صحيفة المثقف

الوعي بالعري سبيل إلى الغواية

شكلت القصة القصيرة غواية عند عشاقها، حيث أسرت الكثير من المبدعين وأغرتهم بركوب مغامرة الكتابة القصصية، وذلك لأهميتها في التشخيص والتجسيد أي تشخيص ظواهر اجتماعية أو إنسانية عامة، حيث تتيح لكاتبها من جهة إبداء رأيه وموقفه في تلك الظواهر، وتتيح للقارئ من جهة ثانية فسحة التأمل فيها والاستمتاع بجمالية التشخيص عبر آليات السرد أو إواليات الإخراج السردي لتلك الموضوعات .غير أن هذه الغواية لا تعني أن الكتابة القصصية سهلة ويسيرة، بل هي مغامرة محفوفة بكثير من المزالق، مما يفيد أن هناك كتابا نجحوا فعلا في هذه المغامرة وآخرين لم يكونوا في الموعد ومن بين النصوص القصصية التي مارست غوايتها قصة " اشتهاء" للكاتب المصري أحمد السروجي1

 

المتن:

يحتويني ذلك الحضور الأنثوي الطاغي، ويستعصي على الإفلات من مجاله الجاذبي. أنوثة لا يحد من طغيانها سوى ذلك النائم على ركبتيها، تهدهده بينما هي شاردة عبر نافذة الترام، أختلس إليها النظرات متأملا ملامحها الأنثوية المثيرة والرقيقة تماما ثم أهرب بنظراتي حينما تنزع نفسها من النافذة إثر حراك الصغير،محاولة إعادة السكينة التي فارقته، وللحظات يستحوذ على انتباهي: يفرك قدميه ثم يتقمصه عفريت لتشارك الأيدي مع الأقدام في معركة وهمية يضرب فيها خبط عشواء بين الهواء وجسدها فيطيح بزر قميصها الأعلى فيكشف عن ثدي بلون الحليب، يشعل جذوة انتباهي .

يكتسي وجهها لون الدم، وهي تنحني لالتقاط الزر المخلوع بينما عيناي تخترقان هذا الجزء المكشوف والذي سرعان ما تمتد يدها لتغلقه بضم قميصها من أعلى . أتأجج أنا، فتبدأ مباراة في غاية الإثارة بين محاولاتي المتلصصة لاقتناص نظرة وتصميمها الحديدي على ألا تسمح بها.فتضم بإحكام طرفي قميصها من أعلى بيد بينما اليد الأخرى تمسك بالصغير وتنشغل هي باللعبة الدائرة بيننا. في حين الصغير يواصل الحراك على حجرها فيتزحزح قليلا قليلا، حتى يقترب من حافة ركبتيها فتمتد يدها بسرعة عجيبة لتعيده إلى مكانه ثم بذات السرعة تعود لتمسك بطرفي قميصها . واكون انا قد اقتنصت نظرة بينما يصطبغ وجهها الحليبي بلون الدم .

أغوص مستمتعا إلى أقصى حد في حرارة اللعبة ويتوهج اشتهائي أكثر فأكثر مع كل نظرة اقتنصها من ثديها الرائع فينطلق خيالي ليستكمل صورته، ثم يتخذ ذلك منطلقا لما أبعد .ولكنه فجأة يطلق عقيرته ببكاء حاد متواصل ليحيل اللعبة إلى توتر أخاذ يزداد مع تدفق صراخه، بينما هي تحاول تهدئته بأرجحة ركبتيها ولكن اللعين لا يستجيب ويستمر في بكاء متصل لا تغني معه الهدهدة ولا صوتها الرقيق يناجيه . فتخرج ثديها بتلقائية وبساطة لتضعه رفق في فمه الصغير بينما تنطفئ جذوة اشتهائي بشكل فجائي وحاد .  خالد السروجي : اشتهاء (قصة) منتديات مجلة اقلام .

www.aklaam.net www.aklaam.net

تتخذ القصة من الاشتهاء كرغبة أو لذة موضوعها، حيث يحكي السارد من خلال ضمير المتكلم كيف تولد لديه اشتهاء جسد امرأة وكيف حاول الاستجابة له وماذا ترتب عن ذلك ....

و الاشتهاء إحساس يتخذ مسارا عند صاحبه، أي أنه ينتقل به من الوجود بالقوة إلى الوجود بالفعل، وذلك حسب السياق المولد له، لأنه لا ينبعث من تلقاء نفسه وإن كان كامنا في الذات فهو يشترط ذاتا أخرى للتجلي والتحقق وظروفا يتولد فيها أي ينبعث وينمو او يموت ويقبر .

إن فعل الاشتهاء يتركب من العناصر التالية : الذات التي تشتهي، ثم الموضوع المشتهى وأخيرا الوسائط التي تقرب أو تبعد، تفصل أو توصل بين المشتهي والمشتهى . جاء في التنزيل " ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم " أي الجنة كجزاء في العالم الأخروي جزاء عن الأعمال في العالم الدنيوي . والاشتهاء الرغبة والنزوع أو اشتداد الرغبة في الشيء. وينقسم الاشتهاء بالنظر إلى مصدره إلى اشتهاء إرادي واشتهاء قدري، الأول يكون برغبة الذات المشتهية وتكون واعية به ومتحمسة له وساعية إليه، بينما في النمط الثاني، الاشتهاء قدر وقضاء أي سلطة أكبر من الذات الراغبة وبالتالي لا يسعها إلا التنفيذ والاستجابة .

يضاف إلى الذات المشتهية والموضوع المشتهى الوسائط أو المحمولات التي تحمل بذور الاشتهاء والتلذذ ومن بين ما يمنح الاشتهاء خصوصيته وميزته: الموضوع المشتهى، فقد يكون ماديا أو معنويا، واقعيا أومتخيلا، يتعلق بالإنساني أو غيرالإنساني، قد يكون مباحا مسموحا به أو مكروها محرما، وبالتالي فعملية الاشتهاء عملية مركبة تتحكم فيها أكثر من جهة، إن على مستوى الانبعاث أو الهدف أو الكيف والصيغة التي تتم بها الاستجابة.

ومن بين أكثر الموضوعات ارتباطا بالشهوة المرأة، حيث هي الموضوع الأكثر إثارة لذلك، وهذا الأمر يقترن في جوهره بالسلوك الجنسي عند الإنسان ن وربما نفس الأمر عند الحيوان . إن السلوك الجنسي غير محصور في الفعل الآلي العملي بين الذكر والأنثى وما يترتب على ذلك من آثار نفسية وعضوية واجتماعية، بل أكثر من ذلك بكثير حيث هذا الفعل أو السلوك يخضع لآليات تنظيمية وإجراءات تربوية تهذيبية تخرجه من الحالة الطبيعية الحيوانية إلى حالة ثقافية . وهذا السلوك مثلما يكون في مستوى الاعتدال قد يكون في مستوى الانحراف أو الشذوذ .

إن الاشتهاء كرغبة تتحقق عبر سيرورة أو مسار يمكن تخيله وبالتالي سرده داخل نصوص شعرية أو سردية أو مسرحية ....فكيف تحقق الاشتهاء في النص؟ وما هو موضوعه ؟ وماذا ترتب عنه؟

 

تسريد الاشتهاء:

يشكل جسد النص القصصي من بدايته إلى نهايته مسار الاشتهاء، حيث يحكي ذلك عبر متواليات سردية تتوالد انطلاقا من نواة أو وضعية جاءت كالتالي :

بداية الاشتهاء أو ميلاد الشهوة

غمرة الاشتهاء

فتور الشتهاء

لقد بدا النص بتلصص السارد على المرأة المقابلة له، حيث بين الفينة والأخرى يقطف بعينه بعض الثمار من شجرة الشهوة الماثلة قبالته، غير أن ذلك يتم في غفلة من المرأة وعندما تشعر بتلصصه تبدأ في الممانعة لحماية جسدها. غير أن المتلصص يتابع اقتناص وقطاف ثمار اللذة متخيلا أنها استجابت له وحقق بذلك انتصارا على ممانعتها ورفضها، لكن الالتذاذ يتقطع بسبب صراخ الطفل باعتباره معيقا أو منافسا، وتستمر المناورة بين المشتهي والمرأة خاصة بعد أن انفرج قميصها عن تديها فكان ذلك فرصة للمتلصص أن يبلغ اشتهاؤه ذروته . لقد حارت المرأة بين ستر ثديها ومده لرضيعها،إذ في الستر حماية لجسدها، ومنع للمعتدي عليها، غير أن صراخ الرغبة في الثدي الصادر من جهتين مختلفتين : جهة المتلصص وجهة الرضيع جعل مهمتها صعبة لتختار في النهاية حلا ربما يسكت الصراخين معا: صراخ الرضيع وصراخ المتلصص اليافع الراشد.لقد اختارت أن تمد ثديها للرضيع فتسكت الصراخين معا .و هذا ما شكل لحظة النهاية أي فتور الاشتهاء.

 

الاشتهاء والاستيهام:

الاشتهاء فعل قصدي، تتحقق قصديته بقوة الموضوع أو المثير أي قوة الحافز والباعث على اللذة، ويكشف ذلك نوعية التخطيط والاستراتيجية المتبعة لتحقيق ذلك . إن الحضور الأنثوي كما ورد على لسان السارد هو الموضوع المثير وأنوثة المرأة متعددة المصادر فقد تكون عائدة إلى جسدها أو لباسها أو هما معا أو هيأتها مثل الزينة التي تظهر عليها. إن الأنوثة مجال جذب وتأثير أو غواية ينفذ إليه المتلصص وينفلت منه، لكن ذروة الانشداد إلى هذا العالم عندما انفلت تدي المرأة من مكانه أو من مشده،و ما ترتب عنه من انفعال المرأة من جهة وانفعال المتلصص من جهة ثانية، وانفعال المرأة انفعال المفضوح أمره المكشوف سره، وكأن كل عورة المرأة في التدي .

إن لعبة التلصص تكمن في سرقة واختلاس للشهوة أو اللذة من موضوعها اي من صاحبها في حالة التجربة الإنسانية .و الإشباع أو الاستجابة لذلك الاشتهاء يقتضي المشاركة والتفاعل البيني أي الذكر والأنثى وهذا هو الوضع الطبيعي، لكن من الممكن تتم من طرف واحد، وهذا ما تم في النص، حيث استعان السارد بخياله واستيهاماته في تحقيق اشتهائه .

لقد انبنى النص سرديا عبر تعارض برنامجين سرديين :

برنامج الإقبال : تحقق الإقبال من طرف المتلصص من خلال جملة من الخطوات مثل :

- أختلس إليها النظرات متأملا ملامحها الأنثوية المثيرة ...ثم أهرب

- يطيح بزر قميصها الأعلى فينكشف عن ثدي بلون الحليب يشعل جذوة انتباهي

- أتأجج أنا ...فتبدأ مباراة في غاية الإثارة

- محاولاتي المتلصصة لاقتناص نظرة

- وأكون أنا قد اقتنصت نظرة

- أغوص مستمتعا إلى أقصى حد في حرارة اللعبة ويتوهج اشتهائي ...

- مع كل نظرة أقتنصها من ثديها الرائع فينطلق خيالي ليستكمل صورته ..

إن برنامج الإقبال لدى المتلصص يقوم على التقدم والتوغل كلما شعر بأنه اقترب من موضوعه أو اقتنص منه ما يستجيب لإحساسه ورغبته .

 

برنامج الامتناع:

بدأ برنامج المرأة في الامتناع منذ أن وعت بأن المتلصص يسرق منها شيئا ثمينا ليس من حقه ودون استشارة منها أو رضاها، وقد بدأ الامتناع عفويا وخاصة عندما تغير من وضعيتها " تنزع نفسها من النافذة "و يصبح الامتناع استراتيجية دفاعية عندما سقط زر قميصها وكشف عن ثدي بلون الحليب :

- يكتسي وجهها لون الدم وهي تنحني لالتقاط الزر المخلوع

- تمتد يدها لتغلقه بضم قميصها من أعلى

- تصميمها الحديدي ...فتضم بإحكام طفي قميصها من أعلى

- تمتد يدها بسرعة عميقة لتعيده إلى مكانه ثم بذات السرعة تعود لتمسك بطرفي قميصها

إذن بين الاقتناص والاحتماء أو الامتناع، وبين الهجوم والهروب، وبين الإقبال والإدبار،بين الحصار والانفلات ....تتغير وتيرة الاشتهاء وتمتد ذبذباته، وما يسمح له بذلك هو ضراوة السلاح المعتمد في هذه اللعبة :العين والخيال أو الاستيهام لدى المتلصص

 

الاشتهاء بين الشحن والتفريغ

أكدت التجربة الإنسانية وخاصة فيما يخص السلوك الجنسي، أن في الجسد مكامن الفتنة والغواية مثل الصوت والرائحة والحركة والنظرة أو الأعضاء واللباس أو العري ... ومن بين أكثر الأعضاء إثارة وبعثا للاشتهاء الجنسي : النهد وهو أداة قديمة للإثارة والإظها، والكاتئن الإنساني هو الوحيد الذي له وعي بهذا الفعل فيمارسه كطقوس وشعائر ويحتفل به، في حين الحيوان يمارس رغباتهمع شريكه بالغريزة .

إن الجسد الإنساني حامل للرغبة ومنظم لها ورقيب عليها وهذه ميزته وخاصيته، غير أن الرغبة قد تنفلت أو تخرج عن إطارها وحدها الطبيعي فتقمع أو تكبت أو تمارس في غير إطارها .

إن العين هنا في النص هي رائد المتلصص ومستكشف فضاء الأنوثة، والعين تشبه المحارب الذي يتقدم بهدف اكتشاف منطقة العدو أو ميدان الصراع وقد كان النهد المكان المستعصي أو المستغلق، لكن بانفلاته أصبح في مرمى القناص/ العدو (العين) فكان في مرمى سهامه وأولى ضحاياه وتلك بداية انهيار مملكة المرأة .

العين تحمل رسائل الرغبة وتبحث عن موضوعها، أي ما يعمل على تفريغ شحنات الشهوة واللذة، وقد كشف السارد عن تلك الحمولة من الاشتهاء:

- يشعل جذوة انتباهي ...

- أتأجج أنا ....

- أغوص مستمتعا إلى أقصى حد ....

يتوهج اشتهائي ....

- يستكمل صورته .....

تكشف هذه المقاطع عن المسار الذي يقطعه الاشتهاء بين مرحلتين متتاليتين: مرحلة الشحن ثم مرحلة التفريغ، وبالتالي فقد كانت لعبة التلصص تمتد من الارتياد أي البحث عن مكان للصيد ثم الهجوم والمحاصرة ثانيا هذا من جهة المتلصص .

العثور على الموضوع لحظة الاستكشاف أو الريادة تضاعف من شحن الشهوة الكامنة في الجسد، وقد تحقق ذلك بواسطة العين. وبقدر ما تشحن الجسد وترفع فيه منسوب الرغبة تعمل على تفريغها. فالعين تحمل الشهوة من عوالم مظلمة جوانية إلى عوالم خارجية ظاهرية، وتخترق بواسطة الاشتهاء والاستيهام والخيال الموضوع المشتهى فتعمل على استهلاكه والاستمتاع به.

بالعين يقتنص المتلصص ويجني ثمار اللذة وبالعين يشحن الرغبات ويفرغها ....

 

د. المصطفى سلام

..................

- أحمد السروجي كاتب مصري من مواليد 1964 بمصر، من كتاباته : الصوت المعدني (قصص) وزهرة الدم (قصص) ثم طقوس الاحتضار( رواية ) والشطرنجي (رواية) .....نال عدة جوائز في مسابقات كثيرة وينشر أعماله في كثير من المواقع الإلكترونية .

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم