صحيفة المثقف

شعب (ما عدا مما بدا)

المعروف ان مقولة (فما عدا مما بدا) تُنسب الى الإمام علي كما جاءت في نهج البلاغة. وكان الشريف الرضي يقول انه أول من سمع من الإمام هذه الكلمة.

لكن من المدهش ان يكون لهذه العبارة أثر بارز لدى الثقافة الشعبية السورية، في حين من الغريب ان يفتقد هذا الاثر كلياً لدى بلدان مثل ايران والعراق وغيرهما. بمعنى ان هذا الاثر لم تتداوله الثقافة الشعبية الشيعية فيما تداولته الثقافة السورية بكافة اطيافها، كما تُظهره مشاهد الكثير من المسلسلات السورية الرائعة.

ويا للحزن فقد تمّ تدمير شعب (ما عدا مما بدا) بمطرقتين سياسية وطائفية؛ بما لا يقارن في دماره مع غيره من الشعوب العربية.. وحقّ له ان يردد على الدوام: فما عدا مما بدا..

لقد كان الشعب ضحية غولين: غول السياسة التي دفعت بالامور الى ما هي عليه بفعل طغيانها واستبدادها، وقد ساندها في ذلك عدد من الجهات الدولية والحزبية حتى وهي ترتكب ابشع الجرائم.. وفي قبالها غول الطائفية القاتلة ومنها تلك الوحوش التي انسلّت من اغوار الكهوف تعطشاً للدم والذبح.. وكانت النتيجة ان صفيت الارض بلا شعب، وارتسمت خريطة جغرافية ممزقة وتكاد تكون خالية من البشر سوى الذئاب المفترسة بأطيافها المتنوعة.

وما زال الكثير يصدق كذباً بأن اصل المشكل طائفي.. فللاسف قد شاعت لدينا هذه الثقافة التي تصور التكتلات السياسية بانها ذات طابع طائفي. وهناك من يلعب على هذا الوتر الفتّاك.

وقت الشباب كنا في العراق ايام سبعينات القرن المنصرم ونحن نسمع شيئاً من بعض الثقافة الشعبية التي تتردد في الافواه احياناً بأن نظام سوريا يمثل رمز التوجه الاموي على طول التاريخ والى ايامنا الحالية. ولم يدرْ ببال احد ان تُتهم السلطة السورية بالطائفية العلوية والشيعية، مع ان كل توجهاتها ومؤسساتها وخطاباتها وقوانينها ومناهج تدريسها ومساجدها لا تنتمي الى الروح العلوية ولا الشيعية. فروح البعث كحزب علماني هو من يدير البلاد العامة. وهو الحال ذاته لدى بعث العراق عندما حكموا البلد خلال السبعينات والثمانينات وحتى مطلع التسعينات.. ففي اواسط السبعينات كان الكادر البعثي يتهمنا نحن الشباب الشيعي المتدين باننا من اخوان المسلمين من دون ان يميز الانتماء المذهبي لهذا التنظيم، فهو لا يعرف سوى حزب ديني واحد فقط هو الاخوان، وهو حزب محظور وان لم يكن له وجود فاعل، ثم اخذ يبرز لديهم اسم حزب الدعوة اواخر السبعينات ومطلع الثمانينات شيئاً فشيئاً. وبذلك بدأ التمييز بحسب الانتماء المذهبي. والاهم من ذلك ان المتابع لا يجد شيئاً يلفت انتباهه بأن للسلطة توجهات طائفية، لا في مناهج التدريس ولا في قوانين البلد ولا في خطابات السلطة. من المؤكد ان من حسنات النظام انه حافظ على الاسم الثلاثي الذي لا يعرّف بعشيرته ولا طائفته. كل ذلك ذهب مع حالة الضعف التي وصل بها النظام بعد هزيمته في حرب الخليج الثانية وبروز الانتفاضة العظمى لدى اغلب المحافظات؛ فأخذ عند ذاك يتمسك بالروح الدينية بل والطائفية احياناً لاجل انقاذ نفسه من السقوط.

ما يعنينا من ذلك هو ان النظامين في العراق وسوريا يتشابهان كثيراً من حيث توجهاتهما، وهما لا يعنيهما الامر الطائفي ولا الديني، رغم شدة بطشهما بالمعارضين مهما كان انتماؤهم ومذهبهم وعرقهم وقرابتهم.

ان ما يثر الانتباه هو ان الكثير من المثقفين لم يعد لديهم حرية القرار وتفعيل الضمير الانساني، فهم منحازون سياسياً على حساب الشعوب هنا او هناك، رغم ان السياسة هي ذاتها تكشف عن نفسها يوماً بعد آخر بأنها قذرة ومقرفة غاية القذارة والقرف، سواء استعرناها من الشرق او من الغرب، من الشمال او الجنوب، من هذا التوجه او ذاك، وسواء كانت قومية او مذهبية او دينية او وطنية او يسارية او ليبرالية التوجه. فكلها لا يعنيها القيم الفاضلة ولا الانسان بوصفه انسان.. واذا كان هناك شيء من الشذوذ نجده لدى بعض الشخصيات، فهي عزيزة ونادرة للغاية لا يقاس عليها، فهي كندرة الانبياء وسط الأمم الضالة. لذا فالأصل في السياسة هو الشر، وإن كان لا بد منها.

ان جميع الاسلاميين الذين حكموا العراق بعد الاحتلال كانوا خلال السبعينات فئة تجمعهم مع كل المتدينيين تشابهات القيم الفاضلة. أما وقد دخلوا السياسة بدافع التغيير والاصلاح فاذا بالسياسة تفسدهم من اول ما استلموا المناصب، يكفي انهم تقبلوا سرقة اموال الشعب بعنوان المحاصصة، كما تقبلوا الطائفية رغم ان فيها هلاك الجميع. ورغم كل المآسي والمحن والفوضى والطريق المسدود فانهم ما زالوا يتكالبون على الكراسي والمناصب بلا حياء..

وبودي ان اتساءل: اذا كان هؤلاء الذين كانوا أخياراً من قبل قد وقعوا بمثل هذا الفساد المستشري، فما الذي يضمن لنا ان لا نكون مثلهم فيما لو تقلدنا هذه المناصب المسمومة..؟ فمثلما قد جمعتنا بهم تلك الايجابيات خلال فترة الاضطهاد والاستبداد، فلماذا لا يجمعنا بهم الفساد الذي هم عليه الان خلال رفاههم السياسي والمالي؟..

نعود فنقول: يؤسف له انه بالرغم من تشابه النظامين في العراق وسوريا عند قوتهما وجبروتهما، فان الموقف ازائهما لم يكن موحداً لدى المثقفين عادة. فمن المنطقي افتراض ان من يؤيد هذا النظام يؤيد الاخر، للتشابه الكبير بينهما، وكذا فان من يدين احدهما ينبغي ان يدين الاخر. لكن كشفت الايام الحالية فجوة التناقض في مواقف الكثير من المثقفين نتيجة الضغوط الطائفية عليهم بوعي وبغير وعي. فالكثير منهم وقفوا ضد نظام صدام باعتباره مارس ابلغ حالات انتهاك حقوق الانسان من البطش والفتك والتعذيب والقتل والتهجير، لكنهم تصالحوا مع النظام السوري رغم ان اغلب هذه الانتهاكات قد مارسها هذا النظام وما زال. او على العكس، فهناك من دافع عن نظام صدام بقوة فيما عارض نظام بشار واتهمه باتهامات باطلة قائمة على الطائفية، وهي تذكّر احياناً بالبعض الذي اتهم نظام صدام حتى في زمن هيبته بانه نظام طائفي، وليس لديهم من دليل سوى الدليل الاحصائي الذي لا يغني من جوع، وهو ان المقربين اليه في السلطة اغلبهم من السنة، مع ان الصحيح هو ان اغلب المقربين اليه في السلطة لا يمثلون السنة بل يمثلون عشيرته وعائلته، وكل ذلك مفهوم لأجل الحفاظ على المنصب وكرسي الحكم.

لم يكن صدام ولا بشار ولا حافظ الاسد يوماً طائفيين في ممارساتهم السياسية. ان ما صنعوه هو الدائرة الضيقة للاقرباء والحزبيين، وهي نتيجة كل حكم استبدادي تسلطي.

تبقى الفاجعة الكبرى اليوم هي فاجعة شعب مسالم يُدمّر بين قتيل واسير وسجين وطريد ولاجئ وممتحن، ولسان حاله يردد على الدوام: فما عدا مما بدا..

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم