صحيفة المثقف

رواية سقوط سرداب.. شهادة لزمن الإنهيارات

jamal alatabiلم يكن إختباء (ثائر) في السرداب صدفة حياتية طارئة، أونزوة شاب قرر فجأة العيش في قلب الظلام، بل كانت خطة طوارىء محكمة وضعتها الأم (أحلام) أرملة (الشهيد) الخائفة على وحيدها بين خمس بنات، هكذا تبتدىء رواية (سقوط سرداب) للكاتب نوزت شمدين، الصادرة عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر عام 2015.

إتخذت الرواية من السرداب فضاءً أومسرحاً لإحداثها بصوت واحد، هو صوت (ثائر) الشخصية المحورية في الرواية، وتبدو الأحداث منذ القراءة الأولى، ان الكاتب يستعير لرؤياه شخصية البطل، فالصورة التي تهيمن على النص، هي صورة الشاب ثائر الذي ينهشه القلق ليواجه العالم بمفرده، فهو الإبن الوحيد لعائلة سالم جميل الضابط الرفيع في الجيش العراقي، والمكوّنة من خمس بنات، والأم أحلام التي تخشى عليه الموت من حروب عبثية، ووطأة عذاب غياب الأب الذي وشى به أحد الجنود وكشف قصة هروبه الى كردستان، لمكيدة دبّرها زملاؤه الضباط لنزاهته وأخلاصه وصرامته.

الأم تسحب ولدها مثل محكوم عليه بالإعدام إلى قدَرهِ المحتوم ظهيرة يوم جمعة من كانون الثاني عام 1991، قبيل بدء القصف الوحشي الامريكي للعراق إثر غزوه للكويت، وأحلام تجهش بالبكاء: ثائر لاتكرهني، أنا أنفذ وصية والدك، فأشاعت الام انه ترك البيت مطروداً، لانها لاتحتمل فكرة وجوده هارباً من العسكرية معها تحت سقف واحد، وإعتبرته إضافة الى عقوقه ناكراً للجميل.

872-srdabالإنصياع للوصاية تظل هي الخلفية الأهم في المتخيل البديل الذي يتكىء عليه الراوي، الذي يأتي السرد على لسانه، مع حوارات قصيرة تحمل أصوات الشخصيات الثانوية، الأم، الجدة، الجارة أم يعقوب، موزعة على فصول الرواية( الهبوط الى السرداب، الحرب، إفتح ياسمسم، الطوفان، رسالة من الاب، ثورة داخل السرداب، سقوط سرداب).تبدأ من الحاضر ثم الى الماضي، لترتد الى الحاضر، بتقطيع شبيه بالسرد السينمائي يحول الرواية الى نص يعتمد التوازي والجوار والتقاطع .وهو كذلك يتضمن أبعاداً سيكولوجية تفسر سلوك الإنصياع والإستسلام لقرارات الأم، التي كانت القائد الميداني في المنزل، والعقل المدّبر لشؤونه، فثائرالطفل المدلل الوحيد بين الشقيقات، هذا النمط من الشخصيات، غير قادرعلى تحمل المسؤولية في مراحل نموه المتقدمة، يرافقه إفراط في الشعور بالقلق والضغط النفسي، والتردد، والإنطوائية ,وعدم الإستعداد للتضحية، إن مجمل هذه السمات، تجيب عن أسئلة كثيرة تتعلق بسلوك البطل وقبوله الإختفاء، بمعنى آخر ان الخوف من الموت، لم يكن المبعث الوحيد لسلوكه .

كيف لثائر أن يعتاد حياة السرداب ؟سوى البحث عن أساليب جديدة للمواجهة، فاستطاع تعلم بعض الحيل لتوسيع رقعة الحياة السردابية، فكان الراديو خط دفاعه الاول، في معركة الصمود ضد الجنون، وسلاحاً ذا حدين في مقاومة العزلة والتجسس على العالم الخارجي في آن واحد، والفانوس السلاح الثاني للانتصار على الظلام، ومن ثم العثور على كنز الكتب والصحف والمجلات والمخطوطات، وعقد صداقة مع الهر الصغير الذي تسلل اليه من كوّة صغيرة جداً في جدار السرداب، وصاريقضي يومه معه، يحاوره، ويفضي اليه بأسراره، ثم إكتشافه لفأر صغير، يبدّد به الملل بالمطاردة .فأمتلأت فراغات أيام ثائر بمطالعات نهارية ورحلات ليلية عبر الراديو، وأحلام يقظة تعوض الخسارات العاطفية مع ياسمين، زميلته في كلية القانون، التي أحبها دون أن يجرأ بمصارحتها بكلمة حب واحدة طيلة سنوات الدراسة الاربع .

إكتملت ترسانة ثائر الدفاعية في حرب السرداب، بعد هذه الرحلة التي يعبّر عنها بالقول :كنت أشعر بنضج داخلي بعد كل كتاب أكمل قراءته، الروايات والتراث والشعر والصحف والمجلات، فتحت له باباً جديداً للتواصل حلمياً مع ياسمين، فلم تذهب سنوات وجوده في السرداب هدراً، إنه عالق فيه، ولم يعد خروجه منه مرتبط بسقوط نظام، بل يستلزم سقوط السرداب أيضا.

من غير المستبعد ان نوزت شميدين إطلع عل ثيمة الاختفاء والعزلة في قبو، أومكان ضيق بعيد عن الانظار، مستعيداً إياها أو متأثراً بها، بما يماثلها في بعض الاعمال الروائية أو القصصية لكتّاب عالميين، وإن إختلفت أساليب السرد، وطريقة التناول، كما جاءت على سبيل المثال لا الحصر في رواية (المخبأ) لكريستوف بولتانسكي الحائزة على جائزة (فيمينيا) عام 2015، أو في (مذكرات قبو) أو رجل السرداب لديستوفسكي، أحد الينابيع المهمة التي نهل منها الروائي ثيمة روايته، وهي أشبه بسيرة ذاتية للكاتب يصف أفعال رجل السرداب وأقواله، وعلى العموم، لم يكن الاحساس بالعبث والضيق والاختناق ملازماً لسلوك ثائر في سردابه بعد أن اُصيب بشغف القراءة، إذ يقودنا نوزت الى المقارنة بين هذه الاستكانة وتخيلات كافكا عن الحياة، وتمحورها حول نقطة مركزية هي مصدر سعادته (العيش دون أمل) ذلك خير نمط للحياة، إنها سعادة لايتذوقها الاّ كافكا وحده، فعندما تأتي الفرحة للخروج من عتمة الأسفل بعد سقوط النظام يعود ثائر للسرداب بإرادته الشخصية وبكامل وعيه وهو يحمل يأساً يجعله غير قادر على البقاء خارجه .لاسبيل الاّ العودة إليه مرة أخرى، فيخاطب أمه (إغلقيه ورائي) إنها النكهة التي لايتذوقها إلاّ من بلغ به الحزن ذروته، ومن توصل إلى قمة الضياغ واللاجدوى .

يبدو النص بخصائصه هذه، نص زمنه، أي زمن المعاناة الكارثية التي حلّت بالعراق، أي ان النص، كان الموقف العام والصراع من أجل الحياة في بؤرة مركزية محدودة، تتحول الى بانوراما عريضة تحكي معاناة الوحدة والحب والحرب، وتتحول الى شهادة عن الانهيارات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والسلوكية .(إنهيار النظام، هزائم الحروب، أنهيار قبرسالم الأب)، الذي إكتشفه الإبن داخل السرداب، في رحلات العناء والبحث في زواياه، ليكتشف من خلال الرسائل التي تركها سالم أسرار وهم النعش الفارغ الملفوف بالعلم العراقي، وكذبة إستشهاده، كمحاولة لتمرير هروبه والعودة الى البيت مختفيا في السرداب ليموت فيه .

أسهم الروائي في استخدام معطيات المكان، وإشاعة الإحساس بأجواء العزلة ومغزاها الكلّي، معالم المكان تجد إمتداداً لها في الكتابة، علاقات الوقائعي في صورته الظاهرة، هي علاقات داخل الرواية في محاولة لنسج بنية سردية تحكي قصة وطن يتفتت، فالقتل يطول الجميع، والمدينة غدت أحياءً معزولة، والرصاص يمارس وظيفة الجريمة لا المقاومة، والجريمة تقطّع أوصالها .

هذا ما أراد نوزت التعبير عنه بعودة ثائرالى سردابه،

بعد أن شاهد ألسِنة اللهب تتصاعد من جديد، ويتدافع اللصوص نحو المدينة، ومواكب العزاء والعويل لاتنقطع .

 

جمال العتّابي

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم