صحيفة المثقف

وأنزلنا إليك الذكر

 ali jabaralfatlawi(وأنزلنا إليك الذكر لتبيّن للناس ما نزّل إليهم ولعلهم يتفكرون) النحل: 44

  الآية الكريمة من سورة النحل تتحدث عن دور النبي (ص) في تفسير القرآن، وأن دوره هو تكليف إلهي، وقام أهل بيته (ع) من الائمة المعصومين (ع) بنفس هذا الدور، لأنهم المكلفون نصا وعقلا بحمل لواء الرسالة من بعد النبي (ص).

تنوعت مناهج واتجاهات التفسير منذ عهد الرسالة الاول حتى عصور متأخرة من حياة المسلمين، والعلماء المختصون يتعاملون مع آيات القرآن الكريم تفسيرا وتأويلا وتطبيقا كل حسب منهجه واتجاهه، ومن المناهج المهمة في التفسير هو التفسير بالمأثور، ومنه التفسير الروائي الذي يعتمد السنة وسيرة النبي (ص) وأهل بيته (ع) قرائن في التفسير.

يقول صاحب التفسير الكاشف الشيخ محمد جواد مغنية لتفسير الآية السابقة:

 الخطاب لمحمد (ص)، والمراد بالذكر هنا القرآن، ومن الواضح أن الغاية من إرسال الرسل، وإنزال الكتب هداية الناس إلى الحق والعدل وإلى حياة الأمن والرخاء، وقوله (ولعلّهم يتفكرون) معناه لعلهم يتدبرون القرآن ويدركون أسراره وأهدافه، ويعلمون أنه أنزل لخيرهم ومصلحتهم.

أما العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي يقول في تفسير آية (44) من سورة النحل: (وأنزلنا إليك الذكر) أي القرآن لتبين للناس كافة ما نزل إليهم من ذلك الذكر من أصول المعارف والاحكام والشرائع وأحوال الامم الماضية وماجرى فيهم من سنة الله تعالى، ولرجاء أن يتفكروا في الذكر فيهتدوا إلى انه حق من عند الله أو يتفكروا فيما تبينه لهم .

ويضيف العلامة: وفي الآية دلالة على حجية قول النبي (ص) في بيان الآيات القرآنية، وأما ما ذكره بعضهم أن ذلك في غير النص والظاهر من المتشابهات أو فيما يرجع إلى أسرار كلام الله وما فيه من التأويل فمما لا ينبغي أن يصغى إليه.

ويتجلى من خلال الآية السابقة من سورة النحل أن القرآن الكريم نُزّل على النبي (ص) لكي يبينه للناس، وبالتالي إذا لم يكن بيان النبي (ص) معتبرا وواجب الاتباع، فإن هذه المسألة حينئذ تصبح لغوا، وبناء على هذا، فإن كلام النبي (ص) وبيانه وتفسيره حجة بالنسبة إلى آيات القرآن الكريم، وهذا ما صرّح به كبار المفسرين عند تناولهم الآية المذكورة.

ومن جانب آخر فإن النبي (ص) قام بتفسير القرآن قولا وعملا، بل إنه أمر المسلمين باتباعه في جزئيات أحكام الصلاة والحج وسائر الاعمال العبادية، وهذا ما فعله الصحابة، فقد كانوا يرجعون إلى النبي (ص) في تفسير القرآن ويأخذون منه معانيه. وقد يكون عمل النبي (ص) تفسيرا للقرآن، روي عنه (ص) أنه قال بشأن الصلاة: (صلّوا كما رأيتموني أُصلي) وروي عنه أنه قال: (خذوا عني مناسككم) وفي هذه الصورة تكون أفعال النبي تفسيرا لجزئيات الصلاة والحج، وهذه السيرة العملية لا زالت مستمرة حتى زماننا الحاضر.

روي عن الامام الصادق (ع) أنه قال: (إنّ الله أنزل على رسوله الصلاة ولم يسمّ لهم ثلاثا ولا أربعا، حتى كان رسول الله (ص) هو الذي فسرّ لهم ذلك) .

لقد بيّن الرسول (ص) المسائل التي ذكرت بصورة كليّة في القرآن الكريم مثل الصلاة والصوم والحج، وسائر العبادات. كذلك وضّح موارد تخصيص العمومات وتقييد المطلقات، وبيّن الاصطلاحات الجديدة في القرآن، ولغة القرآن والناسخ والمنسوخ. وجميع هذه الامور كانت تفسيرا للقرآن وصلتنا بواسطة الروايات والسنة، ولا تزال موجودة كمصادر للتفسير الروائي.

وتعد السنة حجة في التفسير بشرط أن تكون موثوقة سندا ومتنا، ولا تتعارض مع ظاهر القرآن، وهذا هو منهج علماء الشيعة في التفسير، ومنهم العلامة الطباطبائي إذ قال في الميزان: وإن تعارضت مع ظاهر القرآن إما أن تأول تأويلا صحيحا يتناسب مع معنى الآية، أو يضرب بها عرض الحائط إن كانت متقاطعة مع ظاهر القرآن، وهذا هو المروي عن النبي (ص) والأئمة المعصومين (ع)، لأن الكذب على النبي (ص) والأئمة المعصومين جرى في حياتهم، وقد عدّ العلامة الخوئي (رض) أن عدم استخدام القرائن النقلية في التفسير يعتبر نوعا من أنواع التفسير بالرأي الذي لا يقرّه جميع علمائنا.

بعد أن تبين حجية سنة النبي وبيانه (ص) في تفسير القرآن، والضوابط  في التعامل مع السنة، يقول العلامة الطباطبائي: ويلحق به بيان أهل بيته (ع) لحديث الثقلين المتواتر وغيره، وأما سائر الأمة من الصحابة والتابعين أو العلماء فلا حجية لبيانهم لعدم شمول الآية وعدم نص نعتمد عليه يعطي حجية بيانهم على الاطلاق، هذا هو رأي العلامة في الميزان في الموقف من سنة النبي (ص) وأهل بيته (ع).

عليه تعتبر روايات أهل البيت (ع) ضمن شروط خاصة حجة في التفسير ومصدرا له، كما هو الحال بالنسبة للروايات التفسيرية للنبي (ص)، أي أن بيانهم امتداد لبيان النبي (ص) كما أشارت الآية (44) من سورة النحل، وهناك أدلة كثيرة نشير إلى بعض منها:

أولا: حديث الثقلين الذي روي عن النبي (ص) بصورة متواترة عن طريق السنة والشيعة حيث قال: (إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي، ما أن تمسكتم بهما لن تضلوا أبدا حتى يردا عليّ الحوض) .

ففي هذا الحديث جعل التمسك بالقرآن وأهل البيت معا شرطا لعدم ضلال المسلمين، فإذا لم يتمسكوا بهما أو تمسكوا بأحدهما وتركا الآخر فمصيرهم الضلال حينئذ.

لذا فإن أهل البيت (ع) هم حجة إلى جانب القرآن، وهذه الحجية هي حجية سنتهم (قولهم، وفعلهم، وتقريرهم) ورواياتهم التفسيرية تعتبر جزءا من سنتهم، فهي حجة ومعتبرة ولابد من التمسك بها.

ثانيا: روي في احاديث متعددة عن أهل البيت (ع) أنهم قالوا: (فإنا إذا حدثنا قلنا: قال الله عزّ وجل وقال رسول الله (ص) . ومن الواضح أن اهل البيت (ع) هم رمز العدالة والثقة ورواياتهم عن النبي (ص) معتبرة، فأحاديثهم في التفسير وغير التفسير هي أقوال النبي (ص) حيث وصلتنا عن طريقهم.

ثالثا: هناك أدلة أخرى تدلّ على ملازمة الامام علي (ع) والأئمة من بعده للقرآن، وقد رويت عن طريق الشيعة والسنة. وكان الامام علي (ع) تلميذ الرسول (ص) في التفسير، يسمع ما يقوله النبي (ص) في تبيين آيات القرآن ويقوم بنقله وروايته، وقد اتبع أهل البيت (ع) هذا المنهج أيضا، فكانوا ينقلون الاحاديث للناس عن النبي (ص) والامام علي (ع) ويستدلون بها، حتى وصل عدد الروايات المروية عنهم (ع) إلى بضعة آلاف.

وقد تصدى أهل البيت (ع) لتفسير القرآن لاطلاعهم على العلوم الإلهية، ولذا اعتبرت سنتهم – قولهم وفعلهم وتقريرهم – من مصادر التفسير وجزءا من التفسير الروائي، (جاء في حديث سليم بن قيس الهلالي قال: سمعت أمير المؤمنين (ع) يقول: ما نزلت آية على رسول الله (ص) إلا أقرأنيها وأملاها عليّ فأكتبها بخطي، وعلّمني تأويلها وتفسيرها وناسخها ومنسوخها ومحكمها ومتشابهها ودعا الله لي أن يعلمني فهمها وحفظها، فما نسيت آية من كتاب الله ولا علما أملاه عليّ فكتبته منذ دعا لي وما ترك شيئا علّمه الله من حلال ولا حرام، ولا أمر ولا نهي، كان أو يكون من طاعة أو معصية إلّا علّمنيه وحفظته، فلم أنس حرفا واحدا، ثم وضع يده على صدري ودعا الله أن يملأ قلبي علما وفهما وحكمة ونورا لم أنس شيئا ولم يفتني شيء لم أكتبه). عن كتاب (في رحاب أهل البيت – ع -) .

وفي هذا الاطار سأل رجل الامام الرضا (ع) قائلا: إنك لتفسّر من كتاب الله ما لم يُسمع! فقال (ع): (علينا نزل قبل الناس ولنا فُسّر قبل أن يُفسّر في الناس، فنحن نعرف حلاله وناسخه ومنسوخه ..)، وقال (ع) في حديث آخر: (فإنما على الناس أن يقرؤوا القرآن كما أنزل، فإذا احتاجوا إلى تفسيره فالاهتداء بنا وإلينا) . وعلى هذا الاساس قام أهل البيت (ع) بتبيين مسائل متنوعة في مجال تفصيل الامور الكلية التي وردت في القرآن الكريم وآيات الاحكام، المخصّصات، المقيّدات، اللّغات، الناسخ والمنسوخ، الاصطلاحات الجديدة في القرآن، وكذلك تبيين باطن الآيات وتأويلها ومصاديقها.

تبين لنا بالأدلة الثابتة من القرآن والسنة النبوية، أن سنة النبي (ص) وأهل بيته تُعد قرائن لتفسير الآيات.

 

علي جابر الفتلاوي

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم