٍ. روايةٌ نشأت مع طفولة البطل بذرةً وحلما ثم نمت مع شبابه واستوت ناضجة، لتصير واقعا حيا مع عودته إلى مسقط رأسه، بعد أن طوف بأرجاء البلاد وخبر معادن العباد.

855-hateefiولن أجازف إذا أعلنت بأن بذرة " ما سيصير" قد وقعت في قلب البطل وهو بعد طفل، يوم التبس على الوالدة الوقت، فاستعجلته الخروج إلى المدرسة فجرا، ليجد نفسه وحيدا عند عتبة باب القسم؛ هناك بين اليقظة والنوم، أو بين الحقيقة والحلم، ستأخذه مولاة الركادة "لالة خضرا" من يده وتعمده بماء العين، هي وهو، وحدهما فجرا يستحمان في ماء العين27، ومن يومها ستصبح خضرا مولاته وأمته، عاشقته ومعشوقته، من يومها ستكبر فيه البذرة وستكبر معه شجرة الحكاية ثم تزهر وتثمر ليأتي الكاتب ويقطف الثمرة.

إن رواية " خضرا والمجذوب " هي ثمرة لهذه التجربة التي يتماهى فيها الروائي ببطله والحكاية بالعين، والكتابة بسيدة الماء " لالة خضرا".

هي رواية في عشق المكان وترابه ومائه، وفي الوفاء لتاريخه وقيمه وناسه.

ما يؤكد أنها رواية استغرقت عمر بطلها وعمر كاتبها، أنها هي ذاتها تكاد تشبه في بنائها عين الماء وجوابيها.

فإذا كانت العين تغور عميقا في طبقات الأرض لتنصت لنبض الباطن، ثم تفور لتروي الحي بمائها، فإن الكاتب أيضا يغور عميقا في طبقات الأزمنة وفي باطن حياته وحياة بلدته وتاريخها، في الثقافة الشعبية للمكان، وفي الأحاجي والأقوال والقصص والخرافات والأزجال، يصغي للنبض العميق والبعيد ثم يفور ليملأ الجوابي بماء الحكايات والوقائع والأحداث، يملأ الجوابي بالذكريات، بمعاناة الطفولة وقساوة الحياة، يملؤها بالأحزان والمسرات ويملؤها بالتجارب والخبرات. "خضرا والمجذوب" رحيق عمر، وحلم طفل صار كاتبا فأوفى بالعهد.

ـ عين وجوابي ماء، هذه هي خضرا الركادة.

ـ كاتب وفصول رواية، هذا هو مجذوب خضرا.

وتلك جوابيها، " ماء وحكايات" في انتظار من يطلب الحياة ويروم الارتواء من عين الكتابة.

ـ جابية الأرض والخرافة والتاريخ والواقع.

ـ جابية الأسرة والأهل والأصدقاء والأحبة.

ـ جابية اللقلاق والخطاطيف والفراخ والدلالة والكوال.

ـ جابية الطفولة والفتوة والدراسة والفرح والدهشة والاكتشاف.

ـ جابية الأغوار العميقة للاشعور وللنفس وللروح العامة للثقافة الشعبية.

ـ جابية الهجرة والتيه والضياع وتقاطع الأقدار والمصائر.

ـ جابية التدافع والصراع بين الأصيل والدخيل، وبين الخراف والذئاب، والحمائم والثعالب، والطلح والزيتون.

جابية اللسان الفصيح، واللسان العامي الدارج، والزجل، واللغة الثالثة للصحافة، واللغة الحديثة للأنترنيت.

جوابي ملأى زاخرة وعامرة، لا تشبه أي جابية جارتها، كما لا تشبه كل قطرة ماء في كل جابية أختها.

 جوابي تلقي إليها العين بماء حملها مثلما يلقي إليها الكاتب بدفق عقله ووجدانه.

 وبعد: هذا ما كان بشأن التنويه بعمل الكاتب وتبصرة القراء بأجوائه.

فلننتقل الآن، من خلال المحاور التالية، إلى التفاصيل، آملين أن نغترف من كل جابية ما يطفئ بعض العطش إلى الأدب المغاير والمختلف .

 

1) فاتحة الرهان:

يستفيد السي أحمد ـ أستاذ الجغرافيا الثقافية بإحدى المؤسسات الجامعية بالعاصمة ـ من تعويضات المغادرة الطوعية، فيقرر العودة إلى مسقط رأسه الركادة، المشهورة بالرقصة التي تحمل الإسم نفسه148، وبعين الماء المسماة لالة خضرا، وذلك من أجل ترميم الدار الكبيرة، بيت الوالدين، حفظا لذاكرة العائلة. ومن أجل الدفاع رفقة أصدقاء الطفولة عن مشروع تهيئة العين ومحيطها حفظا لذاكرة المكان ووفاء لموطن الصبا و أحلام الطفولة69.

 لقد تعذر على السي أحمد استرجاع الدار الكبيرة169، فهل سيحالفه النجاح في إعادة الاعتبار للالة خضرا؟ وهل سيجد آذانا صاغية لأحلامه وأيدي ممدودة لتحقيق مشروعه؟

ذلك هو الرهان الصعب لهذه الرواية، رهان الماضي والمستقبل، رهان السي أحمد الإنسان وعين الركادة المكان.

وهو في الآن نفسه، درس بليغ في ارتباط المثقف بمحيطه، ومساهمته في تنمية منطقته.

 

2) الركادة المكان:

يعرف السي أحمد أستاذ الجغرافيا الثقافية بأن المكان لا يغادر مكانه، فعين الركادة كانت هنا قبل أن يوجد أو يولد، عين ماء وجوابي، استراحت حولها قوافل السيارين ثم واصلت رحلاتها بين شرق وغرب. وفوق المكان عاش ناس وماتوا، ومنه مر آخرون في أسفارهم التي لا تنتهي، وبه حط غيرهم الرحال، وبنوا أعشاشهم، وفرخوا البنين والبنات، واللقالق والخطاطيف والخرافات، والعين في مكانها تفور و تغور على إيقاع فريد ينظمه الجدب و الخصب الذي قدر للفصول.

يعرف أستاذ الجغرافيا الثقافية من خلال الدراسات والأبحاث التي قاده اهتمامه بتاريخ الركادة إلى تقليب أوراقها بأن العين المسماة "لالة خضرا" تعد عند كثيرين أثرا من الآثار الرومانية، الدليل على ذلك عندهم أن أحجارها وضعت على شكل الكتل الصخرية التي كان يستعملها الرومان في حصر الماء114، هذا ما يقوله ِكتاب "مغرب الرومان" 115.

كما يعرف من خلال ما خلفه الرحالة والمدونون بأن شعائر المسيحية أقيمت هناك، الدليل على ذلك أن الراهب " غراسلي" قس بركان، وَجَدَ بالركادة قطعة رخام مزخرفة بصليب منقوش يبدو أنه كان لمعبد مسيحي يعود إلى القرن الرابع أو الخامس عشر.

أما اليقين الذي لا يحتاج عنده إلى إخباريين ومدونين ورحالة، فهو أن العين كانت هنا قبل الرومان، في المكان نفسه الذي هي فيه الآن، بين مدينتي أحفير وأبركان، وعلى بعد عشرة كلومترات فقط من هذه الأخيرة114.

(عين ماء وجوابي وبضع صفصافات على حاشية الطريق المتجهة إلى وجدة).

وقد كان عهد بين ذاك وهذا الماثل الآن للعيان، شهد السي أحمد نهايته أو سمع بأحداثها وأخبارها من معاصريه ومجايليه، حيث عمد المستعمر الغاشم إلى قصبة مولاي اسماعيل فهدمها وحط محلها ثكنته وضيعة معمريه12، ولم تكن له من حسنة في ما عمل بالبلاد والعباد غير إعادة بناء بئر العين وساقيتها وبناء نواة للتعليم الابتدائي، منها تخرج الصبي أحمد وأقرانه الذين سيتقاسم معهم الهم والحلم50. أما الضيعة فستؤول إلى " المهندس بنعيسى " كما آلت شبيهاتها إلى أشباهه من سماسرة الوقت و العَرَق12. وأما العين وجوابيها، فستكون على مرمى مخلب وناب، من مخالب وأنياب الكواسر والضواري التي لا تعترف بتاريخ ولا بأحلام 66.

و بين الرومان والاستعمار أنشأت الذاكرة الشعبية للعين تاريخا موازيا واسما رمزيا وحكاية تتناقلها الأجيال، مثلما أنشأت لغير هذا المكان على طول البلاد وعرضها أسماء وتواريخ وحكايات.

فكما نشأت هنا وهناك، قصة لالة ميمونة وسيدي عبد الجليل الطيار( نواحي القنيطرة) أو لالة عيشة البحرية و مولاي بوشعيب الرداد ( نواحي الجديدة)، فقد نشأت حول العين قصة لالة خضرا والقايد دحمان. ولعل الخيال الشعبي قد نسج هذه القصص حول بعض من الحقيقة ثم أَسْطَرَها في الفترة نفسها من الزمان، فحظيت الكثير من الأمكنة المرهوبة أو المرغوبة بنصيبها من الخرافة، وكان للعين نصيب منها، ونصيب آخر وافر من خيال مؤلف الرواية.

تقول الخرافة إذن إن المكان ذاك المسمى الآن بالركادة، كان يخضع لنفوذ قائد همام هو القايد دحمان، وبأن الفارس الرصين الحكيم كانت له زوجة تفوقه صلاحا وعفة وتقوى. فلما لم يرزق منها بالولد ولم تشأ هي حرمانه من العقب، دفعته دفعا إلى الزواج بغيرها على أن يخصص لها في منطقة نفوذه وسلطانه ربعا تأوي إليه لعبادة ربها، ويخصها بمن يخدمها، وكذلك كان.

اشتهرت المرأة في خلوتها تلك بالزهد وفراغ القلب من هم الدنيا، وكانت غوثا للملهوفين من فقراء ومساكين وأبناء سبيل، ومرسى لشكاوى المظلومين والمحرومين، حتى حصل أن تاه ثور عن القطيع الذي كان يحرسه رابح ابن خادمها العبد ميمون، فتعقب العبد وابنه أثر الثور فقادهما إلى أروع وأعجب خبر زفه ميمون على عجل إلى مولاته خضرا، لقد قادهما الأثر إلى اكتشاف " عين ماء"105.

هكذا ظهرت العين واشتهرت باسم صاحبة الربع المرأة الصالحة لالة خضرا، وصار الربع رباطا تحلق حوله الأتباع يتبركون بكرامات الولية ويلهجون في الآفاق بفضلها. غير أن الحساد والوشاة لا يتركون بهجة إلا نغصوها، ولا ربعا إلا دكوه وردموه، وذلك ما حصل لرباط المرأة الصالحة ، فقد أغري بها سلطان الوقت، فهدم صرحها وخرب ربعها وشتت شمل أتباعها وأتباع القايد دحمان. واختلفت حول مصيرهما الأقاويل، مضيفة المزيد من الغرابة والإبهام على الحكاية، هل أقبرت المرأة، أم جلدت ورجمت حتى زهقت روحها أم ألقي بها في كهف، أم طمرت في حفرة؟ وكيف بات الفارس دحمان ولم يصبح، هل طلعت بروحه السيوف التي تناوشته حين اقتحم الصفوف في معركته ضد جند الطاغية؟ أم ألقي به في كهف، أم داسته حوافر العسف أم ابتلعته مغارة الحتف؟ لكن الذي لا يختلف حوله راويان هو أن لالة خضرا الرقادة والفارس دحمان حيان يرزقان حياة الشهداء والأبرار.

 أما لالة خضرا، فيقول القوَّال إنها عادت إلى رحم الماء لتنشأ فيها النشأة الأخرى، ويقول أن روحها تحولت إلى كل نبتة وإلى كل زهرة وإلى كل طائر يحلق في السماء أو شجرة تظل الأحياء. لقد حلت من وقتها في العين وصارت روحانيتها ومولاتها. وأما الفارس دحمان، فيقول القوَّال بأنه صار لقلاقا ، وبنى عشه فوق الصنوبرة القريبة من العين لكي تكون المحبوبة على الدوام على مرمى القلب والنظر. إنهما، يقول الرواة، حَيَّان. الروحانيةُ تتخلق حورية من أبهى وأجمل الحوريات، ترقد فيغور الماء، و تفيق فيفور، ويعم الخير والنعيم، وتبتسم شقائق النعمان لرقص البنات وأزجال الفتيان. وكثيرا ما كانت ترقد،، فسميت لذلك الرقادة، الرقادة لالة خضرا148. الركادة المكان.

وهو، " الفارس دحمان"، يحط على الصنوبرة الوحيدة القريبة من مائها ويرقب إطلالتها حين تفيق، أو يحرس إغفاءتها وهي تنام، في انتظار أن يأتي الفتى المختار ويكتب ملحمة العاشقين. فتلك العين " عين بلارج "التي كان يرقب بها الفارس إطلالة معشوقته، هي، وفي الآن نفسه، عين السي أحمد بطل الرواية 70 وعين الفارس دحمان بطل الخرافة؛ وهل من شك في أن السي أحمد هو نفسه "دحمان "؟، ما أقرب الاسمين إلى بعضهما وما أشبه البطلين الواحد منهما بالآخرفي التتيم والهيام، فكلاهما عاشق موله بالمحبوبة نفسها. وهل من شك أيضا في أن رواية اليوم هي نفسها خرافة العين؟.( انظر التنويه على الهامش).

لقد بذل الكاتب مجهودا معتبرا في البحث والتقصي والتنقيب، واستطاع باقتدار كبير أن يموضع المكان، "عين الركادة" في التاريخ، من خلال الآثار والوثائق وأخبار الرحالة والمدونين. وفي الذاكرة الشعبية، من خلال الحكاية والأهازيج والأزجال. وفي الواقع الراهن، من خلال ما آلت إليه جراء تكالب أطماع السماسرة على مائها وتفريط المعنيين بشأنها في قيمتها، حتى صارت مجرد صفصافات وجوابي وكومة أحجارعلى قارعة طريق41، لا يلقي عليها منه المارون غير نظرات الإشفاق.

تاريخ موثق، وخرافة محكية، وراهن شاخص للعيان، هكذا يستعيد الروائي مسقط الرأس باقتدار كبير. وكذلك سيفعل، وباقتدار أكبر، حين سيموضع المكان الحبيب في الوجدان.

 

 3) أحمد الإنسان:

بالركادة إذن ولد الفتى، وبها عاش طفولة كماء النبع الشفيف، زاخرة بالمعنى، مثله في ذلك مثل أقرانه من الصبية والصبايا، بين الأخوال والأعمام والجيران الذين محضوهم المحبة وأحاطوهم بالرعاية والعناية على قدر ما يستطيعه من كانوا في مستواهم الاجتماعي ذاك.

سبح الفتى في ماء العين كبقية الصبيان، وتسقط أخبار "حنا الدلالة"، وتعقب حلقات الكوال48 وساجله في خاطره وردد أزجاله. لم تختلف طفولته عن طفولتهم في شيء، فقد أكلوا الطعام نفسه، وآووا إلى البيوت نفسها، وارتادوا القسم نفسه من المدرسة تلك التي بنى نواتها الاستعمار. غير أن الفتى الصغير فاز من بينهم بلقب سيسكن قلبه ويرافقه العمر كله، " بلارج "، هكذا سماه معلم العربية29، "بلارج خضرا"، هكذا سيصير، قبل أن يجمع بين صفتين، " بلارج خضرا " و" مجذوب خضرا، " بلارج ومجذوب17، جناح هيمان بالنبع، يحط على الصنوبرة، ويترقب من هناك إطلالة المحبوبة روحانية الماء.

كان الفتى أيضا متميزا في دراسته، متميزا في إتقانه للفرنسية ومتميزا في محبته لأقرانه ودفاعه عن الحق، لذلك سينتصر للكوال حين تعرض الأخير للاعتداء131، مثلما سينتصر لحنا الدلالة حين تعرضت للقيل والقال86.

ستكون الطفولة هي اللوح الذي سيُرسم عليه مستقبل الصبي و تُكتب عليه مقادير الرجل.

في تلك الطفولة ستستحوذ عليه الروحانية وتعمده بالماء ليكون الفتى المختار الذي ينطق باسمها ويتكلم بلسانها بين الناس.

ولكن قبل ذلك، سيعيش الفتى منعطفات قاسية تترك هي أيضا أثرها في النفس، وتحفر تجاعيدها على الجبين.

فبعد وفاة الأب، ومن أجل أن يتابع دراسته الإعدادية سيغادر دفء الرحم للمرة الثانية، ستصحبه الوالدة إلى وجدة ليعيشا في كنف الأخ الأكبر170، ومن هناك، سيكد الفتى ويجد، ويعض على الصخر بأضراسه ليصنع له طريقا في الحياة، واسما بين الأسماء، سيجوب " بلارج " الآفاق ويحط رحله بالرباط؛ سيجمع حكايته قشة قشة ليبني عشين، واحدا للزوجية والثاني للرواية، وليفرخ حروفا وبنين تقر بهم العين42.

لقد صار الرجل إلى ما صار إليه، أستاذا جامعيا للجغرافيا الثقافية بالعاصمة الرباط، هو الآتي إليها من الركادة. لكن حنينه للعين لم ينقطع، وذكرى الروحانية لم يطلها البلى ولا النسيان، فقد ظل الحنين وظلت الذكرى جمرة تلهب القلب كلما خفق، وتكوي اليد كلما فتحت كتابا أو رفعت قلما.

سيتسقط الرجل الأخبار، ويشبع نظرته من المحبوبة كلما واتته الفرصة لزيارة مسقط الرأس56، وإن كانت الأخبار و النظرات لا تشفي الغليل. فقد اكتفى الرجل لمدة ليست بالقليلة بالقليل. حتى جاءت فاتحة الخير بماء وغيم وموج قَرَّب البعيد، ويسر المعرفة، وسهل التواصل، وفتح العين على ما لم يكن يُرى، و أصبح الإبحار في عالم الأنترنيت طوع البنان49، فاتصل ما انفصل، وأطل الأحباب على الأحباب بالصورة والصوت والكتابة، فنال الرجل حقه من هذا الخير، وصارت أخبار المحبوبة في متناول نقراته على اللوح، فقرأ المدونات، وتتبع الصفحات وتبادل الرسائل مع أصدقاء الطفولة31، وهب لتدارك ما فاته من وفاء بالدين للبلدة وعينها ومائها ولقالقها وصفصافاتها وأهلها وتارخهم وثقافتهم وذاكرتهم؛ ووجد أن ذلك لن يتحقق إلا بمشروع ثقافي وتنموي شامل ومتكامل، فانكب مستفيدا من دراسته الأكاديمية على البحث والتنقيب في تاريخ البلدة والعين، واستعان بابنته خريجة المدرسة الوطنية للهندسة المعمارية لكي يضعا معا مشروعا لتهيئة العين ومحيطها44؛ كما اتفق مع ثلة من أصدقاء طفولته على تأسيس جمعية لخدمة هذا الغرض. وكان حصوله على المغادرة الطوعية مناسبة ليحزم متاعه، ويضع حاسوبه في حقيبته ويشد الرحال لتجديد العهد مع الروحانية التي سلبت لبه والمكان الذي سحر عقله. إلى هنا تنتهي حكاية السي أحمد أستاذ الجغرافيا الثقافية، ومن هنا تبدأ رواية "خضرا والمجذوب".

 

4) رواية خضرا والمجذوب/ البناء والتأويل:

ذلك هو السي أحمد الإنسان، وتلك هي عين الركادة المكان، والرواية في الأخير تحكي عن ذلك العشق العجيب، والتوله الغريب، والهيام التام الذي قام بين روح امرأة صالحة ظلت بعد موتها تحرس العين والبلدة وأهلها، وتصطفي في كل فترة من الزمان من يكلم الناس باسمها، وبَشَرِيٍّ كان من حظه أن تصطفيه لهذه الفترة مختارا وخليلا فتجذبه إلى عين مائها.

أقول روحانية تتخلق كيف تشاء، فمرة تكون ماء، ومرة لقلاقا ومرة أنثى حسناء فائرة بالرمز والمعنى، ومرة غيمة أو حفنة تراب أو نسمة هواء. وبَشَرِيٍّ يتخلق هو أيضا كيف شيء له، فمرة ريحا لذكرى، ومرة جناحا هيمان بالوسنى، ومرة كوالا، وأخرى زجالا؛ وفي كل الأحوال هو مجذوب ولقلاق يحط بجوار لالة خضرا على أقرب صفصافة من الصفية البهية عين الركادة.

 فما هي التقنيات السردية التي اعتمدها الكاتب في عرض حكاية الروحانية مولاة الركادة26 والبشري المجذوب سيدي أحمد الكوال وبناء عوالمها ورسم مسارات شخوصها؟

في هذه الرواية، تتواتر الأحداث و تتوالى الوقائع وتتطور مسارات الشخوص داخل ثلاث حلقات/ لحظات متمايزة ومتصلة في الآن نفسه.

 (بداية وذروة ونهاية مفتوحة).

4 ـ 1ـ اللحظة الأولى: " حلم التعميد" وتؤرخ لاستحواذ الروحانية على كيان الطفل وعقله ووجدانه19.

4 ـ 2 ـ اللحظة الثانية: " المواجهة والتهديد" وتؤرخ لمواجهة البطل أحمد للغريم الذي جاء ليستولي على ماء العين من أجل تسليعه وبيعه192.

4 ـ 3 ـ اللحظة الثالثة: " الأمل الجديد" وتؤرخ لتعرض السي أحمد لمؤامرة اعتداء حاكها خصوم العين ضده، ونجاته بفضل روحانية الماء وبفضل أحد أصدقائه الذين ترك لهم مهمة حمل مشعل الدفاع عن العين من بعده إن لم تكتب له النجاة204.

وقد كان الكاتب موفقا كل التوفيق حين استعاض في روايته عن الزمن الكرونولوجي ( بداية ـ ذروة ـ نهاية ) بزمن سردي يسمح له باسترجاع الأحداث، واستحضار الحالات، والانعراج بمسارات الشخوص دائما نحو واحدة من الحلقات الثلاث التي تنتظم نسيج الرواية؛ فكانت بدايته من لحظة الذروة ليعود بعدها إلى لحظة البداية، ويختم بالنهاية المفتوحة على الأمل، وهي اللحظات نفسها التي سأحاول استرجاعها معه مؤكدا على أن الرواية مبنية على تصور مسبق وتخطيط محكم لمساراتها، وأن كاتبها صاحب رؤية فنية وجمالية راقية ومتكاملة للعمل الإبداعي.

 

4 ـ 1 ـ 1. اللحظة الأولى: المواجهة والتهديد:

هي لحظة المواجهة مع الغريم الصلف المُعْتَد بماله وسلطته ووجاهة حلفائه، والذي أغراه ماء العين " السائب في ظنه" فقرر أن يحولها إلى عين تذرف الدرهم في جيوبه وحسابات أحبابه.

هي لحظة الذروة.

وسيكون على البطل العاشق أن ينقذ المحبوبة، وأن يفي لها بعهد وميثاق أخذته عليه وهو بعد صبي في غبش الفجر بلا رفيق ولا حبيب ولا حضن دافئ يسكن إليه.

هكذا تبدأ الرواية، ويصور الكاتب مشهدها الأول ببراعة أخاذة.

السي أحمد يقف عند العين أصيلا يبثها لواعجه،، يأسى لحالها ويشكوها حاله ويسترجع معها بعضا مما كان ذات زمان، فجأة يسمع صوتا صاعدا من الأعماق يتصادى مع خواطره، فيحتار، هل رأى طيف صاحبه أم هو صوت الماضي يحوم بجناحه على المكان؟ لكنه في كل الأحوال صوت الكوال يشاركه أشجان اللحظة8. غير أن اللحظة لن تدوم، إذ تقف سيارة بالجوار ينزل منها ( بنحيدة المقاول) ليشرع بعد تقديم نفسه في السخرية من الكوال ومن حال العين10 وفي الإيحاء بالمشروع الذي أعده لإنقاذها.

مشروع ؟ يا للمفارقة. نعم مشروع، هذا ما سيتأكد للسي أحمد بعد هذا اللقاء.

مشروعان إذن يقفان وجها لوجه، مشروعان متضادان، واحد أصيل والثاني دخيل.

مشروع للنهوض بالعين وآخر للاستحواذ على مائها.

مشروع ابن الحال، ومشروع صاحب المال، وغريمان يلتقيان في اللحظة نفسها وفي المكان نفسه، الراعي والذئب.

وليست هذه هي المرة الوحيدة التي سيلتقيان فيها، سيلتقي الغريمان مرة ثانية في مناظرة فكرية واجتماعية بأعلى الجبل196، عندما صعد أحمد لزيارة أخته، واستذكار بعض من أغاني الطفولة وأزجال الخلان حول العين وصبايا العين، بينما صعد (بنحيدة رفقة حليفه وشريكه بنعيسى) لاصطياد الخنزير، فهو مجرد صياد198، لا وقت لديه للثقافة وللشعر والهذر14.

ثم سيلتقيان وقد فرقت بينهما مقادير الأحداث، بنحيدة ليبحث عن طريدة أخرى يغرس فيها أنيابه، ويمتص دمها أو ماءها أو رحيق زهرة عمرها206، وأحمد ليسلم المشعل لخلانه، أهل وعشيرة "خضرا"، معلنا عن وفائه بالعهد الذي نذر له نفسه، وعلى إصراره واستمراره207 في رعاية المحبوبة وحمايتها من خفافيش المال.

أليس هذا هو الرهان الثقافي والفكري والروحي والاجتماعي والسياسي والأخلاقي الفعلي لهذه الرواية؟؟

رهان الكوال ضد أرباب المال.

رهان المدافعين عن الحضارة والماء والخضرة والنضارة ضد " أصحاب المنشار والشكارة ".

رهان الوفاء ضد الغدر والصدق ضد التزوير والإصلاح ضد الفساد والمفسدين.

ولمن ستؤول الكلمة في الأخير؟

أللحق والصدق والوفاء، أم للجشع والتسلط والتغول والأنانية؟

استراتيجيتان متناقضتان.

استراتيجية الحب ضد استراتيجية النهب.

لذلك كانت لحظة المواجهة تمثل ذروة الأحداث في الرواية، ولذلك ولا شك اختارها المؤلف بداية لسرده.

 

 4 ـ 2 ـ 1. اللحظة الثانية: حلم التعميد:

يمكن القول بدون أدنى مجازفة بأنه لولا هذه اللحظة/ التجربة في حياة أحمد ما كانت لتوجد رواية خضرا والمجذوب ولا بطلها، بل ربما ما كانت لتوجد قبلهما رواية "الجناح الهيمان..."، ولا أزجال "ريحة لبلاد خضرا" ــ علما بأنه حتى ولو كان في البطل شيء من الكاتب، وكان في حياة هذا الأخير شيء من حياة الأول، فليس المؤلف بأي حال من الأحوال هو السي أحمد، وإنما الأخير حامل لبعض من أحلام الأول وأمانيه وأفكاره وتطلعاته واختياراته. إن البطل في النهاية مجرد " صنيعة" للمؤلف، وقد يختار في الآتي من الروايات أبطالا آخرين ــ

أما اللحظة تلك، فهي النواة التي تأسست حولها ذات البطل ورسمت مساره و اهتماماته ودائرة أصدقائه؛ إنها "الواقعة الأم" التي شكلت عقله وعاطفته ووجدانه.

هي إذن، وبكل المقاييس لحظة وواقعة مؤسسة للتجربة الشخصية للبطل. بل أكثر من ذلك هي واقعة/ مرجع، لا يمكنه تجاوزها على وجه الإطلاق. إذ بها سيفسر ويواجه ويرفض أو يتقبل كل ما يعترضه في الحياة من أتراح أو مسرات.

تقول الواقعة ـ التي جئنا على ذكرها سابقا ـ بأنه ذات يوم أخطأت الوالدة موعدها مع التوقيت المدرسي فأيقظت الطفل على غير العادة وأعدته للخروج فجرا، وذاك ما حصل، خرج الطفل ولم يجد في طريقه رفاق الطريق ولا من اعتاد رؤيتهم في مثل ذلك الوقت على الطريق، ولأنه ظن بأنه مسبوق إلى المدرسة، هرول يطلب اللحاق بأصدقائه، فما وجد غير ساحة فارغة وقسم مغلق، ولا سمع غير نقيق الضفادع، وصوت مرور شاحنة أو سيارة19.

طفل وحيد، أمام باب القسم، يعتصره الخوف، جلس عند العتبة، واضعا رأسه بين ركبتيه وليس تمر بذهنه غير صور الغيلان والأشباح التي تجوب الأودية وتملأ العيون، هكذا كانت تقول الخالة حدوهم، طفل وحيد وخائف يستعرض صور الأم والأخت والجارات ورفيقات الدراسة فينام، ينام فيراها، يرى روحانية العين تتقدم نحوه، تهدئ من روعه، تأخذه إلى العين، تغسل وجهه بمائها، تجعله يغطس، ويسبح، ثم تعود به إلى مكانه عند عتبة القسم27، يستيقظ الطفل لاهثا، فإذا بأمه عند رأسه تحنو عليه، وتلوم نفسها على خطئها، وإذا بوالده أيضا يفعل مثل فعلها23.

من يومها يقول أحمد: " ... لم يغادرني قط ليلي ونهاري في صغري وفي كبري ذاك الطيف المحبوب المحفوف بهالته البدرية الموارية بغلالته الكدرية وأفقه الحي الريان بالعين النعسانة وبئرها ومائها الدافق دوما، واقعا وفي عيني... وفي وهمي والخيال23."

من يومها سيصبح الطفل عند نفسه وعند أهله مسكونا بالروحانية30، كما سيصير السي أحمد في ما بعد، مجذوب لالة خضرا17، لا يتحدث إلا عنها ولا يتكلم إلا بها؛ وكلما غارت أو فارت كانت تلك صورة من صور جذبها.

ليس الجذب غير شطح الروحانية ورقصها.

وحين ترقص روح الماء غائرة أو فائرة، يشطح المجذوب ويرقص على إيقاعها.

يرقص زجلا أو قصة أو رواية أو حكاية أو قصة أو وقفة أو سفرا أو راحة أو رحلة. فليست حركة السي أحمد غير استجابة للإيقاع الذي يحدثه جذب الروحانية وشطحها.

* سيقول المحلل النفسي بأن الحلم ذاك لم يكن إلا آلية دفاعية استدعاها العقل الباطن للصبي، لكي تهدئ من مخاوفه وتحميه من محيط عدائي، وتساعده على مواجهة الرعب الصارخ لذلك الفجر.

طفل وحيد، ذاكرته الصغيرة مشحونة بقصص الغيلان وجنيات الأودية وأشباح العيون، هل يستطيع حقا أن ينام ويحلم؟

* سيقول المحلل النفسي بأن النوم لم يطرق أجفان الصبي، وبأن حلمه كان واقعا توهمه، فقد أخذ الفتى يستصرخ أمه وأخته الكبرى لكي تنجداه في ذلك الموقف العسير، فإذا بكل النساء الحانيات الرحيمات يأتينه في صورة لالة خضرا التي ستأخذه من يده إلى العين، وتجعله يستحم في رحمها الآمن22، ثم تعود به بعد التعميد، كما لو أنه ولد من جديد، إلى مقعده الأول من باب القسم. يفتح الطفل عينيه لاهثا فيجد أمه عند رأسه. لقد أصبحت له أُمَّان، أمه البيولوجية الواقعية الفانية التي تسري عليها عوادي الزمن فتشيخ وتموت. وأمه المثال، الروحانية التي لا تشيخ ولا تموت.

* سنتذكر جميعا بأن أمهاتنا حين كنا ونحن صغار نشعر بالخوف من بعض الأشياء في محيطنا " حيوانات أو دمى غريبة" كن يأخذن أيدينا الصغيرة ويضعنها على ظهر تلك الأشياء، ويشرعن في تمريرها بهدوء حتى تطمئن نفوسنا، وتسكن خواطرنا وتزول مخاوفنا. وذلك ما حصل للفتى؛ لقد استحضر عَقْلُه الباطن ذلك الفعل، واستحْضَر أُمَّه الحقيقية في تلك الأم المثال التي أخذته من يده وذهبت به إلى الماء وجعلته يضع يديه عليه ثم يسبح فيه، فاطمأن بعد خوف وهو يحتمي بالرحم الآمن، ويحظى برعاية الأم / الروحانية.

فما أغرب وما أعجب حيل اللاوعي،، لكن كيف نستطيع فهم لغته المشفرة والمكثفة والرامزة؟

ستصبح هذه اللحظة /الواقعة، علامة فارقة في حياة السي أحمد بطل " خضرا والمجذوب " منها المبتدأ وإليها المنتهى. وتلك الأم المثال، تلك الروحانية ستمثل له دائما الملجأ والملاذ، الأم الثانية التي يبثها مواجده وشكواه، ويعود إليها ليستمد العون والطاقة والقوة، سيصبح من العسير عليه، بل ومن المستحيل أن يتخطى أو يتجاوز تلك الواقعة المؤسسة لذاته وكيانه؛ لقد انطبعت في الباطن بحبر لا يمحى ولا يزول، ولن يتمكن الطفل من الخروج من طفولته إلا ليكتبها بلغة الحلم الذي لا يمحى ولا يزول. سيشعر دائما بدين ثقيل نحو الروحانية التي آمنته بعد خوف، وآوته إلى حضنها في لحظة كان فيها وحيدا ومعزولا وضعيفا وعاجزا عن مواجهة رعب الليل.

 ما يشبه هذا التأويل " المختزل" قد يلاقي هوى في الكثير من النفوس وقد يشبع بعض الفضول الخفي ويرضي بعض العقول، ولكنه في كل الأحوال، لا يرى من الرواية غير رأس جبل الجليد الذي يعلو ناتئا فوق السطح، بينما الجبل الفعلي يغوص هناك بعيدا وعميقا في أغوار بحر الحلم الحقيقي والكبير للروائي، أقصد الحلم الروحي الذي يحتاج إلى أدوات أخرى لتفسيره والنفاذ إلى معانيه وفك رموزه.

وأنا أميل شخصيا إلى تفسير آخر مختلف لواقعة الحلم، ولغيرها من وقائع هذه الرواية المتعددة الأبعاد الواسعة الأفق. ولعلني أوفق إلى الصواب حين عرضه بعد الانتهاء من هذا المحور. ولعل شهيتي تنفتح على تأويلات مغايرة لما قدمته في هذه الورقة نفسها، فوحدها الأعمال المركبة تسمح بهذا النوع من القراءات المتعددة للواقعة الواحدة.

 

4 ـ 3 ـ 1. اللحظة الثالثة: الأمل الجديد:

والآن ستكمل الحياة دورتها ويغلق السرد حلقاته الثلاث.

إن عمرا كاملا من الزمان كنهار واحد من اليوم، لكل منهما فجر يبدأ به، وأصيل إليه ينتهي حين يشرف على المغيب.

هكذا تشرف الحكاية على أصيلها قبل أن تنتهي، وكذلك حياة البطل.

لقد بذل السي أحمد كل ما في وسعه وطاقته وثقافته ليرد بعض الدين المستحق لروحانية الركادة التي عمدته بماء العين ذلك الفجر ووهبته حلم حياة أخرى، مختلفة ومغايرة.

لقد استعان بعلمه ومعرفته لإعادة كتابة تاريخ العين.

واستعان بدراسة ابنته البتول لوضع تصاميم لتهيئة مجالها وتأهيلها لتواكب ركب التطور والتقدم.

واستعان بخبرة وعشق خلانه للعين لتأسيس جمعية تلتف حول المشروع وتدافع عنه.

ودَوَّنَ كل الوقائع والأحداث على حاسوبه وحملها في مفتاح لا يبارح جيبه كتعويذة تحرسه من المخاطر.

فهل يمكن أن يساور الروحانية الآن شك في مدى وفائه وإخلاصه؟

هل يمكن أن يساورها شك في استجابته هو بالذات لنداء الفجر الذي كان حُلْمُه عهداً بينهما على الوفاء والإخلاص؟

أليست هي التي همست في أذنه ذلك الفجر: " حبيبي اطمئن، حبيبي، أنا معك وإن غبت، كن رجلا، كن فارسا أكن حورية أحلامك22.."؟

ألم يحاول طوال حياته أن يكون رجلا، وشهما ونبيلا، وفارسا؟ فهل ستفي له بوعدها،هل ستبقى دائما حورية أحلامه؟

أم تراها تعبت من الإهمال والجحود، ومن أحياء لا يسمعون النداء؟؟

أما هو، فلن تتعب منه، لن تتعب منه ولن يتعب منها إلا كما يتعب التراب من الماء، كلما ارتوى ربا و أنبت من كل قول بهيج، وكلما عطش جف طينه وتيبس زهر الكلام في حلقه، وبح صوته وضاع النداء.

وها هو في هذا الأصيل الأخير من الحكاية يقف عند رأسها ـ في انتظار صديق ضرب له عندها موعدا ـ كما وقف مرات ومرات يشكوها همه ويبثها شكواه، غافلا عما يتربص به من أخطار. فما كان السي بنعيسى ليغفر له فشل مشروع صديقه بنحيدة في استغلال ماء العين، خاصة وأنه محاط بنساء ورجال دواوير "ميكا" التي أنشأها حول ضيعته وعاء للأصوات الانتخابية التي تقلده كرسي الوجاهة ويدا ضاربة ونابا ومخلبا ينتقم بهما ممن يعاكس طموحاته ولا يأتمر بأمره14.

 ها هو يقف عند رأس العين يناجي لالة خضرا الروحانية، وهاهي امرأة غريبة تتقدم نحوه مسلحة بظهر سلحفاة، فتكيل له من الشتائم ما طالته وقاحتها ورطانة لسانها الأعجم عن أبناء المنطقة204، وتأمره بالرحيل عن مائها وبلدتها وعينها، هي التي لا تتقن حتى الكلام بلهجة أهلها. وقبل أن يستفيق السي أحمد من تساؤلاته ومن دهشته تصيبه في الصدغ بسلاحها فيسقط مغشيا عليه عند حافة العين205،، يرى نفسه يغرق، وبين الغيبوبة والصحو يدرك بأن الروحانية مولاة العين تعلو به فوق غيبوبة الماء ليتنفس الهواء المنعش للحواس،ويشم رائحة المحبوبة التي كانت في الموعد لإنقاذه، في الآن نفسه الذي يتداركه فيه الصديق الذي جاء هو أيضا في الموعد، فيسنده، ويهمس في أذنه أن يتمالك نفسه ويبشره بأن طلبهم إلى وزارة الثقافة من أجل العناية بالعين قد قبل، وأن بنحيدة المقاول لاشك راحل، وحليفه المحلي بنعيسى المهندس لم يعد له من الأمر شيء206.

حينها يعرف السي أحمد بأن حلقة سره قد انكسرت، وأن الرسالة لا بد أن تنقل إلى الخلف ليطلعوا بدورهم بواجب الوفاء بالعهد للمكان، فيطلب من صاحبه أن يسحب من جيبه المفتاح الذي حَمَّله كل ما كان من وقائع وأحداث من فجر الحلم الذي عمد فيه بالماء إلى هذا الأصيل الذي اكتملت فيه حلقات السرد207.

 

5) الروحانيون: ألسنة المكان وخدامه:

سأباشر هنا تقديم بعض من تفسيري الوجيز لحلم الفجر، ذلك الحلم الذي شكل شخصية البطل ومسار حياته وجملة الوقائع والأحداث التي أخرجها المؤلف للناس تحت مسمى" خضرا والمجذوب " .

لقد استطاع المؤلف فعلا أن يغوص بنا في عالم مغاير ومختلف، قلما تتيح الكثير من الأعمال الأدبية فرصة الالتفات إليه، عالم تتجسد فيه روح العين في صورة أنثى وينطق فيه المكان بلسان الكوال.

إنه لغريب حقا أن يكون المكان أكثر حفظا للعهد وللذاكرة من الإنسان. وإنه لغريب أكثر من ذلك أن يعيش الناس في أمكنة دون أن ينصتوا لنبض قلوبها أو يسمعوا نداءاتها في الغدو والرواح، كأنهم أحياء بلا أرواح. والأغرب من هذا وذاك أن يكلم المكان الإنسان فلا يفهم الأخير لغته،لأن الإنسان لا يمتلك معرفة بتاريخ ولا بثقافة المكان، فبالأحرى أن يفهم لغته.

أزعم إذن بأن العمل الإبداعي الأخير للدكتور عبد المالك المومني " خضرا والمجذوب " ليس تقليديا بالمرة، بل وهو فريد في بابه، لأن الكاتب يضعنا مباشرة في صلب العالم الروحاني الذي قلما نجد من يفك أسراره ويتوغل في تضاريسه بدون احتراس كبير.

عالم لا يجدر بأحد أن يستخف به أو يحمله على محمل التوهمات.

فبعض الأمكنة تمتلك أرواحا قادرة على اختراق الأزمنة كما تمتلك قدرة رهيبة على الجذب وعلى الاستحواذ على النفوس والتأثير فيها، مثلما هو الشأن في بعض العيون والآبار والمغارات والقنن والخلجان، ولولا ذلك ما حج إليها الزهاد ولا النساك ولا حط بها المرابطون رحلهم، أو بنى بها المجاهدون الرباطات والزوايا.

والأماكن الشريفة من بين هذه الأماكن كلها، لا يقع انتقاؤها ولا اصطفاؤها إلا للأبرار والروحانيين من ذوي الهمة الشريفة والقلوب الطاهرة. أولئك الذين غلب صفاؤهم الروحي صفاتهم وطباعهم البشرية فصارت أنفسهم لطيفة وحواسهم رهيفة حتى تكشفت لبصائرهم الدقائق والحقائق المتخفية وراء الحجب الكثيفة للماديات. إنهم خيار الناس وأفاضلهم. ولعل الفتى المختار في الحلم أن يكون واحدا منهم. ولعل العين المعروفة بلالة خضرا أن تكون واحدا من تلك الأمكنة التي اتخذت لها من الناس ألسنة وخداما ينطقون بحالها، فكان لها الحداة والرعاة والمجاذيب والسياحون والحكاؤون. وقد اصطفت لها بعدهم الكوال فتكلم بلسان النظم، ثم اصطفت لها من بين الأخيار السي أحمد، وهو بعد غلام، فأوقف عمره وأهله وأصحابه وثقافته ومعرفته ودراسة ابنته وعلمها على خدمتها أحسن ما تكون الخدمة، كما أوقف لسانه وقلمه وكتابته على الكلام باسمها. وقد تصطفي في القادم من الأزمان أصفياء آخرين يجيدون الإصغاء ويلبون النداء ويقومون بالخدمة أحسن قيام، وقد يكون من بينهم ابن السي أحمد أو حفيده أو ابن واحد من خلانه أو حفيده، في حلقات متواصلة لا تنتهي مادامت العين تغور وتفور بحسب ما قدر لها في هذه الحياة41.

إن ذاكرة المكان أقوى من ذاكرة الإنسان، ولسانه أفصح من ألسنة الناس، وهو يحمل على ظهره من آثار التاريخ أكثر مما تستطيع ذاكرة الإنسان أن تحمله أو تحفظه أو تستوعبه. وثقافة المكان أوسع وأشمل من ثقافة الإنسان، هذا هو الدرس الذي أتاحت لنا رواية الدكتور عبد المالك المومني استخلاصه من حكاية المجذوب سيدي أحمد الكوال، وما جرى له مع روحانية الماء، لالة خضرا مولاة الركادة.

 

6) خاتمة البيان:

وبعد، فقد ساد بين الناس أن المثقفين، والأدباء منهم خاصة، كالروائيين والقصاصين والشعراء، قوم يقتاتون على الأحلام، ويبيضون الأوهام، ويفرخون السراب، وهي فكرة ولاشك دفع بها إلى التداول بعض الساسة الذين يعملون على تتفيه الثقافة14، وتبخيس دورها بهدف إقصائها من المشاركة بالرأي والتصور والاقتراح في تدبير شأننا وفضائنا العام. ورواية الدكتور عبد المالك المومني " خضرا والمجذوب " من تلك الأعمال التي تفند هذه الدعوى المُزَيِّفَة للوعي، وتؤكد على أن المثقف منخرط في قضايا مجتمعه41، ووفي لأهله بقدر ما هو منفتح على عصره، وقادر على المساهمة بالفكرة الصائبة في التنمية المستقبلية لبلدته ومنطقته وجهته ووطنه، وذلك ما لا يستطيعه الكثير من الساسة الذين أوكلَ إليهم اقتراعُ الناس تمثيلهم وتدبير شأنهم ومجالهم العام ... فالتصور الجمالي للوجود وللحياة وللمكان الذي يحيا فيه الإنسان لا يمكن أن يأتي إلا من الثقافة.

والكاتب المبدع، والمثقف الأصيل الدكتور عبد المالك المومني روائي بعيد الرؤيا وعميق الغور، يستشرف الآتي ببصيرة الحكماء،و يعتبر الكتابة رافعة للتنمية الاجتماعية ووسيلة لحفظ ذاكرة المكان وكرامة الإنسان؛ وتلك هي الغاية التي من أجلها كتبت " خضرا والمجذوب" والله الموفق للصواب.

 

 

الهوامش

 أ) ـ الأرقام في متن القراءة تحيل على صفحات الرواية.

ب) ـ تنويه خاص:

سيدرك القارئ الفطن، والملم بتفاصيل هذا العمل الشيق، بأن بطل الرواية السي أحمد المسمى بلارج خضرا ومجذوب خضرا، ليس في النهاية إلا الفارس دحمان. الذي تقول الخرافة بأنه تحول بعد "حَرْكَة" سلطان الوقت، وردمه للرباط وقتله للالة خضرا، إلى لقلاق مرابط في المكان الذي ضم محبوبته، فبنى عشه على الصنوبرة الوحيدة القريبة من العين لكي تبقى قرة العين على مرمى القلب والنظر.

ذلك اللقلاق هو الذي تلبس الفتى.

وتلك الروحانية هي التي سكنت كتابته.

وكانت تلك فرصتهما الوحيدة للقاء بعد أن حال الزمان دونهما ودون امتلاك جسدين بشريين. هما اللذان لم يرزقا بابن، سيكون هذا الفتى المختار ابنهما بالتبني.

لقلاق وروحانية، زوجان فرقت بينهما الخرافة وجمعت بينهما الرواية، ورزقتهما بعد الموت أعز ما يطلب، حين ساقت إليهما ذاك الفجر، طفلا وحيدا، وكانا وحيدين، هي في الماء، وهو فوق الصنوبرة، ألا يكفي هذا لإغرائهما بتبنيه.

لقد سلبا لبه وأخذا روحه.

ولعل نصيب الفارس دحمان من روح الصبي أن يكون أكبر من نصيب الروحانية، لأن الفتى كان دائما يرى بعين بلارج؛ هذا ما أفضى به إلى خلانه ذات سمر. كانت رغبته أن يطل على الأحداث بعين بلارج ويكتبها بعين بلارج، وهل تلك العين غير عين الفارس دحمان.

ألا تكون الرواية في الأخير، إشارة قوية وواضحة، تبادلها ـ من وراء الحواجز المادية للزمان ـ بعد موتهما بزمان، زوجان متيمان، وقد اشتد بهما الحنين لربعهما الأول، مثلما اشتد الحنين بالبطل السي أحمد إلى مسقط رأسه؟ بل ربما أنهما قد وجدا فيه لسان حالهما، مثلما وجد فيهما لسان حاله، في تبادل عجيب للأدوار بين بطل الرواية وأبطال الخرافة. وحين همست الروحانية قائلة للصبي: " حبيبي اطمئن، حبيبي، أنا معك وإن غبت، كن رجلا، كن فارسا أكن حورية أحلامك.."؟ أكانت تُطمئِن الصبي الخائف أم كانت تخاطب الرجل الذي سيصيره أحمد؟ أم تراها كانت تناجي دحمان فارسها الذي هام بها عشقا في الزمن الأول؟ حقا، فالأرواح في النهاية جنود مجندة، كل روح تتعرف على أختها مهما اختلفت الحقب، وكل روح تحن إلى إلفها كما يحن اللقلاق إلى عشه فوق الصنوبرة. " فَعُشْ فْ خَربَة،أصاحبي، ولا عيشة الغربة" هكذا قال السي أحمد وهو يناجي اللقلاق، ولعله أضاف، " ما أقسى غربة الروح يا صاحبي"، ووحدها الأرواح قد فهمت نجواه.

ج) ـ قائمة بشخوص الرواية مرتبة زمنيا وفقا لأطوار حياة السي أحمد:

  1) الأسرة و الأقارب:

(شركاء الرحم والدم والنسب)

ـ أبو زهرة وأم زهرة: على التوالي أب وأم السي أحمد

ـ زهرة: أخته، ستتزوج بالسي محمد المراقب الغابوي وتسكن جبل آلمو.

ـ حورية ، البتول، يونس، منى: زوجة وأبناء السي أحمد.

ـ حدوهم: عمة أحمد ومرضعته، وأم زينب و الشريف.

 2) شخوص تركوا بصمتهم على صفحة الوجدان:

ـ لالة خضرامولاة الركادة: روحانية العين.

ـ عبد الرحمان الكوال: درويش عابر للزمن يقيم حلقات للتغنى بلالة خضرا.

ـ حنا الدلالة: قابلة وعطارة وحكاءة جوالة بين الدور والدواوير.

ـ السي عمر: معلم العربية، حارس اللغة والوطنية.

ـ السي يوسف: معلم الفرنسية راعي التميز عند الطفل وحارس التاريخ.

ـ جندي فرنسي: دعم وَلَعَ أحمد بالقراءة والكتاب.

 3) الأقران:

( شركاء أحمد في حليب الصبا و مقاعد الدراسة الأولى)

 ـ الشريف، زينب، خيرة، قويدر، بوخريص.

 4) الخلان:

( شركاء أحمد في مشروع تهيئة العين)

ـ جمال، عبد الكريم، عبد الله، عبد المجيد، قويدر، زينب: وهم موظفون أو أساتذة أومهاجرون.

 5) العاطفون:

ـ العمة الغالية: صديقة والدة أحمد وأم عبد المجيد( تحسب لها مساهمتها بقطعة أرض من أجل تهيئة العين).

ـ البتول بنت أحمد: يحسب لها وضع تصاميم التهيئة.

 6) الغرماء:

(خصوم الركادة وأبنائها)

 ـ بنعيسى: مهندس آلت إليه ضيعة المعمر مورلو، وعضو دائم في المجلس البلدي للركادة.

ـ حمو بنحيدة: مقاول ، صديق بنعيسى، وصاحب مشروع تصنيع ماء العين وتسويقه بالداخل والخارج.

د) تراجم:

ـ الراهب غراسلي: ورد ذكره في الصفحة 115 من الرواية، رجل دين فرنسي مزداد في الثالث شتنبر م1899، عين لمصلحة الإدارة الاستعمارية قسا لكنيسة أبركان حيث سيقضي 22 سنة ، اشتهر بكونه شاعرا وفنانا، وله تصانيف ومؤلفات، توفي سنة 2000م

ـ الزجال اليعقوبي: ورد ذكره في الصفحة 189 من الرواية، المقصود، أحمد اليعقوبي فارس النظم وسليل مشيخة الزجل بمدينة أبركان، من مؤلفاته: "القصبة والطير" و "رياح النور" .

:louis chatlainـ كتاب مغرب الرومان لمؤلفه

ورد ذكره في الصفحة 114 من الرواية، هو كتاب في تاريخ المغرب في عهد الاحتلال الروماني، وأهم المواقع الرومانية التي مر بها المؤلف، ومن بينها عين الركادة.

ه) فائدة:

للمزيد من المعلومات عن تاريخ الركادة، يرجى الرجوع إلى الكتاب الذي نشره مؤخرا الأستاذ عبد الله الزغلي عن هذه البلدة، تحت عنوان " عين الركادة القصبة والتأسيس" . والأستاذ عبد الله الزغلي واحد من الخلان المذكورين في هذه الرواية والمعنيين بوقائعها وأحداثها.ولعل في مساهمته هذه ما يضيء عناصر كثيرة في " خضرا والمجذوب"، ويضيف إلى "خزانة" المكان لبنة جديدة تصون ذاكرته.

 

و) الكاتب صاحب الرواية: عبد المالك المومني، من مواليد الركادة.

ـ أستاذ التعليم العالي بجامعة ابن طفيل ـ كلية الآداب ـ شعبة اللغة العربية وآدابها ـ القنيطرة ، المغرب.

ـ ديبلوم الدراسات العليا في موضوع شعر السجن في المشرق العربي من البعثة إلى القرن الثالث الهجري.

* دكتوراة دولة في موضوع روميات أبي فراس الحمداني والتجربة الإنسانية. نشرت تحت عنوان "التجربة الإنسانية في روميات أبي فراس الحمداني"، عن دار الكتب العلمية، بيروت 2010م

* رواية الجناح الهيمان بنبع ركادة الوسنان، دار عكاظ للنشر1996م

* ريحة البلاد خضرا: ديوان زجل، الرباط نت، 2011م

* خضرا والمجذوب: رواية ، دار النشر كلمات،2015م

 

جمال الدين حريفي

كاتب من المغرب، صدر له:

ـ حقول الظلام/ رواية.1997

ـ وقائع الليل والنهار/ رواية 1998

ـ فرخة الجنة / رواية 2000

ـ باب الطالب / زجل 2005

ـ بيت الأوهام / قصص 2015

ـ وردة الخادمة، العائد، الجذار السحري/ مسرحيات تربوية (بالاشتراك) 2015

ـ فاكهة الحكي / قراءات أدبية 2015

 

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم