صحيفة المثقف

قراءة وتأويل في المجموعة القصصية حامل المظلة للؤي حمزة عباس .. الايقونصية ومعمار النص الحداثوي

ryad abdulwahedتواجه المتلقي  في هذه المجموعة القصصية ايقونات كثيرة تستدعي تأملا، وتأويلا كبيرين . ولعل العتبات النصية التي تنتظم في الغلاف الاول هي قطب الرحى في هذا المسار. جاء النصيص (حامل المظلة) جملة اسمية، رأسها المبتدأ المحذوف (هذا)، وقاعدتها الخبر (حامل) الذي جاء على  صيغة اسم الفاعل غير العامل والمضاف الى المظلة . يتسم النصيص – حامل المظلة --- بالقصر والحذف الضمني على الرغم من انه يضم بين دفتيه عناصر ضمنية ثلاثة: الحدث، المكان والزمان بوجه عام . ويفهم من سياق العنونة تغييب \ الحامل \، والابتعاد عن افشاء، او تحديد زمن ومكان الحدث في ظل العنونة في اقل تقدير . اما \ المظلة \  فهي اداة وقاية من المطر، او الشمس، وتحيا ايضا الى معاني الحماية، ويجمعها المقوم الدلالي المشترك العميق للحياة، في مقابل معاني الضياع، والاهمال، والتعرض لعوامل الاندثار  والزوال وهي بعد ذلك متصادية مع العنوان .

ان \ المظلة \ -- بطبيعة الحال – تستدعي كائنا حيا يفتحها، او يحتمي بها، وهو ما يحرك فينا بنية استجلاء الغاىب الذي سيقاوم عوامل الزمن وتعريته وتقلباته بواسطتها . صمم الغلاف التشكيلي المبدع صدام الجميلي، واظن ان الجميلي مخلصا للشكل والموضوع معا لأنه يرمي الى ان يكون المترشح من داخل المنتوج اكثر مما يقع خارجه، ولعل المخالفة الحاصلة ما بين الصورة المنتقاة وما بين القصة التي حملت المجموعة ثرياها يضعنا في  خانة الصواب فيما ذهبنا اليه، فالجميلي يحاول ان يعطينا بواسطة الغلاف بلاغته التشكيلية الذكية والنابهة والمخالفة فيما بين الصورة والمتن وكأنه يردد صيحة (فرنسيس بيكون) من ان (الفن هو تعميق الغموض) . تحتل الغلاف الاول صورة لرجل واقف من دون رأس . وللصورة لغة خاصة بها، فلغتها وقواعدها تعتمد عللى بعدين اساسيين هما :

ا : البعد التعييني (الوصفي) والذي نتمكن بواسطته من استجلاء المرئي

2: البعد التضميني (التأويلي) الذي نستجلي بواسطته فائض الرؤية، اي البحث في كيف تقول الصورة ما تريد . ظهرت صورة الرجل من دون رأس . وغياب الرأس هو غياب الهوية وهو ايضا تحويل في حرفية الصورة نفسها لان الوجه هو الذي يكشف لنا عن خلجات الجسد، كونه، اي الوجه، صفحة المشاعر المستوطنة في اي جسد . ان الجسد من دون رأس هو جسد خام مأخوذ في عمقه البصري مما يعزز جدلية الحجب والرؤية من اجل توصيل فهم يستبعد التسطيح، لأن الجسد بنحو عام وبحسب ميرلو برونتي (موطن المعنى ومكان ولادته، فأجسادنا غير مستقلة عنا بل هي وسائلنا التي نعبر بها عن انفسنا بنحو طبيعي). تظهر خاف الرجل مظلة، وتحتل المظلة نقطة ارتكاز (في الصورة)، وتشكل ساقا الرجل مثلثا متساوي الساقين تقسمه المظلة الى مثلثين قائمي الزاوية اذا ما نظرنا الى هيكل الرجل الواقف كأيقونة هندسية لها ابعادها المحسوبة .  ان تأويل المسافة بين ساقي الرجل بأنه مثلث يعطي للصورة توازنها المطلوب هندسيا، كما يمكن ان تعطينا صورة المثلث – الوهم عدم الاستقرار اضافة الى ما تدخله من توتر في نفوسنا مرده كوننا قد نجحنا في مسك خيوط هذه المنظومة ام فشلنا في ذلك . اما حركة اليدين في الصورة فهي من ابرز الحركات التي تعبر عن لغة الجسد، وما نراه من تشابك اليدين خلف الظهر فيشي بالمعاناة من خطر كبير وقلق واحباط نفسي، بيد ان ذلك كله مسيطر عليه من قبل الحامل نفسه لأنه امسك يده اليسرى بيده اليمنى وهذا ما يدلل على السيطرة كون اليمين هي الجهة الاكثر استقرار في النص الالهي الذي يتفرد بهذه الخصيصة . يتشح الغلاف بثلاثة الوان، فالأبيض يعزز النقاء والفضيلة والاسود يمثل الغموض والانفعال اما اللون الاحمر الذي جاء فرشة للنصيص فهو من الالوان الحارة التي تجذب انتباهنا وتحفز الاثارة فينا .

يتصدر المجموعة مقطع شعري للشاعر المصري الشاب (اسامة الدناصوري) من قصيدته الجميلة (كمن يعتذر) الواردة في مجموعته الشعرية الرائعة (عين سارحة وعين مندهشة) الصادرة عام 2003، وقد اثار هذا الشاعر جدلا في الاوساط الادبية اذ كانت قصائده النثرية صيحة مدوية في عالم منخور . توفي الشاعر عام 2007 ويشير النص  من طرف خفي الى معاناة الانسان التي خلفت نهرا من الدماء بدلا من ان تخلف نهرا من الحنان والدفء . انها صيحة المأخوذ بما يعتريه من جدب عالم مجنون . لقد كان القاص موفقا في هذا الاختيار اذ انه يحاول ان يقول لنا ان مأساة الانسان المعاصر يمكن ان يجسدها الشعر او السرد على حد سواء . يحصل في المقدمة خرق اخر مع سبق الاصرار الواعي، اذ تظهر المقدمة على هيأة قصة يحاول الكاتب بواسطتها ان يقسر لنا ما ظهر على الغلاف الاول والذي يشير الى ان هذه المجموعة تتوزع بين قصة وحكاية  . في المقدمة \ النسر والحكاية \ تبدأ بهذا المقطع الشارح: (انها واحدة من مهمات القصة : ان تعيد حكاية العالم على نحو يليق بأحلامنا) . ان الكاتب – هنا – يدعونا الى تفعيل خيالنا \ حلمنا \ لتكوين عالم يستحق العيش، عالم قادر على ان يحقق جزءا مما نطمح اليه بنحو مشروع . انه الخيال الذي يصهر الذاكرة المحررة من قيود التجربة المباشرة، والعينية \ الانية وما يترشح منهما . ثريا المقدمة \ الحكاية \ تغرف من المتن الكثير عندما تنصهر مع النص برمته، وهي ميزة ينفرد بها لؤي عن غيره . فعنوانات نصوصه عبارة عن بؤرة مفخخة ينبغي التعامل معها بحذر، فهي لا ترمي بنفسها منفردة، او منعزلة عن عالمها الكلي وان بدت ظاهريا عكس ذلك . يتكون العنوان من فونيمين (كلمات لفظية) وقد صيغت على هيأة جملة اسمية (اسم + حرف عطف + اسم) . دلاليا يتألف النصيص من زمكان + مكان  مطرز بعلامات الترقيم التي تعبر عن المواقف وتشتغل كعلامات ايقونية سيميائية تسهم في تبئير الاحداث وتفجير مدلولاتها الايحائية . في بداية القصة يتداخل فعل الكتابة مع فعل التفكير  . لاحظ ان الشخصية مغيبة، شخصية هلامية، مجهولة الاسم والهوية بيد انها موصوفة بأسهاب لهذا تتحول الى علامة سردية . هكذا شخصية رسمت لكي تكون شخصية (بيكار سيكية) بمعنى شخصية مفعمة بالهواجس الداخلية، لهذا كان منتجها السردي المتمثل بالصمت صمتا غير منتج على مستوى المحكي في اقل تقدير (انه يواصل عمله بدأب صامت) القصة \ ص7 . كما نلاحظ ان المنولوجست الذاتي لم يغب عن بال السارد وهو يسرد حكايته (ما اصعب ان نحيا بهذه الطريقة : انصاف حقائق، نبتت الشظايا اسفل اثدائنا ويلوح لنا الموت في كل حين . حدث الرجل نفسه \ القصة ص8 . ان فعل الكتابة – هنا – يساوي فعل نزع الشظايا عن الجسد، والحكاية هي الحقيقة النابتة في عقل السارد وضميره، وهي وان صغرت كحبة رمل الا انها تشع لتضم العالم برمته (حقيقة تشبه الحكاية، نبتت حبة رمل في صحرائها الواسعة) \ القصة ص8 . انها امتداد لصور الاشياء النابتة في عقل وضمير السارد . كل هذا ادى الى ان تنصهر الذاكرة في معصرة المخيال غير المكبل بقيود التجربة المباشرة، خيال متنقل لا يقف عن حدود (انه يحكي كما لو كان  يطارد شبحا في مرأة)) القصة ص8 . ان المخيلة المبدعة الخلاقة – هنا – تضقي صورا مطبوعة في المخيال الذاكراتي لكنها تخضع للظاهرة الصورية ((ليس من الصعب على حكاء مثله ان يعيش في حبة رمل وان يتحول الى طائر عندما ينام)). هنا الفكرة تتراجع لصالح بنية التخييل من اجل تقديم ذات ملفوعة بالغموض لكنها متحركة في فضاء اجتماعي محسوس . ان الحكتية – هنا – متشظية ومتناثرة الدقائق داخل النسيج السردي ككل . انها عبارة عن لوحات متجاورة محكومة بمبدأ العلة والمعلول .

في قصة (اعمى بروغل)، وبروغل هذا رسام هولندي صاحب اللوحة الشهيرة ((الاعمى يقود الاعمى  The blind leading the blind )) المستوحاة من احدى مقولات السيد المسيح الشهيرة . هذه اللوحة استغلت شعريا، فقد كتب عنها الشاعر (اريش لوتس قصيدة بالمعنى نفسه في ديوانه (الليل يسطع كالنهار) كما كتب عنها الشاعر بودلير احدى قصائده . ان بروغل في هذه اللوحة يسقط احساسه الحاد بالظلم البشري على اللوحة نفسها مصورا صراع الانسان مع القوى المعادية له . تنحو  قصة \ اعمى بروغل \ منحى بورخيسيا ان صح التعبير، اذ ان الاعمى يتعامل مع العمى بنحو مغاير عما نألفه فهو ينتقل بنا من ملاحظة الاشياء الى التفكير بها، وحين يصبح التفكير بها وجعا روحيا يلجأ الى الحلم ((لم يحدث احدا في موضوع الحلم اول مرة، حاول نسيانه، لكن صورة الفلاح صاحب القصص المفزعة اخذت تعاوده في صحوه)) القصة ص15 . ان هذا العمى الاختياري ما هو الا شذوذ في الذاكرة  التي تستمرئ العمى على النظر بسبب من جحيم الذاتي والموضوعي . انها رؤية العالم بنحو جديد يتخطى فيه السارد عتبة الواقع ببصير داخلية قادرة على استكناه مدياته غير المنظورة  . ان الكاتب يبدع في عملية مزج الكلمة بالصورة ليعطينا بنية ائتلافية بواسطة مجموعة من المتعارضات المتصافحة التي تنعكس بنحو متنوع في ذهنية المتلقي .

في قصة \ حامل المظلة \ التي تحمل المجموعة الاسم نفسه ثريا لها والذي فصلناه كعتبة اولية يجسد السارد نظرته الى التفاصيل الدقيقة في حياة الانسان وخاصة عامل الزمن . ينفتح النص بداية على التصوير الفوتوغرافي الذي يحاول التركيز على بنية الاسترجاعات الذاكراتية  لتكون نقطة الانطلاق السردي . يبدو وصف الصورة طبيعيا في بادئ الامر، ربما تكون مطابقة للواقع الا ان قراءة السارد لها يضفي عليها تأويلات مما يجعلها ابعد من التماثل الذي نراه ظاهريا . لقد جاءت الشخصية الرئيسة \ حامل المظلة \ كذات مرئية لانه موضوع الصورة الكلية، حتى يمكن الخروج بالصورة من وظيفتها الايقونية الى وظيفتها الابعد لكي تحتل مساحة من المكان القصصي اضافة الى عملية اللعب بالزمن بواسطة مجموعة من الانثيالات التي استجلبت مجموعة من رؤى الماضي . ان لؤي يتميز بأنه متمكن من الدمج بين زمنين : زمن المخاض الابداعي والزمن الذي يغطيه الخطاب السردي . فالتأطيرات الزمنية داخل النص لا تتسم بتحديد زمني دقيق بيد انها متحررة من اسار التحديد التاريخي الصارم . انه يخوض صراعا مع بطل مضاد هو الزمن لكنه لم يستسلم له: (انها المرة الاولى التي اتخلف فيها، ذلك ما قلته لنفسي وانا اهرول فاتحا مظلتي) القصة ص30 انه يخوض معركة قاسية مع زمنه بيد انه لم يكن منفصلا عنه، انه مدمج بزمنه حتى وكأنهما يبدوان غائصين في التجربة الشعورية لكل منهما .

 

رياض عبد الواحد

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم