صحيفة المثقف

بين الهوية والعصبية خيط رفيع

warda bayaعندما كنت طالبة في جامعة الجزائر المركزية بقلب العاصمة، كنت أسكن بحي دالي ابراهيم للبنات، أقضي فيه أوقاتا طيبة (ضحك ولعب وجد وحب) مع زميلات الاقامة في ليالي الشتاء القارس، وكنا في كل مرة نفتح نقاشا جادا وأحيانا حادا في موضوع يستقطب الرأي العام آنذاك، وكانت أكثر ما تستهوينا - أنا والشلة-  في تلك الفترة مواضيع الأدب والثقافة والفن والتاريخ والجغرافيا، ولم نكن نعرف من السياسة سوى الاسم.. واذكر أن النقاشات أحيانا تخرج عن المألوف وتتحول الى انفعالات لطيفة، خصوصا اذا ما تعلق  الأمر بمواضيع  الهوية والدين والأعراق والنسب ..فتجد الرأي ونقيضه، وغالبا ما تنتهي  حواراتنا البيزنطية  الى طريق مسدود، وننهيها على أنغام كوكب الشرق وعبد الحليم حافظ مع نكهة الكوكاو والشاي السوفي ..

أذكر أننا في تلك الليالي الخوالي الجميلة التي أخذت جزءا من أحلامي وأيامي، فتحنا نقاشا في موضوع الانتماء والوطنية واللغة، الى أن وصلنا الى الأمازيغية، وتساءلت إحداهن: هل هي لغة أم لهجة ؟..زميلة من الغرب الجزائري بادرت بالإجابة عن السؤال لتقول  أن الأمازيغية - بحسبها- هي لهجة وليست لغة، كونها هجين بين اللغتين الفرنسية والعربية، وأضافت : لو كانت الأمازيغية لغة، لكانت لها  حروف كاملة معتمدة مثل باقي اللغات، ولكان لها رصيد كاف من الكلمات ولا تستعين بالعربية والفرنسية ..! هذا الرد لم يعجب زميلتنا التبسية، وهي من أصول شاوية، ردت بانفعال وقالت:" أن الأمازيغية لغة وليست تابعة لأي لغة أخرى"، رغم عشقها للعربية، فهي التي تركت تبسة لتدرس الأدب العربي بالعاصمة..  النقاش وقتها لم يكن علميا يستند الى المعلومة والدليل، بل كان بسيطا، سطحيا ومتواضعا..

استمعت الى جميع الآراء ، وشاركت برأيي وقلت: لو كانت الأمازيغية لهجة فأين هي لغتها الأم، واذا افترضنا أنها تابعة للغة العربية، فلماذا لا يفهمها العرب؟؟ ..كلامي البسيط دغدغ مشاعر الصديقة التبسية  وظنت بأنني أجاملها في الموضوع، ولكنني أكدت لها بأنها قاناعاتي، فلا يمكن لنا أن نتجاهل أو نستصغر الموروث الثقافي والمجتمعي الذي تزخر به بلادنا ..بل نحترمه ونُجله..

اليوم وبعد مرور سنين من تلك الحادثة، هاهي الأمازيغية ترسم في الدستور الجديد على أنها لغة مستقلة بذاتها وكيانها وهويتها تماما مثل اللغة العربية...

ما أريد الاشارة اليه بعد كل ما أسلفت، هو أن هناك مشكلة عويصة نواجهها  اليوم، ولا أجد لها تفسيرا، وهي أن أرى الكثير من الجزائريين  وهم بعض الأخوة الأعزاء على قلوبنا أمازيغ القبائل تحديدا، يتحدثون بنبرة عصبية كلما جيء على ذكر الهوية واللغة، ليذكروننا في كل مرة بأنهم هم أبناء البلد الأصليين، وغيرهم غزاة، والكثير من الكلام الشيفوني  والعنصري الذي لا يرقى الى مستوى النقاش ولا يليق الا بشذاذ الآفاق، بينما نجد غالبية أمازيغ الشرق الجزائري يعتزون بانتمائهم للحضارة والقومية العربية، كما اعتزازهم  بالانتماء للوطن،حتى أن أحدهم قال لي يوما: اذا أردت أن تُغضبي "شاوي" قولي له : أنت لست عربيا..!

من هذا المنطلق أقول، أن ما بين الهوية المتأصلة فينا والعصبية المقيتة المزروعة في بعض النفوس خيط رفيع، فالهوية تجمع، بينما العصبية تفرق.. الهوية تعزز الانتماء للذات والوطن بينما العصبية تسيطر على الذات وتزرع فكر القبيلة بطريقة متشنجة، عاطفية إلغائية .. فعلينا اذا أن ننتبه، وأن نرتقي بأنفسنا عن ترهات التعصب التي تغيب فيها لغة العقل، وأن ندرك جيدا أن جل أزماتنا مولودة من رحم هذه المفاهيم المغلوطة الماكرة، التي يجد فيها العدو ضالته فينا.. مثلما وجدها عند الاسلامويين حينما تعصبوا، حرقوا النسل والحرث.. فلننظر مثلا الى المشارقة العرب وغير العرب، المسلمين منهم والمسيحيين، وبقية أهل الديانات والأعراق الأخرى، كيف يعتزون بانتمائهم لهذه الأمة وهذه الحضارة العريقة.. واستدل هنا بفيلم وثائقي عرض على إحدى الفضائيات للجالية اليهودية العربية بفلسطين المحتلة، وكان من بينها يهود مصريون وآخرون عراقيون، كيف التقطتهم عدسة الكاميرا وهم يتحدثون باللهجات العربية في قلب اسرائيل وبكل ثقة وحب، قلوبهم مشدودة الى بلادهم الأصلية، رغم مرور عشرات السنين عن هجرتهم منها، وشاهدت الكثير منهم كيف كان يذرف الدموع بحرقة وهو يتحدث عن العراق ومصر.. 

لنقول في الأخير، هؤلاء اليهود .. فماذا عنا نحن..!!؟؟

   

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم