صحيفة المثقف

نظرة في حركة التاريخ عند العرب القدماء

abduljabar alobaydiكتب لي بعض الاخوة الى ضرورة التطرق على ما نكتب في هذا الموضوع، والى حركة الكون في التاريخ باسلوب رفيع، وطلبوا مني التطرق الى هذه الحركة عند عرب قبل الاسلام، التي تشابهت افكارهم مع افكار الاغريق في نظريات الكون في التاريخ . وأستجابة لطلبهم وفائدة القراء والمثقفين، سأحاول التطرق لما طلب مني على القدر والاستطاعة الذي يسعفني فيه الحظ من ارضائهم وارضاء القراء الكرام فأقول:

ان ما وجدته في نظريات عرب ما قبل الاسلام في الحركة الدائمة للكون في التاريخ شيء يكاد يختلف عما طرحته الافكار الاغريقية، فهم أقرب الى الواقع الملموس حين تحدثوا عن ادخال مفهوم التاريخ في الحركة الكونية الدائمة.فقالوا ان حركة الكون وتعاقب الليل والنهار هو سبب الحياة والموت، متمثلة في البيت الشعري القديم الذي لم اعثر على قائله في الموسوعة العربية لعرب الجاهلية والذي يقول:

  منع البقاء تصرف الشمس    وطلوعها من حيث لا تمسي

وهي فكرة اخذوها من الحياة الصحراوية المتشابهة التي اوحت لهم بنتعاقب الليل والنهار ومنه استمدت فكرة الموت والحياة وحتى النهاية.ويبدو ان عرب الجاهلية احسوا بفكرة الزمن وحركته، لانها بنظرهم اقدم من فكرة التاريخ والاحساس به متمثلا بقول شاعرهم ابن العبادي:

من رأنا  فليوطن  نفسه    انه موفٍ على قرب زوالِ

عصف الدهر بهم فأنقرضوا  وكذلك الدهر حالا بعد حالِ

هنا نرى ان الفكر العربي القديم في الزمان يقوم على أتجاه واحد هو الحياة والموت ولا رجعة بعده، وهذا ما لمسناه في الفكر العراقي القديم الذي لم يكن يؤمن بدين، (حسين مؤنس كتاب الحضارة)

نعم ...عند العراقيين القدماء، ابتداءً بحضارة السومرين، ان الموت هو نهاية كل انسان، وان الخلود غير ممكن الا للآلهة الوهمية عندهم، وسوف يلاقي الانسان حتفه مهما بلغ من قوة. وتقدم ملحمة كلكامش تأكيداً على ذلك .كما اعتقد العراقيون القدماء بوجود آله للموت أسمه اككاي، كما نعتقد اليوم بالمَلََك عزرائيل قابض الارواح وهو موجود منذ بداية وجود الخليقة. من هنا يبدولنا ان العراقيين القدماء آمنوا بالموت كنهاية حتمية لبني البشر،  فحاولوا البحث عن الخلود الدنيوي، بعكس المصريين الذين آمنوا بالخلود الدنيوي والاخروي معاً، لذا احتوت مقابرهم على كل ما يخص الميت من متاع الدنيا ، بعكس العراقيين الذين كان فكرهم فكرا علمانيا بعيدا عن التوجه الديني منذ القدم.( أنظر الدراسة البحثية الموثقة للدكتورة أزدهار العبيدي).

يبدو ان عرب الجاهلية قد سايروا العراقيين منهجهم في الحياة والموت.لذا فان التوجه الديني عندهم كان باهتاً منذ القدم.

لكن مجيء الاسلام قد غير هذا التوجه تماما، حين ادخل على الفكر العربي عمقاً بالغاً بالاحساس بالحياة والموت والبعث والحساب بعد الموت، يقول الحق:(الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم احسنُ عملا، الملك2).. ومن القرأن الكريم تعلم العرب كيف يفكرون بامور الدنيا تفكيراً منطقياً، فجعلوا للحياتين الدنيوية والاخروية مقاييس معينة للتعامل معهما، ومن هنا تولدت عندهم نظريات الخير والشر المرتبطة بالقيم المعنوية.

بهذا التوجه القرآني نظروا الى حياة الافراد والشعوب ومراحل النمو والنضج والانحدار الى الشيخوخة وحتى الفناء نظرة واقعية، وهوالموت الحتمي للنفس البشرية.وبالتدريج بدأت فكرة دائرة الحياة والموت تتوضح في اذهانهم حتى شملت الافراد والجماعات والدول ومراحل النشوء والارتقاء والتلاشي بالموت، حتى عبر بعض شعرائهم عن ذلك بقول شاعرهم شريف الرندي:

لكل شيء اذا ماتم نقصان    فلا يغرُ بطيب العيش أنسانُ

هي الامور-كما شاهدتها- دول  من سرهُ زمن ساءته ازمانُ

ويبدو ان نظريات الكائن الحي التي تولدت في العقل العراقي والمصري القديم قد صبت في عقل الجاهلية الاولى فأصبحت اعتقادا لازما لها في نظرية الحياة والموت، وظلت نظريتهم تدور في فلك واحد كما كانت في نظرية المؤرخ الروماني توكيدو الذي قال انه لا جديد في حوادث التاريخ.وان كل الاحداث مكررة في الحياة الانسانية وفي دائرة واحدة لا تختلف ابدا.

 ولو نظرت في فلسفة الفرس والهنود ترى نفس الاتجاه عندهم حين أغتر عظماء الفرس بقوتهم وسلطانهم الى ان حان وقت الافول، فلم يعد لهم من قوة او سلطان. فكان الموت نهاية لهم.

وفي الحضارة الهدية اراء متشابهة لما عند العراقيين والاغريق القدماء، حين قامت فلسفتهم الحياتية على الدعوة الى الفضائل والتخلي عن الرذائل والوصول الى الكمال، ونادت بالسعادة الروحية والنفسية عن طريق السلوك الحسن وتصفية القلوب في الحياة الدنيا، لكن ما يعتقد فيه بالبعث والعودة ظل مبهماً عندهم، وهنا تشابهوا مع العراقيين القدماء تماماً.

لكننا نجد تشابها بين الحضارتين المصرية القديمة والصينية القديمة، فكلاهما سارا في مسار واحد من حيث الاعتقاد بالموت والحياة وعظمة الاباطرة والفراعنة، مع الاختلاف في البعث والحساب، والرباط المقدس عندهم . ويبدو ان الاكثر تشابها بين الحضارتين، ان المصرين والصينيين القدماء كانوا على خلق كريم وامانة وسجايا طيبة فيما عدا استبداد سادة البلدين بالحروب والهيمنة على الناس، ودكتاتورية الحاكم المطلق، فلم تنفع معهم حتى نصائح الانبياء.يتجلى ذلك من المحاورة بين الفرعون وموسى، حين يطلب النبي موسى (ع) من فرعون الاعتدال في التصرف، فيرد عليه الفرعون مستهزئأ به، يقول الحق:( أني لأظُنكَ يا موسى مسحورا، الاسراء 101) ويرد عليه موسى واني أظنك ياع فرعون مثبورا، الاسراء 102).. فأنتهت حياة الفراعنة بالصورة المزرية كما جاءت في القرآن الكريم باغراقهم في بحر الظلمات.

 ويبدو ان ابن خلدون قد استمد نظرياته في دورة العمران والكائن الحي المتجدد من نظريات القدماء دون تحديد، لكن ابن خلدون لم يحالفه النجاح في نظرية الكائن الحي الذي عده ينتهي بانتهاء الحضارة، فالكائن الحي متجدد من الاب الى الابناء في دورة الكون المستمرة .

وعلى الجملة فأن الجذور الحضارية لكل شعب ترسم الخطوط الرئيسية لتطوره السياسي والاجتماعي والفكري لما يلي من الاجيال والحقب التاريخية .

وخلاصة القول، اذا كان المصريون يعتقدون بالموت والحساب والبعث والحياة، فان العراقيين القدماء اعتقدوا بان الموت هو نهاية البشر، بعد ان تنفصل الروح عن الجسد، فالجسد يستقر في القبر والروح تنزل الى العالم السفلي ، عالم الاموات والذي سموه اورالو وتبقى هناك الى الابد، ولم يعتقدوا بقيامة او رجعة او حساب.لذا فان الاهتمام بالحياة الدنيا عندهم هي الهدف وهذا هو الصحيح، فغاب عن تفكيرهم االحساب والعودة المبنية على الحدس والتخمين وافكار رجال الدين، لذا اتجه التفكير العراقي نحو السعادة الحياتية، فانتج حضارة فاقت حضارات الاخرين، فمنهم ظهرت الشرائع القانونية كشريعة آور نمو في عهد السومرين، والقوانين في عهد البابليين، و الكتابة والقلم والعربة التي يجرها الحصان والاسطرلاب وادوات الجراحة والتجميل، عبر الزمن الحضاري الطويل.

ولو استمروا في هذا التوجه لأصبحوا اليوم من اعظم شعوب الارض تقدماً..

اما معابدهم فكانت تختلف عن معابد المصرين التي وجدت لرعاية الفرعون وتمتعه بالحياة الدنيوية من رقص وغانيات، فقد كانت المعابد العراقية في غالبيتها دورا للقضاء وتعليم الكتابة والقراءة والحضانة للاطفال ولم ترتسم عليها علامات الفحش والتردي.وهذه ظاهرة علمانية تميزت حضارتهم فيها، فكان العلم والقلم والانسان هم

الاساس وليس الالهة والملوك رغم مكانتهم المقدسة عندهم، ان ما خلفوه من مخلفات حضارية وكتب وسجلات وقوانين خير شاهد على ما نقول.

لذا من يعتقد انه بأمكانه تحويل المجتمع العراقي الى مجتمع ديني بحت على الطريقة الأيرانية المتزمتة فهو واهم، لان فكرهم يتناقض مع الفكر الديني المتزمنت منذ الازل.لكنهم عاصروا الدين وطبقوه بعصرنة حديثة تتلائم ومنطق النص الديني الرصين. ولا يزال غالبتة العراقيين يعتقدون بدورة التاريخ على الطريقة السومرية القديمة، وكلما أتموا الطواف فيها مرة بدأوا فيها من جديد . فكر علماني صرف تمتع بالانفتاحية وقراءة المجهول، لكن فكرهم ظل قلقاً مصابا بالحزن العميق فطبع عاداتهم وتقاليدهم وحتى اشعارهم واغانيهم به وبقي العراقي يثور دوماً لاتفه الاسباب، لما اصابهم من نوائب وغزوات وتدمير عبر العصور، ولا زالت تتكرر عليهم الى اليوم، وهذا هو قدرهم..ولا حل امامهم الا بمنهج مدرسي يقوم على الفلسفة المنفتحة بعيدا عن كل تزمت ديني صعب.

ان من يتولى حكم العراق بعد قراءة التاريخ قراءة متأنية، سوف يجد شعبا قويا جسوراً ومضحياً ونابهاً، ملتصقاً بالارض والوطن يستطيع ان يحقق المستحيلات، لكن اين هم القادة الذين من هذا الطراز من البشراليوم. فقادة العراق اليوم هم الذين عمدوا على تحطيمه لتحقيق منافعهم الخاصة بأسم الدين، لذا سوف لن ينالوا منه اخيرا الا الفناء.

ويبقى العرب منذ العصور القديمة من المساهمين في صنع الحضارة العالمية، اما ما ألصق بهم بالجهل والجاهلية فمرده الى الجهل بالدين على رأي المؤرخين .وهذه محمدة لهم فلو بقوا الى اليوم بلا دين لاصبحوا من المتقدمين مثل الشعوب الاخرى التي عاشت بلادين كاليابان والصين.. بينما هم لا يختلفون عن الشعوب الاخرى، ولا نبالغ اذا ما قلنا كانوا على رأس المتقدمين. لكن لاعتب عليهم فالدين قد ادخلهم في شتات المتخلفين لسوء استخدامهم لفلسفة الدين ومذاهبه الاجتهادية المتنوعة التي اوقعتهم في فرقة المذهب الدينية المتخلفة . فالدين ما جاء ليكون دولة، بل ليهدي الناس الى الصراط المستقيم ويراقب العدالة وينشر المساواة الانسانية بين البشر.

فهل سنبقى نلهث خلف مرجعيات الدين لنبني وطنا للعراقيين ...يخطأ من يعتقد ذلك ..؟

 

د. عبد الجبار العبيدي

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم