صحيفة المثقف

البناء الجملي المتواصل عند كريم عبد الله

anwar ghaniقصيدة النثر هي شعر بشكل نثر، اي ان الشكل شكل نثر ومنه ينبثق الشعر. وهذا الفهم هو جوهر قضية قصيدة النثر، وليس ما يعتقد من تحرر الشعر من الوزن والقافية، ان طموح كاتب قصيدة النثر هو أن يكتب شعرا ً لكن بشكل نثر وهنا تظهر القدرة الابداعية وتتجلى التجربة .

لقد ساد مفهوم خاطئ انّ قصيدة النثر تحتاج الى تعبيرية بصرية من خلال التشطير او التوزيع او الفراغات، حتى انّي يوما ارسلت قصيدة افقية بشكل مقطوعة نثرية الى مجلة فعمدوا الى تشطيرها وجعلها بشكل عمود، وهذا ناتج من الوعي المكتسب الطاغي بانّ الشعر لا بدّ ان يختلف عن النثر بالشكل، وبعد التخلي عن الوزن والقافية لم يبق الا التوزيع البصري على الورقة والايقاعية البصرية، لكن كاتب قصيدة النثر، الساعي نحو النثروشعرية، اي الشعر الكامل في النثر الكامل، يجاهد ويكافح في أن يعطي صورة حقيقية لقصيدة النثر، وانّها تكتب بشكل نثر وباسلوب النثر وبتقنيات النثر، لكن منها ينبثق الشعر .

وهذا التوجه عالمي ايضا فانهم لا يطلقون اسم قصيدة نثر على كل شعر نثري، بل هي مختصة بالمقطوعة النثرية ذات البناء الجملي المتواصل .

انّ البناء الجملي المتواصل هو ركن النثروشعرية، ولا يمكن انتاج قصيدة نثر من دون بناء جملي متواصل يتكلم به المؤلف كما يتكلم في النثر، من دون سكتات ولا ايقاعات ولا فراغات ولا تشطير ولا تسطير . وكريم عبد الله شاعر مبدع في النثروشعرية ومتقن للبناء الجملي المتواصل وقصيدته (التاريخُ عاهرةٌ .../ شواهدُ القبورِ الكثيرةِ تفضحها) المنشورة في مجلة تجديد الادبية من تجليات هذا الاسلوب . انّ ما يطوّر الأدب ليس الموضوعات لانّها عامة وملك الجميع، وانّما يطوّر الأدب هو الاسلوب، لانّه فردي وخاص وملكا لصاحبه . ومن المفيد ايراد النص اولا .

التاريخُ عاهرةٌ .../ شواهدُ القبورِ الكثيرةِ تفضحها

ويغادرُ شرقنا شاخصة في شمسهِ مباضع وبقايا أطفال منقّعة بلعابِ ذئبٍ حملَ جلجلة الزقورات يفركُ تواريخها يستنشقُ أريجَ جنانهِ المسكونةِ بالأرثِ المحروق على صليبٍ رطبٍ يحدّقُ بعينٍ مفقوءة هاماتهُ معصوبة يوشّحها ليلٌ رؤوسه كطلعِ الشياطين تلاحقهُ تنهالُ تقتاتُ حكمتهُ خرافة تتلعثمُ ما بينَ نيلٍ يبحثُ عنْ حلمٍ ملائمٍ وفرات تعرّجَ كثيراً في خرائطِ رغوتها متاهاتٌ أخرى، المفاسدُ جزيرةٌ تلفُّ ذيلها مِنَ المحيطِ المتغامض بأقصى النعاس المفعم بالفرائضِ الواجبةِ وخليج قانط تتمددُ على ناطحاتهِ حيتانٌ تسفّهُ مياههُ المتواريةِ خجلاً بينما يسقطُ الزمن عميقاً في مستوطنةِ النسيان، التاريخُ عاهرةٌ تفترشهُ على سريرِ غوايتها تحتجزُ قناديلهُ تجلو نشوةً تركها الغرباء طريّةً في سيرتها الذاتية يسرحُ في ارجائها ليلٌ أقفرهُ كثرةَ الحكامِ يُبطؤونهُ ألاّ ينقضي متنكبينَ شماعةً يعلّقونَ كثرة الشبهات الغابرة ونَول هزيل يحيكُ صباحاً مرقعاً تلعبُ المخارز في ملامحهِ أنّى تشاءُ على مهلٍ فتنكشفُ عورتهُ البلهاءَ كرائحةُ الفتنةِ تتأرجحُ شواهدُ القبور الكثيرةِ تفشحها، المحترفونَ بالجريمةِ لصوص اليومِ العانس يرشقونَ الأيامَ نكايةً بالمغدورينَ وراءَ الماضي يحتملونَ هذرهم يتناوشونَ فوقَ القانون الأخرق بينما في روحِ الحقيقيةِ زفراتٌ متهدلة وهتافات متكررة تتقافزُ متأخرة في كلَّ حينٍ .

العنوان (التاريخُ عاهرةٌ .../ شواهدُ القبورِ الكثيرةِ تفضحها) وهو مقطوعة متواصلة البناء، وهذه فردية اذ عادة ما يكون العنوان مختزلا بكلمة او كلمتين، لكن كريم عبد الله عادة ما تكون عناوينه جمل متواصل البناء .

تمّ يأتي مقطع واحد ببناء متواصل بطول ثلاثة اسطر

(ويغادرُ شرقنا شاخصة في شمسهِ مباضع وبقايا أطفال منقّعة بلعابِ ذئبٍ حملَ جلجلة الزقورات يفركُ تواريخها يستنشقُ أريجَ جنانهِ المسكونةِ بالأرثِ المحروق على صليبٍ رطبٍ يحدّقُ بعينٍ مفقوءة هاماتهُ معصوبة يوشّحها ليلٌ رؤوسه كطلعِ الشياطين تلاحقهُ تنهالُ تقتاتُ حكمتهُ خرافة تتلعثمُ ما بينَ نيلٍ يبحثُ عنْ حلمٍ ملائمٍ وفرات تعرّجَ كثيراً في خرائطِ رغوتها متاهاتٌ أخرى)

انّ هذا المقطع لا يمكن ان يقرأ الا بشكل المقطوعة النثرية، والكلمات محركة، ولا توقف . لكن القدرة الايحائية والرمزية والهمس الشعري والاشارة الشعرية ومداعبة الفكر والوعي العميق والتجذر في النفس كلها تخلق حالة الشعر، والشعر الكامل من وسط هذه المقطوعة النثرية .

تمّ يأتي مقطع نثري بطول سطرين بلا توقف

(المفاسدُ جزيرةٌ تلفُّ ذيلها مِنَ المحيطِ المتغامض بأقصى النعاس المفعم بالفرائضِ الواجبةِ وخليج قانط تتمددُ على ناطحاتهِ حيتانٌ تسفّهُ مياههُ المتواريةِ خجلاً بينما يسقطُ الزمن عميقاً في مستوطنةِ النسيان)

وهنا ايضا مقطع نثري طويل بشكل استثائي بل وغير عادي، في بناء جملي متواصل يحقق النثروشعرية، حيث ينبثق الشعر من قلب النثر.

ثمّ المقطع الاطول باربعة اسطر متواصلة البناء .

(التاريخُ عاهرةٌ تفترشهُ على سريرِ غوايتها تحتجزُ قناديلهُ تجلو نشوةً تركها الغرباء طريّةً في سيرتها الذاتية يسرحُ في ارجائها ليلٌ أقفرهُ كثرةَ الحكامِ يُبطؤونهُ ألاّ ينقضي متنكبينَ شماعةً يعلّقونَ كثرة الشبهات الغابرة ونَول هزيل يحيكُ صباحاً مرقعاً تلعبُ المخارز في ملامحهِ أنّى تشاءُ على مهلٍ فتنكشفُ عورتهُ البلهاءَ كرائحةُ الفتنةِ تتأرجحُ شواهدُ القبور الكثيرةِ تفشحها)

انّ هذه القدرة على تحقيق الشعر من هكذا نثر ظاهرة نادرة وريادية، تمثل شكل ناضجا ونموذجية للنثروشعرية، وكتابة الشعر النثري، وقصيدة النثر وتحقق غاياتها واهدافها الاسلوبية .

تمّ يختتم كريم عبد الله قصيدته بمقطع رابع طويل ايضا .

(المحترفونَ بالجريمةِ لصوص اليومِ العانس يرشقونَ الأيامَ نكايةً بالمغدورينَ وراءَ الماضي يحتملونَ هذرهم يتناوشونَ فوقَ القانون الأخرق بينما في روحِ الحقيقيةِ زفراتٌ متهدلة وهتافات متكررة تتقافزُ متأخرة في كلَّ حينٍ)

لقد ركزنا هنا على اسلوب البناء الجملي المتواصل، مع انّ النص ثري ومتعدد الدهات الابداعية، لكن اسلوبنا الثيمي في تناول الظاهرة الأدبية ودون التشظي والمسح الكلي للنصوص هو الطريقة المثلي التي تخدم المقالة النص والادب عموما . ولا ريب ان تلك الوحدات الكتابية التي اشرنا اليها هي اكبر من الجمل وهي جمل متداخلة، الا انها متداخلة بطريقة متوحدة، فهي تقع بين الفقرة والجملة وهذا وضع كتابي متفرد . انّ تحقيق نص بحجم صفحة واكثر باربع مقاطع ذات بناء تركيبي متواصل بلا توقف، هو تجل واضح وظاهر للبناء الجملي المتواصل، بل انّ الشكل النثري هنا يتحلى باقوى صوره، ومنه ينبثق الشعر . انّ هذا الشكل من الكتابة يحقق قصيدة نثر متطورة وبنفس جديد .

 

 بقلم الدكتور انور غني الموسوي

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم