صحيفة المثقف

مدينتي كطائر العقاب

نسيم البحر في مدينة اولوسند داعب ذكرياتي العراقية العتيقة، كنت واقفا على الجسر الكبير في وسط المدينة وبجانبي صديقي روجر، كان قد حدثني كثيرا عن مدينته ودعاني الى جولة فيها بعد انتهاء مهام العمل، كم كان فخورا بمدينته كما كنت مزهوا بحضارة بلاد الرافدين.

كانت النوارس بصياحها توقض ذكريات جسر أم الربيعين العتيق بكل ما يحمله من معاني للمدينة، ونوارسه وترحيبهن صباحا بكل أطياف الشعب العراقي.

فأخبرته عن العتيق وكيف يقام عليه كل صباح معرض للازياء الشعبية، الشال والشبك الكوردي، الصاية والزبون، الشراويل، والمكرومة واليشماغ. مهرجان بكل معنى الكلمة.

957-mad

أجابني مبتسما ونحن كذلك لدينا يوم في السنة هو اليوم الوطني يرتدي ابناء المدينة الزي الشعبي (البوناد) للمنطقة التي هم أصلا منها ويخرجون الى المدينة.

اجبته منتصرا في هذه الجولة.

- لديكم فرحة بتنوع ملابسكم يوما في كل عام أما فرحتنا بجمال فسيفساء مدينتي فهي يومية.

هز رأسه موافقاً. كم كنت فخورا بهذا النصر.

بعد أن صعدنا الى الجبل المنتصب كمراقب على المدينة، جلسنا على قمته في مقهى اسمه (صالة الجبل) واصبحت المدينة وكل خلجانها تلمع أمامنا على مد البصر كجوهرة تحت أشعة الشمس، أخفيت عن روجر امنياتي بأن تصبح مدننا العراقية بهذا الجمال، لأنني توا قد تفاخرت عليه وانتصرت في جولة عراقية نرويجية نادرة الحدوث.

فاجأتني كلماته وهو يقول لي هل سمعت بحريق اولوسند؟

- قلت له لا . أجابني وهو يشير الى المدينة بكل أرجائها

-  مدينتي الحبيبة ..هذه احترقت كلها في يوم عاصف أخذ الحريق 850 بيتا وترك ما يقارب عشرة آلاف نسمة ونصف بدون مأوى. وبدأ يشير الى الاماكن التي احترقت بالتفصيل ويشرح لي بحماس، لم يبقى شيء يذكر من المدينة.

انطفأت الجوهرة أمامي كما انطفأت نينوى ذات مساء.

بدأت بعض الكلمات تدور برأسي وتستدعيني للمقارنة، احترقت، أحتلت، أشتعلت المدينة، أنتهكت المدينة.الخ الخ.

 هبت نسمة هواء عليلة جعلتني أفتح ذراعي وأغمض عيني واتنفس بعمق هواء نينوى، وعندما فتحت عيني أيقنت أنه توجد أحلام اسمها أحلام اليقظة، لكنها لا تدوم تطويلا.. الواقع كفيل بها.

قدم لي روجر سيجارة على غير عادة النرويجيين، وقال ما رأيك بسيجارة أمام هذا المنظر الرائع.

شكرته موضحا: مع الأسف تركت التدخين منذ سنين.

نظرت الى المدينة وحدثت نفسي.. هذه المدينة كانت ذات يوم خرابا وأعيد بنائها، هذا يعني أننا قادرين على بناء مدننا.

فسألته أين بدأ الحريق؟

أجابني مستغربا، لقد أحترق معمل التعليب الاساسي في المدينة؟

شكرت الله في سري، أن معاملنا سليمة، صحيح واقفة عن العمل لكنها لم تحترق.

شعرت أنني سوف آخذ بعض الأفكار وأنقلها الى العراق لنستفاد منها في إعادة بناء مدننا.

سألته ما الذي حدث مع آلاف المشردين قال لي بقوا في المدينة وعاشوا فيها.

قلت في نفسي ، كذلك في العراق هناك كثير من الاهالي لم يغادروا المدن المحتلة.

فجال ببالي أن اعرف مكان سكنهم، فسألته أنت قلت لي أن 850 بيتا احترق في ذلك اليوم، اين سكن الناس؟

- هذا الحريق حدث في 23 كانون الثاني عام 1904 بحدود الساعة الثانية والربع، وعندما وصل رجال الاطفاء الى مكان الحريق كان النيران قد ارتفعت لعدة أمتار فوق المعمل، كان الهواء عاليا فقابل رجال الشرطة دخان كثيف وأمطرت السماء شرارا عليهم، فأضطروا لضرب الاحصنة بالسوط لتتقدم واضطروا اخيرا للهرب بعيدا وأشار الى شارع في طرف المدينة، لأن العاصفة في ذلك اليوم حرصت على نقل النيران بين البيوت الخشبية بسرعة مذهلة، واستمر الحريق لخمسة عشر ساعة.

كان الكثير من ابناء المدينة واقفين في تلك الليلة، في هذا المكان الذي تقف فيه الآن وينظرون الى بيوتهم تأكلها النيران وهم بلا حول ولا قوة في مواجهة غضب الطبيعة. فعاشوا اربعة سنوات في كرافانات، لتصبح مدينة اولوسند أحدث مدن اوربا في عام 1907.

سألته

 - هل كان خيارهم البقاء في المدينة؟

- شركات التأمين عرضت عليهم مبالغ من المال للعيش في المكان الذي يريدونه حتى ينتهي العمل، لكنهم اختاروا البقاء في مدينتهم.

- لماذا، اختاروا البقاء؟

استعجب السؤال وكأنني أحمل أفكارا من كوكب آخر، وأجابني بهدوء.

- لأنها مسقط رأسهم، ألم تسمع بشيء اسمه الوطنية وحب الأرض؟ المدينة تعيش بحب ابنائها.

- نعم، نعم بكل تأكيد.. نحن كذلك.

نظرت اليه بنظرة ناقدة تعني وكيف تظن غير ذلك. شعرت أن موازين المقارنة بدأت تختل .

ما كان يغيضني في حديثه تمسكه بلهجته هو واصدقائه، وتركيزهم على استبدال معظم حروف الراء الى غاء، امعانا بخصوصيتهم، وأنا إبن الموصل ولهجتي مثل لهجتهم، لكنني في عام 2011 شذبت اذاني على طول فترة رحلتي باحثا عن القاف والغاء.. ذهب انصاتي عبثاً.. سمعت العجل واليول.

أمسك روجر بكتفي وسألني تبدو شاردا.. أجبته نافيا وطرحت عليه سؤالا جديدا:

- من أين جاءوا باليد العاملة لبناء المدينة؟ سألته لأتعرف على العقود التي أبرمت وكيفية توقيع عقود اعادة البناء مع الشركات الاجنبية.

- الكثير من الناس الذين فقدوا بيوتهم، هم أصلا من قرى مجاورة. عادوا بعوائلهم الى قراهم وهم عادوا للعمل في إعادة بناء المدينة. وكانت الشركات المحلية مع بعض الخبراء الألمان كافية لأنجاز المهمة.

- الم يؤدي هذا الحدث الى خلافات بين الناس، وحدود الملكيات؟ وحجم التعويض؟

- لست متأكدا مما تعنيه؟ ونظر في عيني ينتظر توضيحا لكنني بقيت صامتا، فاسترسل.

- في ليلة الحريق فتحت ابواب كل البيوت للجميع، وفترة العيش في الكرفانات عززت أواصر الترابط بين الجميع.

استعذت بالله في سري، وسألت نفسي لماذا لا يوحدنا الألم والوجع الأنساني.

بدأت هذه المقارنة تزعجني. ففكرت بيوم تحرير المدن العراقية وكيفية التعامل مع الضحايا..فسألته.

- كم عدد الاشخاص الذين لقوا حتفهم في تلك الليلة؟

قال لي متأثرا، كانت ليلة عاصفة وجو مثالي للحريق، رغم ذلك تكاتف الناس، وارسلوا ابنائهم لمساعدة بعضهم البعض. فمع الأسف ماتت سيدة تبلغ من العمر 76 عاماً كانت مهتمة جدا بأخراج مقتنياتها من البيت. وبعض الناس أصيبوا بحروق بسيطة.

فلم أتمكن من أخفاء ابتسامتي، ثم ضحكت وانا أنظر الى المدينة تتحول الى جوهرة جديدة أمام عيني.

سمعت صوته وبنبرة مربي فاضل.

- حتى انسان واحد فهو كثير، ألا ترى ذلك يا محمد؟ أجبته بكل تأكيد بكل تأكيد.

ضحكت مجددا وقلت له لقد قررت العودة الى التدخين أعطني سيجارة وقهوة ودعنا نتمتع بجمال الطبيعة.

قلت في نفسي، ليست أكثر من مقارنة فاشلة، تراثنا وأصولنا أعرق منهم بألف مرة.. نفخت التراث والثقافة مع دخان سيجارتي، فتلاعب به النسيم وضاع ليس بعيدا عن وجهي.

وبقيت انظر في الافق البعيد وأكرر في نفسي ستنهضين يا عنقاء، ستنهضين يا عنقاء.. وستغسل يا نهر الموصل آثار القدم الظلامية.

 

محمد سيف المفتي

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم