صحيفة المثقف

هيت تستعيد أسرار مدني صالح

jamal alatabiمدن أعالي الفرات،هيت وحديثة وعانة، مثل الجنائن الاسطورية رابضة في محيط المياه، جزر صغيرة تطفو، تروي قصص الحب، والحضارات القديمة، تحمل تاريخ مولدها،لنواعيرها قصص أخرى يتناقلها أبناؤها، تعيش في بيوتهم المطمئنة، مسبّحين بحمد المياه الجارية، تغني ليل نهار، ترافقهم مع أحلامهم على مدارات الفصول، كأنها الدهر الذي لايشيخ، فهي الملاذ والمقبل في صيف لايعرف مذاقه إلا أولئك الذين إستوطنوا الضفاف السعيدة فيها .

هيت التي يتصاعد فيها الدخان وألسنة النيران، إغتصبتها مخالب الحديد التي تقضم الحجر، لاضوء فيها، غير سَورَة الغبار والجحيم، لانار في بيوتها تدفىء العظام، سوى تلك النار التي تجتاح الشوارع الخرساء حين يغزوها الجيش الأسود، وترحل عن دارتها السماء ويكفهر وجهها، سوى ما تتناقله الأخبار عن حروب الإنكشاريين الذين جاؤها من بعيد . يقول عنها إبنها ابراهيم أحمد: رغم ان المدينة مفعمة بالغيبيات والأساطير والخرافات، وتضم عشرات الأضرحة لإولياء وقديسين، لكنها أيضا وبنفس القدرة مكتنزة بروح مشاكسة وعنيدة، وحين تسأل كيف لاتسقط المدينة وهي مائلة والريح عاتية؟ يأتي من يقول لك انها مسنودة بكف الأمام علي عليه السلام، ويريك كفا من الحنّاء على جدارها الداخلي .

هيت تعيد لي الآن أسرار أبنائها الذين فتحوا منافذ الهواء فيها،نيرانها المتصاعدة غير تلك، نيران المعرفة التي أضرمها مدني صالح وآخرون أمثال مهدي حنتوش وابراهيم عبد الله وفاضل عبدالواحد ويوسف نمر ذياب وغيرهم، فأمطروها بالخير والأحلام دونما ضجة ودونما صخب .

المدينة وهي تحت أزيز الناروالرصاص، تغصّ بالدمع والآهات، فيها ظمأ لمدني صالح ليأتي معه الغيث والمطر، ليغسل ما خلّفه الأوباش من خراب .إنه يبكي على هيت وينعاها، كلما مرّت بها ركابه، وقطع بها السبيل، كما يقول رباح آل جعفر، لقد مضى عنها دون أن تودعه، أو يودعها .

هل يجد مدني صالح ملاذاً له الان فيها؟ أم أن هناك من يسرق السكينة منه ويقتص من خجله وإرتباكه، ويحرق كتبه وكلماته . أكاد أشك في ذلك، وهوالذي إمتلك إستشراف ما سيحصل: إذهبوا وأقرؤا تاريخ العراق، هذه ليست أول محنة تصيبه، كم مرّعليه من غزاة وطغاة وبغاة؟ أين هم الآن؟ من الدخان  والخوف سينهض العقل والفلسفة، إنهما المنقذ من مسار الطوفان والنار، وإن أحاطهُ القتلة والمسعورون والأشرار. إنه الصوت الحقيقي وسط الظلام. الأشرار يحفرون قبورهم، وعليكم أنتم تحفروا أسس حجرات الدرس .من يضع زهرة على قبرك الان يا سقراط العراق؟ من يدلّنا إليك والطرق محتشدة بما خلّفه الهمج؟ والمدينة مسوّرة بالجند، ليس عدلا أن تنام وليالي هيت تغادر أسحارها، والفراشات ملّت رصاص الحروب .ها أنت تطلب الفلسفة في الطين كما دوّنت  .

في المقامة الفراتية يتحدث مدني صالح عن هيت التي لايختار سواها، لو قدّر له الولادة من جديد، وعاش بحرية وإختيار، ليس سوى ذلك البيت الذي ولد فيه،ولما درسَ الإبتدائية إلاّ في مدرسة هيت، إنها (الرحيق) الذي يشهق فيه، وريحانة قلبه، يضمها بين يديه، يشمّها حليبا، تقاسمه حشف التمر، وسنبل مائدته، يبوح بحزنها ويبتهل، فما مسّ ضفائرها ذئب، وما روضها زمن، منها خرج البناة الذين شادوا الإهرامات في مصر، والسور في الصين، والبرج البابلي في العراق، مقالعها القديمة قدمت الحجارة لبناء السدود المشيدة على الفرات، وقالوا: انها سومرية، وقيل إنها قامت وإزدهرت قبل أن يكون أحد السومريين في الوجود، نقلوا منها الطابوق والحجارة والقار والجص وجذوع النخيل،يذكرها بطليموس في كتابه الجغرافية بإسم إديكاروتعني عيون القار في الآرامية .

هيت (مدينة مدني الفاضلة) ترفّ على الماء وتحوم فيه النوارس، وسحائب زهر وندى  .يستدير لها بعينيه، وفيهما دمعة راعفة، تستمع لندائه الخافت: يا حي بن يقظان، ويا ابن طفيل خذاني إليكما، وهبا لي من كلماتكما، أجنحة أطير بها إليكما، لإقرأ في أسفاركما قوانين العدل والحرية، وروح المغامرة، ونكهة الفلسفة، وزيف السلطة والقبيلة،وقوة العقل والخير.

 

جمال العتابي

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم