صحيفة المثقف

الحرية في المقالة المصرية الحديثة

sadam alasadiالمدخل: وانا ادرس المقالة لابد ان اعرض تعريفا لها وحسبي بتعريف جامع لا استطيع ان احيط به، شاني شأن من سبقني ولم يضع تعريفا بهذا الفن بتعريف دقيق فقد عرف الغربيون المقالة ومنهم جونسون (نزوة عقلية لا ينبغي ان يكون لها ضابط من نظام، (وهي قطعة  لا تجري على نسق معلوم ولم يتم هضمها في نفس الوقت كاتبها) [1] ولعل تعريف الدكتور نجم اقرب التعريفات حيث قال (انها قطعة نثرية محدودة في الطول والموضوع تكتب بطريقة عفوية سريعة خالية من الكلفة والرهق وشرطها الاول ان تكون تعبيرا صادقا ً عن شخصية الكاتب) [2] والمقالة بأنواعها – سياسية الاجتماعية والوصفية والتأملية والعلمية والفلسفية والنقدية تأخذ حيزا كبيرا في ادبيات مصر في العصر الحديث ولا نستطيع ان نجزم بتغلب احد الانواع على الاخر فلكل ظرف مقالة ولكن نستطيع كواقع حال لمعرفتنا بأمور امتنا نجد ان المقالة السياسية تقف في بداية الخط المقالي حيث ان (المقالة السياسية مقالة تعبر عن مضمونها السياسي تعبيرا ً مباشرا ً يلمس مواطن الاثارة في الجماهير لذلك فهي تتكئ اتكاءا ً اساسيا ً على نوعيته من العاطفة الملتهبة والمحتوى الوطني المستنفر للشعب على طريق الاتجاه الى حزب المستعمر) [3] ولا يختلف اثنان بأن المقالة السياسية قد لعبت دورا ً مهما ً في نهضة الفكر العربي و تطورت على يد رواد جيل الحركة الوطنية المعروفين مصطفى كامل ولطفي السيد والصحف التي حملت كتاباتهم كصحيفة اللواء وهي تصب غضبها ضد الاحتلال الانجليزي، وبعد الحرب الاولى ظهر جيل العقاد وهيكل وطه حسين والمازني والذين اعطوا المقالة هذه عطاء سواء ميولهم وافكارهم وكانت الحرية موضوع بحثنا هي القدحة الفكرية التي بحثوا عنها لهم وللأخرين فما الحرية ؟ اهي الاختيار الفعلي والانسان حر بقدر ما يعمل او يفكر ... اهي مذهب اجتماعي يتجه اليه الناس لتنفيذ اختيارهم وحسبنا نقف من هذه التساؤلات ! ان الحرية المطلقة بل الحقيقية لا توجد على سطح الارض بل لم تخلق حتى ان .. انها كلمة .. انها فكرة موجودة ويمتلكها الناس بدرجات متفاوتة .. وقد نبحث عن اسباب خنقها ! ولعل العامل الاقتصادي اول القيود التي تحيط بها فالانسان قد تشبه الحيوان باستجاباته وغرائزه وعاداته والذي يضعف ذهن الانسان ويحرمه من السيطرة الارقى على افكاره يستعبده او حتى التعليم المنظر و الملقن الذييؤكد على وجهة نظر واحدة وزاوية ثابتة يعتبر من اعدائها وقد نتساءل ! اتصبح الحرية حينا جيدة واخر سيئة !! ونقول نعم فالتعايش الجماعي و وحدة الصراع بين الناس تنوع مداخل الحرية فحرية الفكر والتعبير وابداء الرأي كلها تقف عل اتجاهات ثلاث ان نتمتع بالحرية ثم نمنحها الاخرين والثالث ان نطلقها حرة ..

ويرى الدكتور محمد زكي عبد القادر [4] في كتابه (ان الحرية الشخصية خلقت مع الانسان ومهما يكن البرق قديما فأن الحرية اقدم منه وليست الطبيعة خي التي ارتعبت الانسان في الرق ولا هي التي حددت حريته بالحدود التي نراها اليوم ولكن الذي حددها هو الضرورة النظامية او ضرورة الاجتماع) وقد قرأنا بين مطالعاتنا الماضية بأن الحكماء قديما لا يعذرون العبد شخصا ً بل اله حية او شيئا ً من الاشياء المملوكة لأن الحياة بغير الحرية موت حقيقي لذا من يتساهل في امر الحرية الشخصية يعد دائما ً تنازلا عن حقوق الانسانية و واجباتها ايضا) [5] ولابد من خسارة شيء من الحرية ولابد من التنازل عن جزء منها مادام الفرد يعيش في مجتمع يفقد الوعي والفكر ويعيش التناقض او الصراع وكلنا يدرك بان اطول معارك الانسان عمرا ً هي الحرية وستظل المعركة حتى يرث الله الارض ومن عليها وستظل الحرية مطلبا ً خالدا ً وغاية لا تدرك من مطالب الجنس البشري فكيف سارت الحرية في نبضات الاديب المصري كاتبا ً مفكرا ً .. كيف صدحت نغمة الحرية اقلامهم وهم يمثلون الخط الاول للوعي المتقدم .. انهم يصرخون بصوت عال .. نادوا بها كتبوا عنها .. ملأوا الصحف .. ولكنهم كالاخرين لم ولن يلتقوا بها ابدا ً

 

المبحث الاول ... الحرية والرواد من المقاليين المصريين

ما الحرية ؟ كيف بدأت هذه الحرية في الاتجاهات المختلفة في السياسة المصرية ونحن نعلم ان للصحافة اتجاهات كثيرة اهمها .

1-   الاتجاه الملتزم بخط الدولة وسياستها

2-   الاتجاه الثاني الناطق بلسان المعارضة

3-   الاتجاه المعتدل الذي لا يلتزم خطأ انما يعبر عن لسان الحال العام (رأي الجماهير)

4-   الخط الرافض او المتمرد الذي يمثل اتجاها ً متذبذبا ً بين الالتزام والخوف من المواجهة مع الاقلام .

ومن هذه الاطر الاربعة نتساءل كيف نظر الصحفي الذي اتخذ من الصحافة لسانا ً ناطقا ً وحسبنا من خلال متابعتنا ان الاتجاه الثالث (الرأي الجماهيري) لأنه يمثل الانضباط والمنطق والاعتدال ونجد فيه حرية بارزة وتفننا كثيرا والذي يلتزم بخط الدولة (الاتجاه الاول) يبقى معارضا وقد يقل عنده الجانب الابداعي الفني لأنه يكثر من السرد دون التعميق في فنية المقالة .

ومن وجهة نظرنا ايضا ان الفنية في تلك المقالات التي تمثلها تلك الاطر الاربعة قديما تختلف فيما بين تلك الانواع فأن الاتجاه السياسي من شأن المتخصصين في السياسة وعندما نبحث عن الحرية الاعلامية لأنها من خصائص الاعلاميين لكننا قد نبحث عن مدى هدف الحرية من الجانب الفني اما تؤثر فيه في فنية هذه الكتابة فربما وجدنا ان الذي قد يلتزم خطا ً من هذه الاتجاهات لابد له من اعتماده جانبا ً لتسويق هذه الالتزامات وهذا يحصل عند الجانب الملتزم، اما الذي لا ينبغي له مثل هذا الالتزام فأنه يبدو طليقا ً ولا يلتزم شيئا ً ولكنه قد يخسر كثيرا ً ان التكنيك الفني لأنه لا يسوغ شيئا ً فلا يسلك طريقا فنيا معينا الا قليلا لإتيان مشروعية فنية في الكتابة لتحقيق القدر الادنى من شروط الكتابة ومثلما قسمنا رؤيا المقاليين للحرية في اربعة اطوار نجد ان نمو المقالة المصرية قد قسمت الى اربعة اطوار ايضا ً مثل الطور الاول رفاعة الطهطاوي وسليم عنجوري وقد نشرا في الوقائع المصرية ومرأة الشرق .

ومثل الثاني جمال الدين الافغاني و اديب اسحق وعبد الله النديم ومحمد عبده وقد نشروا في الاهرام والتجارة .

اما الطور الثالث فمثله مصطفى كامل وخليل مطران ولطفي السيد وقد نشأ في عهد الاحتلال وقد نشروا في اللواء والمؤيد والجريدة [6] والطور الرابع بدأ بعد الحرب العظمى في زحمة الاحداث التي تلتها ثورة مصر 1919م وظهرت صحف كثيرة كالسياسة والاعلام ومن رواد هذا الطور محمد حسنين هيكل وطه حسين والمازني والعقاد والزيات وظهرتالصحف الحزبية والمستقلة كالدستور واخبار اليوم مع فيض كبير من المجلات كالمقتطين والكاتب المصري والرسالة .

 

 ما موقف الرواد من الحرية

اذا جاز لنا ان نسميها الحرية الملتزمة وليس الحرية المطلقة التي تحيا بها الانسان بطموح فهي بعيدة ابدا ً .. والحرية المجازفة التي نلمسها في صفحات الكتابة وهي اسقاطات الاقلام التي تبحث عنها ولن تلتقي بها ابدأ ً ! فالصراع السياسي والاجتماعي في مصر كان خطيرا ً ولا ننسى المد الغربي القادم من فرنسا بعد احتلال نابليون 1798 م فهو صراع اقتصادي فكري و تخريب داخلي .. صراع فكري ونفسي بين اربعة اطر

اتكأ بعضهم على الدين الاسلامي بعضهم على الوحدة الوطنية ولا ننسى ان التوسع في المدارس والتعليم العالي ودار الكتب قد اوجدت كلها حركة ثقافية خاصة اطلعت الجماهير على جوانب من النهضة وكانت الصحافة العامل الثاني الذي وسع رقعة القاعدة القارئة و وجهت الفكر الادبي الى قاعدة الجماهير العريضة و أضفت الادب في التعبير عن ايقاع الحس الديمقراطي وليس الغناء في بلاط الارستقراطية (منذ اوائل القرن الاخير (العشرين) خاص النشر العربي معاركه الحقيقية تحت لواء اتجاهين – الجامعة الاسلامية والجامعة الدولية) [7] اضافة الى الدعوات المختلفة كدعوة قاسم امين الى تحرير المرآة وفتحي زغلول الى احتذاء النمط العربي وسلامة موسى الى الاشتراكية اضافة الى المعارك الطاحنة بين القديم والجديد العامية والفصحى كل هذه وقفت لتغيير الشكل الفني والفكري معا عند رواد المقالة وتقف القصة في مستوى عال والمسرح يأخذ موقعه الحقيقي ايضا ً مع خارطة الابداع واستحالت المقالة موضوع بحثنا الى شكل اثير يؤلن اروع  ما خلفه الجبل، دخل مجال الابداع لفيف بين العبقريات كطه حسين والعقاد وهيكل والمازني واحمد امين وتوفيق الحكيم والزيات ولكل من هؤلاء اسلوب خاص ...

العقاد ... يلوح بأسلوبه في صرامه المنطق وترتيب المقولات وشمولية الفكر والاقتصاد في جمالية الشكل .

المازني .. الايحاء بالسخرية والرشاقة وانتقاء المفردة الدارجة والجملة المفاجئة .

الرافعي .. يلوح في بلاغة التعبير واجهاد الفكر والتوسع في الخيال وتوليد المعاني وكبرياء الثقة .

المنفلوطي .. يلوح في فضاء الشكل و زمانية المضمون الاجتماعي والعاطفة المسرفة

طه حسين: اسلوب يتميز باليسر والسلاسة والجمال وتكرار المعنى في اكثر من شكل بقصد الاستيلاء على قلب القارئ وعقله .

ومن هؤلاء الرواد .. ومن اساليبهم شكلوا الرعيل الرائد في المقالة المصرية ..

ومع الريادة .. هيل نتوقع منهم اتفاقا ً انهم في صراع فكري ومعارك ومحاكمات .. انشقوا الى تخزبات عديدة فهذا من سار على النهج المحافظ كالرامض وذاك اتخذ اتجاها غربيا كالعقاد وكلهم وزعت عليم الادوار السياسية ولأن العبقريات يرتكز عليها دائما لخدمة السياسة الغربية ذاتها لنجاح اقتصادها الهدف الاول فالغرب لا يريد ان يرسم استبيانا لمدينة بل يفجر بركانا وظلت الحركة الادبية مراقبة شاءت ام ابت والاصوات التي تكتب تتبع السياسة الغربية وهي تطعم العرب بسفسطائية تائهة وفارغة فالخطاب الادبي بعد هذا ماذا يفعل ايغير تلك الاختناقات الفكرية ايغير تلك المتاهات انها لعبة داخل الفخ الغربي .. يعجز القلم العربي ان يتغلب عليها ومع هذا فقد وقف المبدعون جدارا امام مزايا الاعداء واثبتوا لهم اخلاصهم لوطنهم وامتهم ومن صراخات العقاد التي مثلت هذا ..

واعظم بها حرية زيد قدرها      لون فقدت او قيل في السجن تفقد

ففي كل يوم يولد المرء ذو الحجى     وفي كل يوم ذو الجهالة يلحد [8]

ولعل هذين البيتين ينوحان برائحة الحركة .. فهو يقدسها ويمجدها ولا يرضى بها بديلا ان السجن لم يمح حبه للحرية او التقليل من شانها في نظره .. سنرى العقاد مدافعا عن الحق مناضلا عن الحرية كما قال:

هو الحق ما دام قلبي معي    وما دام في اليد هذا القلم [9]

 

ما موقف العقاد؟

ان التاريخ المنصف لا يستطيع ان ينكر دور العقاد وكفاحه في خدمة القضية الوطنية وكيف كان طوال حياته جهير الصوت في المطالبة بالحرية وغيرته عليها و صون الكرامة للناس جعلته يقول: (تعجبني مقالة جمال الدين الافغاني حين قيل له: ان المستعمرين ذئاب ! فقال لو لم يجدوكم نعاجا ً لما كانوا ذئابا ً) [10] وظل العقاد في معاركه السياسية ينشر على صفحات البلاغ وقد اتخذ اسلوبا ً مباشرا ً والسخرية ظاهرة منه ..

(ان البلاد على اتم الاستعداد لتأييد نوابها في موقفهم الذي وقفوه لحرية الحق في وجه الظلم والعدوان) [11] واستمر العقاد مطالبا ً بالحرية (المستقبل للحرية بعد عراك طويل)[12] في جملة اطواره وانها ليست عرضا ً منقطعا ً ترية صفحة من التاريخ هنا وهناك ثم ... صفحة تليها الى غير رجعة فيقول (ان التاريخ لم يستقم قط في اتجاه واحد كما استقام في اتجاه الحرية الفردية) [13]، وبقي العقاد مطالبا ً الادباء بالحرية ويعلن خصومته دون خوف وتردد وهو يدافع عن القيم التي امن بها بكل قواه وهو يؤكد على حرية الرأي والشجاعة الادبية ويراها المثل الاعلى في العمل الصحفي ويرى الحرية في الرأي انفس من الاستقلال قائلا ً (ان الامة التي تملك رأيها وتملك شجاعة ايمانها هي مستقلة فعلا وحقا ً ولو احتلتها فيألق الغاصبين فأذا خسرت الامة حرية رأيها وشجاعة ايمانها فلا خير لها في استقلال ولا دستور  ولا نيابة ولا انتخاب لأنها تساق سوق العبيد) [14]

وارى ان عبارة الدكتور عدنان العلي كانت صائبة جدا ً حين قال في محاضرته [15] (ان اعتناق العقاد للحرية كان عجيبا ً من زمن متخلف) وكانت في موقعها حيث ان العقاد وقف مع الديمقراطية واتخذها مذهبا ً له في السياسة وهو يؤمن بحريته ولا يرضى عنها بديلا ً ومن هنا نراه يحارب كل المذاهب الجماعية كالشيوعية لأنها تؤدي الى استبداد فرد او افراد على الناس)[16] ويرى كل قوة تنشأ من الاستبداد مصيرها الى الزوال ومن هنا قامت حملته على هتلر [17] وقد حارب العقاد الاستعمار في كفه وذهب قائلا ً (ان الاستعمار يفقد الناس الحرية .. اذ ان اباحة الحشوف العامة لكافة الافراد في كافة الاوطان مرهونة على زوال الاستعمار ومتى يزول الاستعمار ؟ متى عولت الدولة على جودة البضاعة لا على قوة الاساطيل [18] ولا يرى قيمة للأصلاح فالحكومة الصالحة لمصر سواء كانت ملكية اتحادية او جمهورية اتحادية او ماشاءت لها الاوضاع ان تكون وان مصر ليست ملكية من قديم الزمن لأنها اقل حرية او اقل اقتدارا ً على الثورة من الامم التي اختارت الحكومة الجمهورية [19] وهكذا قدس الحرية ومجدها وضحى في سبيلها بحياته وامنه وبراحته وانه لا يرضى عنها بديلا ً ان السجن لم يمح حبه للحرية او تقلل من شانها في نظره بل انه زاد اعتزازا ً بها وقد تمكن هذا الحب في نفسه حتى غدا حبين (حب الحرية الخاصة وحب الحرية لوطنه) ولن ينسى الذين حاربوه و وقفوا في سبيل حريته وحرية بلاده سيجدونه مدافعا عن الحق مناضلا ً .. ما دام القلم بيده .

وحسبنا نجد اقطاب البواعث الكبرى الاربعة متمثلة عند العقاد في (لاقوة – الحرية – العزة – الكرامة) ان نفثات الحرية تبقى تساؤلات عنده في الشعر والنثر .. فهو لا يكره الحياة بل يراها قشورا ..

قالوا الحياة قشور   قلنا فأين الصميم

قالوا شقاء فقلنا      نعم فاين النعيم

ان الحياة حياة     ففارقوا او اقيموا [20]

انه لا يتطرق بل يزخر نفسه ثقة عالية متلعا ً الى الجانب المضيء فيها: وخلاصة ما نقف عنده (ان الاساس الثاني في فلسفة العقاد هو الحرية بعد الفردية .. وله رؤى رائعة في الحرية والجمال في الجسم الانساني هو حرية وظائف الحياة فيها سهولة مجراها ومطاوعة اعضاء الجسم لأغراضها .

ويريد ان يقول ان الحرية حين نحسبها نحب الجمال واننا احرار حين نعشق من قلوب سليمة ف سلطان علينا لغير الحرية التي نهيم بها ولا قيود في ايدينا غير قيودها لأن ميزان الحرية القيد وانها لا تتنافر او تتناقض مع النظام والا غدت ضربا ً من الفوضى [21] وظلت الحرية لدى العقاد فقضيته الا يتقيد بمذهب معين او تفسر اعماله في الفن والفلسفة والاجتماع على مذهب معين .. وكأنه يشتغل بذاته ومشاعره وابداعه، انه يطلب الحرية من داخل نفسه وافكاره واحساسه وليس تقليدا ً لأحد لأنه يرى (التقليد في طلب الحرية نوع رفيع من الذل والعبودية [22] لذا وطد نفسه على هجر حياة الامن ومقابلة الاخطار بصدر رحب في سبيل الحرية حتى انتهى بالسجن ولم يزره الاخير الا اصرارا ً ...

 

ما موقف الزيات من الحرية؟

ادلى الزيات بدلوه كالأخرين و وقف من الصراعات السياسية موقفا ً وهو ينشر في وحي الرسالة مقالاته الوطنية والاجتماعية التي دعا فيها الى اعادة بناء المجتمع على اسس سليمة ونقد بها الحاكمين واصحاب الثراء .. وانتصف بها للكادحين)[23] وندد الزيات بما اسماه (الصدقة الجاهلية) قائلا ً: (الفقير الذي لا يجد القوت والمريض الذي لا ينال الدواء والجاهل الذي يستطيع التعليم والجندي الذي لا يملك السلاح) [24] وقارع الزيات الاحتلال و عبأ الشعب لمقاومته .. انظر كيف يقول (ما جدوى للسان العربي في السمع الاعجم؟ وما غناء القلم الاجوف في الفؤاد المصمت .. هذه دماؤنا تهرق وارواحنا تزهق وارزاقنا تنهب و شوكتنا تستلان وكرامتنا تمتهن وعزتنا تستذل وارضنا تحتل فهل يدفع عنا بعض اولئك ان نخطب حتى يجف الريق وان نكتب حتى ينفذ المداد وان نحتج حتى ينقطع الحجج .. والصبر في بعض الاحيان عبادة كصبر ايوب ولكنه في بعضها الاخر بلادة كصبر الحمار) [25]

وان كانت الحرية تتغنى بها الشيوعيون فهي بعيدة منهم فقد هاجم الزيات في مقالته (الشيوعية على المصطبة) فذهب الى انها لا تسوي بين الخلق في الغنى والحرية وانما تسوي بينهم في الفقر والعبودية) [26] .

ان الزيات بما اشتهر به من وضوح يميزه عن الرافعي وسماحة تختلف عن تمرد العقاد وايجاز يختلف عن استطراد طه حسين .. فقد اعطى للحرية الكثير ..

فيطلق العنان للأديب ليعبر عما يشاء من التجارب والعواطف والانفعالات وليتفنن في التصوير حسبما تتيح له مهارته ومواهبه وملكاته) [27] ان الزيات يكره الخضوع المطلق حتى للقواعد اللغوية فينصح الاديب بضرورة الاطلاع على قواعد الفن الذي يزاوله دون خضوع لها لأنه يعتقد (ان ذوق الاديب وعبقريته من شانهما ان يهديها الى صيغ جديدة في الفن تثري القاعدة وتتيح للأديب ان يتجدد) [28]

 

موقف طه حسين من الحرية ...

عطاء الدكتور طه حسين عطاء اشمل من ان يقع في محدودية صفحات عجلى ويحصر برأي وكيف لنا ان نقتحم اغزاره العديدة فهو الذي يؤكد بان الخبز وحده لا يحتاجه الانسان بل الكلمة الرائدة والرأي الشجاع والفكرة التي تنفع الناس وتمكث في الارض .

وفي كتابه مستقبل الثقافة في مصر يجسد الملامح الفكرية ويجيب 3 سؤال (ماهو واجبنا  الثقافي بعد تحقيق استقلالنا السياسي ؟ فيقول الجواب واقعي جاء وعميق

(ليس المهم الاستقلال و الحرية وانما المهم ما يتضمنانه من تبعات المهم تثبت الديمقراطية و حياطة الاستقلال)

وفي هذا الكتاب ذاته يؤكد ان الحرية لا تستقيم مع الجهل ويربط لهذا بين الثقافة وبين الحرية وبين التعليم وبين الثورة على الظلم ويقول في المصدر نفسه يجب ان يتعلم الشعب الى اقصى حدود التعلم ففي ذلك وحده الوسيلة الى ان يعرف الشعب مواضع الظلم والى أي يحاسب الشعب هؤلاء الذين ظلموه ويذلونه ويستأثرون ثمرات عمله)

ان حريته قد لبست ثوبها الحقيقي عندما وجدناه مبدع فنا ً نثريا ً رائدا ً ويكشف عن خفايا المضطهدين على الارض .. وهو يعاني من الجهد الخفي مع نفسه يرتطم ويصطدم مع الاخرين بصراع فكري جرئ  .. مع شيوخ الازهر .. فكانت حياته جهادا خاصا والعامة نضالا ولم ينزط تبعد الشذوذ وهو لم يستقر على نظرة مفصلة مهيأة او جاهزة .. انه يعاني البحث ويعتمد على جهده باحثا ً عن مهمته بيده ويختار من بين ما يراهم عشاقا ً للحرية دون وجل كالمعري .. ولم يغلق نفسه من قرن من الزمان وعصر من العصور بل امتدت انكاره .

ان طه حسين قد ارتبط بحزب الامة من خلال التيار الفكري لا من خلال التيار السياسي لقد ارتبط بالفكر الحر المتفتح مع الثقافة الغربية وكان ثائرا ً على الفكر المحافظ في الازهر وكان يبحث عن مناوئ لأفكاره التحررة الثائرة و وجد هذا في حزب الامة ذلك الحزب العربي يضم الاغنياء والاقطاعيين وحتى الفترة 1908 لم ينتسب طه حسين الى الحزب الوطني الذ يمثل الشعب شعبيته سياسته تائهه مع الدعوة الوطنية  على اساس ديني نبدأ ان اشارات الدكتور بدفاعة  عن سفور المرأة  وتحريرها من الحجاب متطرقا ً الى الحرية: (لا فرق بين المرأة والرجل في الحرية كلاهما مأمور بمكارم الاخلاق منهى عن مساوئها محظور عليه ان يتعرض لمكان الشبه فالمرأة لا تخلو بالاجنبي ولا تسافر وحدها ولا تتبرج تبرج الجاهلية الاولى ولها بعد ذلك ان تفعل ما تشاء في غير اثم ولا لغو لها ان تطرح النقاب وترفع الحجاب وتتمتع بلذات الحياة كما يتمتع الرجل وليس عليها الا ان تقوم بما اخذت من الواجب لنفسها) [29] ولم تسكت الاقلام عن هذا الرأي فقد رد حينها بعنف (وهكذا استمرت معارك طه حسين في حدتها وعفها كالاعصار لا تقبل في قوله الحق لومة صديق او ترعى قداسة استاذ لذلك فردود الفعل كانت هي الاخرى تجيء بنفس الحدة تقريبا ً) [30] واذا كانت الحية لم تغب من فكر العميد الذي يؤمن ان تحرير بلده لن يتم الا بتحرير الفرك من القيود وفيه تبدأ الحرية الحقيقية .. ان الدكتور العميد عندما شعر بالحكومات الرجعية التي ارادت خنق الفكر الحر لم يسكت فأستخدم مجابها ً كل ابداعه ناقدا ً وشاعرا ً هجوميا ً ..

ولو اخترنا من قصة خديجة عليها السلام زوج الرسول محمد صلى الله عليه واله وسلم – (وبهذه المنتوفعة على طيبات الحياة ومناعمها بنمط فريد نادر من الحرية الباطنة للمرأة وهي حرية الوجدان وحرية البدن التي يأنف ان يبيح ذاته من غير رغبة خالصة ولكن استخدام هذه الحرية لا يبيحه مجتمع ورث القيود عن الماضي السحيق ويمسي الظن بمن تمتنع مثلها على شدة فقرها وتأبى خاطبا ً ثريا ً شابا ً جميلا ً قويا ً .. نمط عال ِ من انماط الحرية الانثوية ما كانت لتكتمل نماذج المرأة الجديدة) [31]

 

المبحث الثاني . الحرية في المنثور ...

رحم الله ابا تماما عندما ناغى الحرية يوما ً

سأصرف وجهي عن بلاد عذابها    لساني معقولا وقلبي مقفلا

وان صريح الحزم والرأي لامري   اذا بلغته الشمس ان يتحولا [32]

ورحم الله المعري عندما بحث عنها قائلا ً اين الحقيقة .. يريد الحرية

نفارق العيش لم نظفر بمعرفة       أي المعاني بأهل الارض مقصود

لم تعطنا العلم اخبار يجيء بها    نقل ولا كوكب في الارض مرصود

وابيض مما اخضرت من نبت الزمان نبا     وكل زرع اذا ما هاج محصود

ورحم الله المتنبي عندما قال في المأثور ..

واذا لم يكن من الموت بد ٌ   فمن العجز ان تكون جبانا

ولو اخترنا من الرواد المصريين بعض الاقوال عن الحرية

قال احمد لطفي السيد [33] اذا كان حق الامة في الدستور هو كحق الفرد في الحرية الا يكون حرمانها من الدستور كحرمان الفرد من الحرية بحجة انه زنجي او انه لا يق{ا ولا يكتب ..)

وقال في الكتاب نفسه ..[34] (الحرية الشخصية خلقت مع الانسان ومهما يكن الرق قديمها فأن الحرية اقدم منه) ومن اقوال جمال الدين الافغاني عندما سأله قيصر روسيا عن سبب اختلافه مع شاه ايران فقال (بجرأة وفصاحة) اعتقد ان عرش الملك اذا كانت الملايين من الرعية اصدقاء خير من ان تكون اعداء يترقبون الفرص ويكنون في الصدور سموم الحقد ونيران الانتقام) [35]

 

ومن اقوال سعد زغلول *

(انني رجل قد وضعت تحت تصرف امتي عقلي واختباري ربياني فأن استعادت الامة من عملي فذلك ما يجعلني سعيدا والا فهو واجب اخذته على نفسي فأنا اقوم به لآريح ضميري اما الذي يسري ويشرفني فهو ان اكون لكم خادما ولا زعيما ً) [36]

ومن اقوال العقاد .. عندما سأله الكاتب الالماني (اميل لودفيج) (عندكم في مصر قوة تقدم  وقوة محافظة وجمود وقوة بريطانيا فإيهما يكون له المتغلب فيما تظن ؟ [37]

فقال العقاد (اتسأل عن المدى الطويل ام المدى القصير ؟ فقال لودفيج المدى الطويل ؟  فقال العقاد سيكون الغلب لا محالة للحرية بعد عراك طويل) فأعجب لودفيج بأجابة العقاد وقال له يسرني ان اسمع منك ذلك . [38]

ومن اقوال الزيات في وحي الرسالة [39] (مذهبي في الحياة يتميز بالاستقامة والوضوح .. لم ابلغ الثراء الضخم ولا الجاه العريض .. انما اضطربت في مجالي الحيوي طليقا من كل قيد الا قيد الخلق منتقلا عن كل عون الا عون الله بذلك سلمت نفسي من رذائل الوظيفة فلا حبن ولا رياء ولا ملق ورئت من نقائض التبعية فلا خضوع ولا اقصاء ولا ذلة)[40]

اما مصطفى صادق الرافعي ففي تاريخ اداب العرب تأتي مقدمته الرائعة تطفح بتلك الجرأة والحرية للمخاطبة ..

(ولتزينهم حشوا اجسامهم طينا وحمأة في زعم كذب يسمي تلك الطين طيبا ً والحمأة مسكا ً ولتجدن احدهم وما في السفلة اسفل منه شهوات ونزعات وانه مع ذلك ليزور لك ويلبس عليك فما فيه من لدن عندك يعبه الا هو عنده تحت لدن يزينه ولا رذيله تقحمه الا هي في معنى فضيلة تجمله فخذ منه الكذب في فلسفة المنفعة والتسفل في شفاعة العزيزة والوقاحة في زعم الحرية [41] ومن احاديث طه حسين [42] وذلك الكتاب الرائع الذي يرد به على مي زيادة .. عندما تسميه ابا العلاء .. فيقول (اني اكره يا سيدتي الانسه لآدبائنا ان يطيلوا النظر في المرأة واحب الا ينظروا الى انفسهم الا قليلا ً جدا ً .. ولو قرأتي الرسالة التي ارادت ان تتبين عدد المحسنات للعروض العربي من قارئاتها فأن ظفرت بأكثر من خمسة في كل مئة فأنا ظالم كل الظلم وانت منصفة كل الانصاف) وليس الحرية غائبة عن طه حسين فأن معاركه كافية لتوضح ما اباحه ولهذا كان الرد عليه محاكات واعتراضات واتهامات بالزندقة [43]

 

 من محاضرات الاستاذ الدكتور عدنان عبيد العلي رحمه الله 1997

 

بقلم الاستاذ الدكتور صدام فهد الاسدي

...........................

[1]- فن المقالة . د. محمد يوسف نجم 94 .

[2]- المصدر نفسه: 95

[3]- عن اللغة والادب والنقد: د .محمد احمد العزب 172 .

[4]- الحرية والكرامة الانسانية /69

[5]- المصدر نفسه /70

[6]- ينظر فن المقالة / محمد يوسف النجم /69

[7]- عن اللغة والادب / د . محمد العزب 166

[8]- العقاد وتطوره الفكري / عبد الحي دياب 199

[9] - المصدر نفسه 200

[10]- معارك العقاد السياسية / عامر العقاد 9

[11]- المصدر نفسه /35

[12]- المصدر نفسه /138

[13]- المصدر نفسه /151

[14]-  عصر ورجال / فتحي رضوان /272  * ولد العقاد في 28/9/1889 وتوفي في 1964م

[15]- محاضرة الدكتور يوم الاحد 30/3/1991

[16]- العقاد وتطوره الفكري – عبد الحي ذياب 136

[17] - حمل العقاد في موضوعه (هتلر في الميزان عام 1940 فكان سببا ً في هجرته الى السودان 1942م خلال الحرب الثانية

[18]- العقاد وتطوره / عبد الحي /144

[19]- المصدر السابق / 152

[20]- العقاد وتطوره 222

[21]- نفسه 226

[22]- نفسه 226

[23]- المصدر السابق 226

[24]- احمد حسن الزيات ولد في 2/4/1885 قرية مصرية وتوفي 1932 م

[25]- ينظر (احمد حسن الزيات كاتبا وناقدا . د. نعمه رحيم العزاوي 46

[26]- وحي الرسالة / الزيات ج2/20

[27]- المصدر نفسه 3/48/49

[28]- احمد الزيات كاتبا ً /50

[29]- طه حسين كما يراه كتاب عصره /194-195

[30]- محاكمة طه حسين / خيري شلبي 13

[31]- طه حسين كما يعرفه 238 .

[32]- مختارات المنفلوطي /211

[33]- مختارات المنفلوطي / 217

[34]- الحرية والكرامة / محمد زكي 68   * احمد لطفي السيد . من رواد الفكر المصري المعاصر اهلته ثقافته القانونية واتصاله بمدرسة جمال الدين اول من ترأس جامعة القاهرة وقد تولى رئاسة تحرير (الجريدة) لسان حال حزب الامة

[35]- نفسه 70

[36] - الحرية والكرامة /79

[37]- الحرية 84

[38]- حياة العقاد 205

[39]- العقاد وتطوره 173

[40]- وحي الرسالة ج4/173-117

[41]- تاريخ اداب العرب ج2/الرافعي 10

[42]- احاديث /120 يتمنى الباحث ان تقرأ الاجيال المثقفة تلك الرسالة التي افصح فيها الدكتور طه حسين عن افاق ادبية رائعة

[43]- ينظر محاكمة طه حسين / تحقيق خيري شلبي / بيروت 1972

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم