صحيفة المثقف

في نصوص من مجموعتها الشعرية: أمشي على حروفٍ ميتةٍ

adnan aboandolisالشاعرة الإيرانية ساناز داود زاده  فر – آلية المرونة الحركية فنياً

قدّْ يبدو لأولة وهلةٍ، من أن تسمية المجموعة الشعرية " أمشي على حروفٍ ميتةٍ " للشاعرة "ساناز " وكأنها متحفزة حركياً – سيراً، قفزاً، رقصاً – هذه  المفردات الثلاثية تنطبقُ على ماهية الحركة – أمشي – وقد تلائم القول المألوف والمتعارف لفظاً " أمشي على رؤوس اصابعي " لكن هنا يظهر الإختلاف – حروف ميتة – رؤوس أصابع،هذه الحركية بدءاً تشكل ديناميكية فائقة في التوصيف، فالمعنى العام للديناميكية،هي التي يتركز بناؤها على حركة الأشياء بتحفز آلي رغم كنهة  جماداتها التي رصدت تحركاتها بتلك الهزات المتعاقبة –المتتالية –المتتابعة " آلياً " بسبب العلة الناتجة عن إزاحة قوة متسلطة عليها، وكما وردت –دينامية النص في إتجاهات نقد الشعر العربي المعاصر " الدينامية التي تحكم النص وماينبغي التذكير به هنا،هو أن النص ينبني على " البساطة البنيوية والتعقيد المنظم، أو السكون والدينامية، أو التوازن واللاتوازن أو الإنفتاح والإنغلاق أو الأستقار والتكوين التشكيلي " *1 \ فنأتي بنموذج قد وظفتهُ في نصوصها بهذه التمظهرات التي ذكرت  وأكثرت فيهاِ ألا وهي مفردة " الرقص"  المحور الدال على الحركية  بكل تفاصيل مايطرأ على الشكل " الجسم " من تغيرات وتبدو ظاهرَ للعيان، كما في الأشياء الاُخرى من تصادم – هزات – وغيرها .

وكما أوضحنا بأن " الديناميكية " حركة – نشاط، قوة – حيوية،  إذن لابد من أن تتسم هذه الأشياء بحوارية تتخذ جانب من المرونة رغم جماديتها، حيثُ يتم الإنسجام فنياً – عزفاً – لحناً –تطريباً –نغماً، اُلفة في التقابل والتماثل، لأن الطاقة كامنة في نفسية الفرد كما في الجماد، فالفرق هو- الروح المتجددة –في الإنسان –أما الجماد فلهُ مركز نشاط آلي كأن يكون –بطارية – كنترول –وغيرها من محركات الآلة، حتى تظهر هذه الحركات فنياً في رقصات التصوف " المولوي " والتي نراها في دورانهِ حول نفسهِ، كأنما يحلق بها نحو الُعُلا –سمو الروح – يدور حول نفسهِ بآلية ديناميكية قد يحسُ بأن – الكون – يدور معهُ، هذا مانتحسسهُ في نصوص الشاعرة المستلة من مجموعتها، فالحروف الميتة التي ربما نفهمها ببساطة هي – حروف مهملة لفظاً – كتابةً أو غير ذلك وقد تكون لـ لغة منقرضة –بائدة . كما نعلم من تتبعنا لنصوص الشاعرة بأنها ليست لها أسماء، بل هناك مفردات طاغية بتوهجها في المتن، يمكن أن نعول عليها بعنونة تلائمها و كـ غطاء مسمى لها فـ النص 1- يمكن أن نسميهِ تصْدّع \ الثاني – خيارات – الثالث – رقصة ، وهكذا جرياً، ومن المعلوم بأن مفرداتها تحملُ نزعة حركية غير مستقرة حتى في الجماد، لهذا تشكل برمتها أي –النصوص – طابعاً ديناميكياً يغطي بنية النصوص بهزة وجدانية وبشكل آلي مرن ومتحفز فنياً، وسنقدم النصوص المستلة تباعاً:

 

النص الاول:

إِذا زُلِزلَ أَيُّ مكانٍ فِي الأَرضِ

سيتَصدَّعُ بذلِكَ، أَيضًا، قَلبي

الَّذي كانَ يظنُّ

أَنَّها كالمهدِ

ستُنِيمُ هزَّاتُها آلامِي.

يَا أَرضُ

هلِّلي غِناءً لأَخطائِك.

في مستهل هذا النص، أقحمتهُ  بحركة في جماد " زلزِلَ" ناتج عن قوة ونشاط طبيعين يحدثُ تحت الأرض، بسبب ضغط  تراكم،هذا جاء نتيجة اضطراب في الأشياء الجامدة، فكيف بها وتمتلكُ مشاعرَ متحفزة وقلبٍ سيال بحيوية، ألا يتأثر، يتصدع من مشاهدَ يومية ومنظورات حياتية ترصدها كل حين . هذا التأثر بالآخر –الجماد –ربما يعود لاقتران التكوين " الأرض - أُنثى –الشاعرة كذلك، حيثُ تتشابه عناصرهما معاً طبيعياً – النار –الماء –الهواء –التراب –فالتأثير بايلوجي ظاهر في الصورة الغاطسة بالتشبيه – زُلزِلَ – هَزّة –تصدّع –وهكذا جرياً وراء تأثيراتٍ متشابه للحدث –كماً ونوعاً –تكويناً وتأثيراً، كونهُ أي " الحدث، يقع تحت التحسس المباشر لأية ظاهرة كونية –صوتاً، دوياً، ارتجاج،  رجرجة ..... فالحركة هنا –توافقية – تماثلية –تآلف حِسي بينهما رغم جمادية الآخر، يلاحظ ظاهرة نضوج النصوص لدى الشاعرة، بما يتلاءم مع رؤاها الحسية  وحسب ادوين هوبك  " انتصار الواقع الحسي ..... الشعر الناضج "  * 2 \ فالأرض والشاعرة، حيثُ نرى التماثل الظاهري في العمق –شعور – خزين – وغيرها من مكملات التكوين،قد أثرت أو تأثرت في تقابلها وتماثلها القسري آخذين بنظر الإعتبار –العقلي، ويلاحظ من أن مفرداتهما موائمة نسبياً نتيجة الحركة التفاعلية في تنشيط الحركة –زلزال –مكان = الأرض

الحركة – تصدع – قلب =  جنس، هكذا تتماثل وتتقابل مفرداتها في أكثر نصوصها وكما ياتي:

 

النص الثاني:

جميعُ الخياراتِ مطروحةٌ علَى الطَّاولةِ؛

أَن ترسُمَ الصَّباحَ علَى كلماتِكَ.

أَن أَركُضَ بجانبِ غيابِكَ.

أَن نصلَ (إِلى الحبِّ) بيدَيْنِ أَو شفتَيْنِ.

أَنتَ لمْ تَزلْ

تَصبُّ الصَّمتَ فِي زجاجةٍ،

وأَنا أَشربُ منْ تخيُّلي لكَ.

هنا جاءت الشاعرة " ساناز " بقصدية في أسطرة هذه الجملة، وكأنها أرادت من إلقاء حجةٍ وما، وقد غدت تترقب شروطها بتنفيذ، فهذا النص يتوالد منهُ  ذهنياً شيءٌ آخر، فذاك يعني من أن المتن وظف لهذا الغرض، فـ جملة " جميع الخيارات مطروحة على الطاولة " إلقاء حجة قصدّية بتتابع نتائجها رويداً وما ينتج عنهُ، لكن بشرط التطبيق العيني من الطرف الآخر . أن ترسم –اركض – تصل –تصب –أشرب –هذه المفاتيح لمستغلق قد يبدو مستحيلاً لكنهُ ممكناً من فتحهِ رغم التضاد بين مفردات باذخة في المراوغة والتعتيم، إلا أنها نسجت حبلاً متيناً لقوة السحب = قوة – جذب ودفع – من التقارب الحميمي بين نسق الجملة –أن ترسم الصباح بين كلماتك وبين التفاؤل –بيوم جديد –حقاً روعة في التوظيف رغم بساطة الجملة بمفرداتها الاعتيادية لكنها شكلت حضوراً فنياً  رائعاً بهذا التسطير البهي –إستهلال الصباح يمثل –الخير –إطلالة قدسية لإشراقة  نور – بديعٌ هذا التجلي بروحٍ ملؤها التفاؤل والحدس والإستصباح الجميل –لقاءٌ مزهر للروح بعد عتمة امتدت بليلٍ مروع . إلا أن –أن أركض بجانب غيابك،لها وقعٌ الإخفاق في نفسية الطرف الآخر بما يتضمن –البعاد –الجفاء –لكنها لها من المحمولات الدلالية العميقة في رسوخ الفكرة وإستجلاء  المعنى –الموقف – مايختمر فيها في الخفاء . فأودع تسطيرها بـصيغة –هو – أن نصل " إلى الحب " بيدين أو شفتين –صراحة في الطرح وجرأة مذهلة في التوظيف –فالنتيجة واضحة من تساوي الكفتين، وهذا الشعر الخالص الذي عبر عنهُ الناقد الفرنسي " بري – جفرفروي* 3 \ " يقول: " الشعر الخالص هو اللحظة العليا التي يتسنى فيها البيت –بطريقة منسجمة مع مضموماتهِ، أنهُ الشعر الذي لم يعد يريد أن يقول شيئاً،وإنما يريد أن يغني فحسب " ........بهذا المقطع زاوجت بين مفردتي – التقابل والتماثل – كي تستمكن من مطاوعة المتن والإمساك بهِ كخيط دلالة للوصول إلى الناتج ..الخيارات مطروحة سلفاً على طاولة الإختبار العيني  .... لذا يتوجب على الآخر الإمعان في تتابع الحدث والحصيلة النهائية،  ومايتمخض من تطبيقها – حلّها – فك رموزها – فهي تدخل من باب الإختبار القلبي، لكنها أي –الخيارات – جاءت بصيغة التضاد –أما ما يشبه التماثل القهري ... ألضدي ..لكن ليس من العسير استمالة التفاعل مع مفردة ما من هذا النص . جانب غيابك \ نصب =الزجاجة \ أن نصل " إلى الحب " = بيدين وشفتين \ أشرب =خيالك \ خيال متسلط = اللذة المقدسة في جانبها النفسي . ولها رؤى في نصها الآخر تقول:

 

النص الثالث:

قدْ أَسقطُ فِي مكانٍ مَا

لمْ تُولَدُ الحروفُ فيهِ بعدُ،

ولا يوجدُ تدقيقٌ بأَيِّ تفكيرٍ.

هناكَ بثيابٍ منَ الزُّهورِ

سأَرقصُ وأَنا أَتذكَّرُكَ،

وسأَنقشٌ رَقصتي فِي حَجرٍ،

وحتَّى بعدَ بليونِ سنةٍ

سيكونُ الحبُّ معنَى هذهِ الرَّقصة .

حسب كما نوهنا عنهُ سابقاً، بان الأشياء لم نسمها،بل تركناها للمناورة، حيث الشاعرة إستدركت ما قلناهُ – فجاء بدءاً نصوصها بلا عنونة، ربما تركتها على هداها " كما يقال " إستنتاج للمتلقي في ما بعد ؟ .. حيثُ المجهول يقود للمعلوم – مكانٍ ما – لم تعين موقعهُ، ربما ورد للتمويه ألقصدي والإخفاء – بعيداً عن ديناميكية بحسها وحركتها قد تكون سائرة على إيقاع خفي كـ تلك الأشياء غير المسماة – أي قبل حدوثها، أما الأشياء " الحروف " التي أرادتها، لم تكتب بعدُ، لم تدون أو تخترع، ففي هذه الحالة لاغبار عليها من تفكير في ماهية الأشياء التي أرادت الإفصاح عنها، بل نسجت من خيالها ثياباً عِطرية من إهزوجة راقصة من الزهور بحركة فنية – حِساً –نغماً \ فكان لها ما أرادت مناورة في حرف " السين " سوف \ أرقص – أنقش – يكون –كلها حركات إيقاعية منغمة في متن النص المتسربل في فيض من شعور مؤجل . هكذا بنت الشاعرة " ساناز " رؤاها في لحنٍ شجي، وبساطة رصينة قد احتفظت بعفوية الأشياء،  فهي تُرقص بفنية محكمة وتقنية بحنكة، فهي تدخل ضمن البساطة المؤثرة بحسب قول " أندريه بريتون " " الا تظن أنهُ يجدر بنا أن نتحرز من المتأنقين المفرطين في البهرجة والتزيين " * 4 \، لكن لبساطتهما شكلاً ومعنى عمقاً برمزيتها المعتادة،لذا جعلت هذه المفردات تتراقص بتحفز مرن ومواءمة متقنة، هذا البهاء اللحني جعلها تنقش رقصتها في حجر وكأنها تستنطقهُ بإيقاع لتلحينها، عازفة وعازمة أن تكون رقصتها والأشياء المختارة " للحب " ذات معنى بحجم فرحها ودلعها سيما وانها في ربيع عمرها الشعري والزمني، فرجرجة الجسد المصمم لهذا الإيقاع يلائم سنوات عمرها الغض، تنقشهُ في ثنايا روح ملتاعة للمستقبل أبداً .

 

عدنان أبو أندلس

...........................

الهوامش

*1- الشعر العربي في نهايات القرن العشرين –محاور جلسات الحلقة الدراسية –مهرجان المربد التاسع – عادل خصباك –دار الشؤون الثقافية العامة –بغداد 1988

2*- مجموعة مقالات نقدية –منشورات وزارة الثقافة والإعلام –بغداد – 1980

3* - كتاب ثورة الشعر الحديث –من بودلير إلى العصر الحاضر –الجزء الأول – د. عبد الغفار مكاوي –النهضة المصرية العامة للكتاب -1972

*4- كتاب أُفق الحداثة وحداثة النمط – دراسة في حداثة مجلة " شعر " بيئة ومشروعاً ونموذجاً –سامي مهدي – بغداد –1988

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم