صحيفة المثقف

المدى الصوفي في نص: هاتف الفجر للكاتب ماجد الغرباوي

هناك نصوص تضطرنا ان نتوقف عندها فنعيد قراءتها اكثر من مرة لنكتشف فيها ابعادا تشير الى انه نص متميز ذو فرادة وجدة بفكرته ومضمونه.

من تلك النصوص نص "هاتف الفجر" الذي يمكن ان نعده قصة قصيرة او قصيرة جدا، وقد استوقفني المحور الصوفي الذي يتجلى في الثنائيات. هناك في النص طرفان يتخذان موقعهما مع تطور النص وتلاقحه بالمعنى الظاهر العام: 

الثنائية الاولى: ثنائية السارد والصديق:

تبدأ الأقصوصة بالشكل التالي: خرجتُ مسرعاً بعد لقاء قصيرٍ، تداولتُ فيه مع صديقٍ حميمٍ حديثاً ودياً.

هكذا إذن. السارد وصديق، من هو هذا الصديق. كل مانعرفه ان الحديث كان وديا لكن السارد بعد الحديث خرج مسرعا، فهل هو الهدوء الذي يسبق الإعصار؟ انا أميل الى ان الصديق الذي خاض الكاتب الحديث الودي معه هو الكاتب نفسه يعكس شخصه على الاخر، تامل كثيرا فوجد نفسه في اخر جعل منه ثنائية فحاوره بكل هدوء اذ يمكن ان نغير كلمة "وديا" الى "هادئا" "حميميا" " لطيفا"انه حديث الاخر الذي يعني الانا.

الثنائية الثانية: المتتالية

وهي ثنائية الليل والنهار فإذا كانت الثنائية الاولى هي الزمنكان التي بدت عابرة فلم تأخذ الا مسحة سطر او اقل لكنها تمهد فيما بعد لزمن متسع يشمل الليل والنهار يقول بعد المطلع القصير مباشرة:حتى إذا خطوت عدة خطوات تبارت سهامٌ تقذفُني، فلما أخطأتني كدتُ أفقد صوابي .. تشبّثتُ بأهداب الليل أستجير بظلمته....  انه خرج من الزمنكان ليدرك الليل غير انه لم يقلق منه بل صور معاناته فيه طول تلك الليلة فهناك سهام كثيرة انطلقت من مكمن  ما وقت الليل باتجاهه فتشبث بالليل ليقي نفسه منها غير ان سهما واحدا اصابه، اخترق جسده فتفاعل معه وانفعل به. 

ثنائية المفرد والمتعدد:

تلك ثنائية نجدها في السهام الكثيرة التي أدت دورا واحدا وهو انها انطلقت فأخطأت، يمكن ان تشكل بمجموعها جانبا واحدا وهناك سهم اخر انطلق فأصاب، ذلك يعني ان هناك جانبين جانب انحرف عن مسيره فابتعد او وقع في مكان اخر وآخر حقق الهدف. تحت هذا التقسيم تتوسع الثنائية ونحن لا يمكن ان نتجاهل مدلولات الجانب الاخر الذي لم يَصْب هدفه فله معالم كثيرة يمكن ان نفهم انها تعني مشاكل الحياة وأمورا اقل أهمية من المعاناة، الانسان هدف لعدد من المعاني والقضايا والمشاكل انه يسعى لهدف وهو ايضا في الوقت نفسه هدف. اما عظمة ما يصيبنا وما نتحمله من معاناة فيدل على ان الموضوعات "السهام الاخرى التي أخطأتنا" عظيمة لان ما اصابنا وهو في الأساس واحد منها عظيم بدليل معاناتنا التي توحدت به وتوحد بها. 

ثنائية الاجزاء

تتمثل تلك الثنائية في النبض والقلب يقول بعد ان اصابه السهم: هل سيتحكّم بنبضي أو يُمسك شراييني؟ ثم بعد هذا التساؤل يذكر: كم أخاف على قلبي، أخاف على نبضه المتدفق حيوية ، قد لا تخطيء اذا سميت النبض نتيجة للقلب والقلب سببا فهو - القلب-  ليس تلك المضخة التي تدفع الدم الى الاوردة والشرايين بل هو العالم الواسع والكون المتحرك  لقد اصبح القلب عقلا مثلما اصبح الشعر والإحساس عقلا. نقول ليت شعري اي ليت عقلي ونقول لامس الامر شغاف قلبي بمعنى عقلي لقد احتل القلب مكان العقل فتداخلت المفاهيم. في الانكليزية نفسها بعض الأحيان يحتل العقل مكان القلب broken heart هل هو القلب المجروح ام الخاطر (مكسور الخاطر) ام العقل؟ ندرك ذلك من خلال متوازية ثنائية اخرى في النص هي متوازية الصمت والكلام (الصمت ابلغ من الكلام) والصمت لا يعني السكوت المطلق بل هو جزء الثنائية الظاهرالذي يضاد الكلام لكنه كلام بمعنى اخر كلام صامت يعني التامل والتفكر لا الصمت، ومتوازية اخرى يؤكد فيها الشاعر تو حد (أنا) و(انت) في القلب ذاته حيث يقول: ليست الحياة أنا وأنت، هي قلبي حينما يصغي لآهات المتعبين، ويواصل رحلته من أجل المعذّبين. 

ثنائية المراتب

العشق والحب، أيهما الاقوى وارفع درجة؟

يقول الكاتب عن ذلك السهم الذي اصابه فنسج من الفجر طيفا ومن الروح ياسمينا (لا يشبه العشق .. لا يدانيه الحب ..) وتعريف الحب  والعشق في القاموس الصوفي: الحب عبارة عن ميل الطبع في الشيء الملذ فان تأكد الميل وقوي يسمى عشقا والعشق مقرون بالشهوة والحب مجرد عنها، ولا شك ان كاتب النص بدا بالأقل درجة لينتهي بالأعلى مثلما بدا بالليل ليستقر عند الفجر  فيما بعد. 

الثنائية العمودية:

هي التقابل بين الأعلى والأدنى في قول الكاتب: رحِت أُطيل النظر، أستعيد حياتي، ما إن طِفتُ فوق السحاب، أو أتخذت من البحر مركبا

فالسحاب في علو والبحر هو الدون وبينهما التامل الذي عبر عنه الكاتب في ثنائية الصمت والكلام بالصمت حيث التامل يرقى البحر للسحاب وبه يدنو السحاب من البحر.

الموازنة:

قلت في حديثي عن المنقلب والمتحول من الكلمات الموازنة في المصطلح المعاصر تعني ان نتحدث عن نقاط تشابه او افتراق بين كاتبين يكتبان بلغة واحدة مثل الموازنة بين ابي تمام والبحتري والجواهري والمتنبي . لقد لفتت نظري في نص "هاتف الفجر" كلمة الليل فأثارت تداعياتها في ذهني المفهوم المألوف عن الليل في أدبنا العربي، فتحققت الموازنة عندي بين أمريء القيس وكاتب نصنا المعاصر . لقد رسم امرؤ القيس صورة سلبية لليل تلقفها عنه من جاء بعده فأكدوا قتامها او زادوه عتمة وظلاما يبدأ امرؤ القيس صورته وفق الشكل الآتي:

وليل كموج البحر أرخى سدوله   علي بأنواع الهموم ليبتلي

فقلت له لمـــــــا تمطى بصلبه     وأردف إعجازا وناس بكلكل

الا ايها الليل الطويل الا انجلي     بصبح وما الإصباح منك بأمثل

فيا لك من ليل كأن نجومـــــه      بكل مراس الفتل شدت بيذبل

صورة امريء القيس تلك تلقفها النابغة من بعده فقال:

كليني لهـــــــم يا اميمة ناصب   وليل اقاسيه بطيء الكواكب

تطاول حتى قلت ليس بمنقض   وليس الذي يرعى النجوم بايب

الليل مخيف، قاتم، وحش مفترس، وقد بقي صدى صورة أمريء القيس يتردد عند الشعراء، مع ذلك لم يلتزم بها صاحب نص "هاتف الفجر" اذ عندما أخطأته سهام انطلقت نحوه راح يتشبث بالليل يستجير بظلمته . انه ملاذه الذي أمنه واطمان اليه  ليصيبه سهم من هذه السهام حيث استجار بالليل الذي سرعان ما استوعب الاستجارة فوقع السهم في صدره وتغلغل باحشائه عندئذ احس ان النبض جرى مع الفلك . ان ضمير إلانا  / الشاعر/ السارد / بطل القصة يتحول من رمية السهم الى فلك والأنا والانت يندرج بعضها ببعض. ان ليل أمريء القيس ليل مخافة وليل السارد أمان وتأمل الى حيث راحة البال في التعاطي مع السماء. 

المقارنة

والمقارنة كما قلت بين كاتب عربي وآخر من قومية اخرى او نص عربي وثان اجنبي، فبمن يمكن ان نقارن بطل " الفجر"؟

الكثيرون  شاهدوا شريط المسيح وربما اكثر المشاهد اثارة  مانجده مصورا وفق رؤية الكتاب المقدس كما في يوحنا ٢٨/ ٣٠(بعد هذا لما عرف يسوع ان كل شيء قد تم فلكي تتم الآية قال: انا عطشان وكان إناء موضوعا هناك مملوءا خمرا حامضة فوضعوا إسفنجي مملوءة من هذه الخمر وقلبوها الى فمه فلما أخذ يسوع الخمر الحامضة قال قد تم وحنى راْسه واسلم الروح).

ان من يقرا نص "هاتف الفجر" يتمثل بسهولة السهم بمقابل الصليب، هو نفسه  الذي اصاب السارد /المتحدث / الراوي، كان الحديث عن المسيح بضمير الغيبة، والمسيح الجديد الذي اصابه سهم في قلبه يتحدث عن نفسه.

والنبيذ الذي تمثله السيد المسيح بدمه حيث اصبح الدم معادلا للتضحية بسبب العلاقة اللونية بين النبيذ والدم هو دم  يجري من شخص يتمثل المسيح، فالذي يتابع نص "هاتف الفجر" يجد ان الدم اصبح يسري من النبض باتجاه علاقة كونية تجعل الانسان ذَا المعاناة محورا لها. لقد كان المسيح يتأمل الارض في الشريط السينمائي والمتجمهرين حوله لينقذهم فيرفعهم من الارض الى السماء في حين كان بطل " هاتف الفجر" يقول واستسلم دمي، فرحت أتلمّس نبضي .. أتابعه كيف يعلو يعانق السماء ثم ينحني مع الأرض في دورانها .. تارة أرمقه أهيم برشاقته، وأخرى أُهادنه حينما يتحدى غروري.

انها نفسه التي هي الاخر ..وهو ، حقا ، نص يحمل معاني نبيلة أكثرها رقيا  انفتاح  ذلك النص القصير على مدى واسع جدا وأكثرها سموا اننا كنّا نعاني مع المسيح بطريقتنا الخاصة هو على الصليب ونحن مع السهم معادل الصليب، مثلما كنّا نعاني مع أمريء القيس بطريقة اخرى خارجة عن المألوف. 

*** 

د. قصي الشيخ عسكر

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم