صحيفة المثقف

ولاية الفقيه السيستانيّة بين النصب والانتخاب

حملت العقود المتأخرة نمطين من التصوّرات الفقهيّة الشيعيّة في موضوع ولاية الفقيه، نمطٌ: يرى بأنّ المعصوم "ع" مَنحَ الفقيه في عصر الغيبة أغلب صلاحيّاته التي تتجاوز بيان الأحكام الشرعيّة والقضاء بين المتخاصمين إلى إقامة الحكومة الإسلاميّة وبسط الشريعة وتنفيذها وغير ذلك من الصلاحيّات، وهو النمط الذي أُسّس على أساسه نظام الحكم في جمهوريّة إيران الإسلاميّة، وهو ما نصطلح عليه بولاية الفقيه بالقراءة الخمينيّة، انتساباً إلى المرحوم السيّد روح الله الموسوي الخميني، المتوفّى سنة: (1989م)، رغم وجود بذور هذه النظريّة في كلمات بعض الفقهاء المتأخّرين؛ ونمطٌ: يرى بأنّ الشارع المقدّس لم يمنح الفقيه في عصر الغيبة سوى صلاحيّة بيان الأحكام الشرعيّة ونفوذ قضائه، وما زاد عن ذلك من صلاحيّات فلم تثبت دلالة النصوص علىها، نعم إنّما ترتهن بعض الصلاحيّات الأخرى به من باب إن الشارع لا يرضى بفوات مثلها عادةً؛ لما يترتّب عليها من هرج ومرج وتوالي فاسدة في المجتمع الإسلاميّ؛ فلا محالة يتوجّب على الفقيه الجامع للشرائط التصدّي لها، وهو ما يُصطلح عليه عندهم بالأمور الحسبيّة على خلاف في سعتها وضيقها، وهذا النمط هو ما انتهت إليه بحوث أستاذ المراجع المعاصرين المرحوم السيّد الخوئي المتوفّى سنة: (1992م).

أمّا السيّد علي السيستاني "المرجع الأعلى المعاصر" المولود سنة: (1930م)، وفي أثناء حديثه عن نخلة سمرة بن جندب والأمر النبويّ باقتلاعها في النصّ الشهير: "لا ضرر ولا ضرار في الإسلام"، فقد فرّق بين نوعين من الولاية:

الأولى: ولاية عامّة على الأموال والأنفس في الأمور التي لا يتوقّف عليها حفظ النظام، وهذا النوع من الولاية مختصّ بالرسول وأهل بيته "ع"، وهي التي يُصطلح عليها في عرف الدراسات الفقهيّة بـ "الولاية العامّة".

والثانية: ولاية عامّة في الأمور التي يتوقّف عليها حفظ النظام، وهذا النوع من الولاية ثابت للفقيه المتصدّي للشأن العامّ، والمنتخب من قبل الفقهاء، وهي التي يُصطلح عليها في عرف الدراسات الفقهيّة بـ: "الولاية في الأمور العامّة". [لا ضرر ولا ضرار: ص205].

وبعد هذا التنويع جعل السيستاني حكم النبي "ص" القاضي باقتلاع نخلة سمرة بن جندب في إطار الولاية من النوع الثاني، والتي لا تختصّ به هو وأهل بيته، بل تثبت لكلّ فقيه متصدّي للشأن العام، منتخب من قبل الفقهاء [الذين يُفترض أن ينتخبوا من قبل الأمّة لهذا الغرض].

ولم يكتف السيستاني بهذا البيان المختزل، بل وسّع الحديث فيه في بحوثه في شرح المكاسب المحرّمة التي لم ترّ النور حتّى الّلحظة، لكنّه أشار إلى بعض تفاصيلها في بحوث الاجتهاد والتقليد والتي ألقاها في نهاية ثمانينات القرن المنصرم وقرّرها تلميذه الربّاني "بشكل حرفي"؛ حيث احتمل هناك: أن يكون لانتخاب الأمّة دورٌ أساس في ثبوت مجموعة من الصلاحيّات للفقيه المتصدّي للشأن العامّ، ليخلص أخيراً إلى القول: "ليست الولاية ثابتة لكلّ فقيه، بل للفقيه المنتخب من قبل الناس" [الاجتهاد والتقليد، ص130]، وهذا ما أكّده في موقعه الرسمي أيضاً؛ حيث قرّر بأنّ الولاية في الأمور العامّة ـ وهي القسم الثاني المتقدّم ـ تثبت للفقيه الذي له مقبوليّة عامّة لدى المؤمنين.

وفي الحقيقة إن هذا النوع من الولاية الذي يرهن "فعليّة" أو "فاعليّة" ولاية الفقيه بمقبولية الفقيه لدى الأمّة هو ما يقوم عليه عمليّاً نظام جمهوريّة إيران الإسلاميّة الحالي؛ حيث هناك انتخابات لما يُسمّى بمجلس خبراء القيادة المكوّن من مجموعة من الفقهاء والخبراء المنتخبون من الشعب، والذي يُشرفون على عمل الولي الفقيه ويتابعون نشاطه، وهذا ما يمكن الاصطلاح عليه بولاية الفقيه بالقراءة الخمينيّة "المطوّرة"، والتي جاءت بذورها وأُطرها ومفرداتها في كلمات السيّد الخميني والشيخ صالحي نجف آبادي وعدّة من قادة الثورة الإيرانيّة أيضاً، لكنّي أجزم إن المُلهم الأوّل للسيستاني في هذا الفهم هو: زميله المتقدّم ومنظّر ولاية الفقيه المعاصر، أعني: المرحوم المنتظري المتوفّى سنة: (2009م) حيث قال في بحوثه الفقهيّة ما يلي: "... في عصر الغيبة إن ثبت نصب الأئمة "ع" للفقهاء الواجدين للشرائط بالنصب العام بعنوان الولاية الفعليّة فهو، وإلّا وجب على الأمّة تشخيص الفقيه الواجد للشرائط وترشيحه وانتخابه، إمّا بمرحلة واحدة أو بمرحلتين: بأن ينتخب أهل كل صقع وناحية بعض أهل الخبرة، ثمّ يجتمع أهل الخبرة وينتخبون الفقيه الواجد للشرائط والياً على المسلمين، والظاهر كون الثاني أحكم وأتقن وأقرب إلى الحقّ". ولاية الفقيه: ج1، ص408.

وفي الخاتمة، وبعد إن عرفنا إن ولاية الفقيه عند السيستاني ترهن فعليّة أو فاعليّة ولايته في دائرة الأمور التي يتوقّف عليها حفظ النظام بانتخاب الأمّة والمقبوليّة عند المؤمنين، نعرف: إن وضع هذه الصلاحيّات الزائدة في عنق الفقيه ورفعها يكون بيد الأمّة، وإذا كان الأمر كذلك يحقّ لنا أن نقدّم التساؤلات التالية:

الأوّل: حينما تلحظ الأمّة إن الفقيه الذي منحته صلاحيّات واسعة لإدارة نظام مجتمعها الإسلاميّ الشيعي أخفق في تحقيق طموحاتها المشروعيّة لأسباب لا تعود إلى قناعاته  الاجتهاديّة الفقهيّة التي يُفترض أن يكون أعلم فيها، بل لأسباب سايكلوجيّة وتربويّة وتقديريّة، وربّما لعدم وجود رؤية استراتيجيّة في التعاطي مع الملّفات السياسيّة... فهل يحقّ للأمّة أن تسحب منه هذه الصلاحيّات، وتمنحها إلى فقيه آخر، يمتلك خبرة سياسيّة واجتماعيّة، وتبقى تعود إلىه "وهو المرجع الأعلى" في مسائل الحلال والحرام باعتباره الأعلم حسب الفرض، بل وتمنحه أيضاً أخماسها، وزكواتها، وأثلاث موتاها، وردّ مظالمها، وكفّاراتها؛ وتصوم وتفطر على أساس فتاويه أيضاً، ويبقى هو المرجع الأعلى من حيث عدد المقلّدين أيضاً، وبهذه الطريقة نحفظ للمرجعيّة هيبتها وكرامتها وشأنها؟!

الثاني: ألا يحقّ للأمّة أن تدعو إلى تشكيل نظام رقابي منتخب أشبه بمجلس الخبراء الإيراني، يراقب أداء هذا الفقيه الذي مُنحت له الصلاحيّة، دون أن يتدخّل في فتاواه الفقهيّة والتي هي صلاحيّات منحها الشارع له في عصر الغيبة، وبذلك نتأكّد من مرور قراراته بمجموعة من الفلاتر الاستشاريّة الخبيرة الذي تقلّ من خلالها نسبة الخطأ إلى درجة معقولة؟! ونتخلّص بذلك من الارتجاليّة في القرارات وعدم التخصّص كما هي السمة الغالبة في وضعنا الحالي؟!

إن قلت: إن هذا الأمر ممتنع التحقّق والمنال؛ فمن المستحيل أن تفرّق الأمّة بين المرجع الفقهي والمرجع السياسي في حوزة النجف المعاصرة؟!

أقول: أ لا تقول المرجعيّة إن مسألة الهلال مسألة ثقافة وتربية، وعلى الناس أن يتعلّموا إن هلال شهر رمضان مسألة تقليديّة، ويمكن أن يختلف فيها مراجع التقليد فتكون ثلاثة أعياد وثلاثة رمضانات في السنة الواحدة، فمسألتنا من هذا القبيل أيضاً، فبعد سنوات من التثقيف سوف تصبح القضيّة طبيعيّة، ويتعلّم الناس على هذه التفريق، فأين المشكلة إذن؟!

 

ميثاق العسر

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم