صحيفة المثقف

العنف: هل هو ظاهرة ام نتاج واقع وموروثات اسطورية؟!

nabe  odaمن الخطأ النظر للعنف بصفته ظاهرة أخلاقية فقط. المجتمعات البشرية تعاني من ظاهرة العنف منذ قصة الخلق وقتل قابيل لهابيل، والحجة ان الرب قبل قربان هابيل الذي كان راعيا للغنم ونحر من بكر غنمة للرب وقابيل كان مزارعا فقدم من ثمار زرعه. رفض الرب قربان قابيل، وكما تقول التوراة اليهودية، لم ينظر الرب إلى قربان قابيل لأنه "مخالفاً لما كان يتطلبه" وهو الذبيحة الدموية، أما هابيل فقد فعل وقبل الرب قربانه الدموي. وحسب نص التوراة: "قدم هابيل لله ذبيحة أفضل من قابيل. "فشُهِد له أنه بارٌ إذ شهِد الله لقرابينه"، ما تطرحه هذه القصة الدينية هنا هل طلبات الله هي قرابين دموية فقط؟ اليس هذا ما يؤكده الكتاب المقدس؟ هل تقديم قرابين من ثمار الأرض تعتبر سقوطا في الايمان تجعل الرب يرفض ايمان صاحبها؟

حتى في الميثولوجيا – عالم الأساطير- وهي الجذور التاريخية والفكرية والفلسفية لكل الديانات التي ظهرت على وجه الأرض، نجدها مليئة بالصراع  الدموي بين الآلهة.. كل الفكر الديني الميثولوجي بني على الصراع الدموي. نقرأه كثقافة إغريقية جميلة وساحرة، لكن الدين نقرأه كأحكام لا مفر منها. 

السؤال الضروري من قصة التوراة عن قابيل وهابيل: هل الفقير الذي لا يملك قوت يومه مجبر على تقديم ذبائح دموية ليقبل الله قربانه ويصادق على ايمانه؟ تخيلوا لو قام مليارات البشر بتقديم القرابين الدموية، لحدثت مذبحة ابادة شاملة للماعز والخراف والبقر وبالتأكيد كانت كرتنا الأرضية ستخلو من أي حيوان صالح للأكل، وربما تنحر الحيوانات المفترسة ايضا، لكن هل يقبلها الرب؟ السؤال: ما هي ضرورة القربان الدموي للرب؟ ألا يعرف الرب ما في القلوب والضمائر؟ أليست ثمار الأرض هي من الأرزاق أيضا وتنميتها قد تكون أكثر صعوبة من رعاية الماعز مثلا؟ التفكير المنطقي لا بد ان يقود الانسان الى الوعي انه امام اسطورة لا تقع بعيدا عن النهج الديني الوثني الذي انتقل الى ما يسمى "الديانات التوحيدية"، أي ما زلنا في نفس التقاليد الوثنية الذي دأبت على تقديم قرابين دموية .. بما في ذلك قرابين انسانية. ان خطر هذه الأساطير انها تطرح القرابين الدموية  كقواعد أخلاقية للإيمان الصحيح. تتمة الأسطورة ان قابيل بسبب رفض الرب لقربانه (لنقل لإيمانه) وقبوله قربان هابيل قام بقتل أخيه.

 اذن هل لا يكتمل الايمان الا بالدم؟!

 المجتمعات الحديثة لم تطور العلوم والتقنيات والثقافة والفكر فقط، بل طورت أيضا اساليب عنف أكثر وعقليات عنف ودواع للعنف تشكل اليوم واقعا مثيرا للقلق.

مثلا في كتاب توجيه ديني كتاب "توراة هميلخ" ("نظرية الملك") التي كتبها رجال دين يهود من بيت الارشاد الديني  للمدرسة الدينية "عود يوسف حي"  (يوسف ما زال حيا) الموجودة في مستوطنة يتسهار المقامة اغتصابا على الأراضي الفلسطينية المحتلة، يحض الكتاب على اباحة  سفك دماء الأغيار (غير اليهود) .   يسمح بالحاق الأذى ايضا بأطفال وابرياء تماما وبشكل مقصود.. لأنهم (كما يشرح هذا الكتاب) يمكن ان يكبروا بصورة غير قويمة وعلى أي حال سنضطر الى قتلهم... ونهايتهم ببساطة ان يكونوا ابناء موت في عالم لا مكان لهم فيه. ومسموح قتل الشخص حتى لو كان من "صالحي شعوب العالم" (القصد اؤلئك الذين انقذوا يهودا في الحرب العالمية الثانية من براثن النازية) وغير متهم اطلاقا بالوضع القائم" – أي الصراع الفلسطيني الاسرائيلي!!

  هذه تعاليم عنف دموي تروج باسم الدين، للأسف لم تتحرك السلطات الاسرائيلية لمنع ترويج هذه السموم ما دام شرها سيكون ضد الفلسطينيين والأغيار. لكن ما يبدأ ضد العرب لن يطول الوقت ليصبح ضد اوساط يهودية أيضا، من يتابع السياسة في اسرائيل يعيش هذا الواقع المريض، حتى لو طرح تحت صياغات تبدو منطلقاتها لحماية المجتمع الاسرائيلي او النظام الديمقراطي، كما تدعي السلطة اليمينة المتطرفة في اسرائيل. التي ترى بان نقد وكشف جرائم الاحتلال وتصرفات الجنود القمعية والارهابية ضد الفلسطينيين، الذي تقوم به منظمات وجمعيات يهودية انسانية وحقوقية وطبية هو تجاوز خياني يضر بإسرائيل، كل من يقوم به يهدد الأمن القومي للدولة، لذا تقر قوانين وقرارات ضد الجمعيات والتنظيمات التي يقلقها تدهور اخلاقيات المجتمع الاسرائيلي نتيجة استمرار سياسة الاحتلال والعنف الدموي والتنكر للحقوق القومية للشعب الفلسطيني.

اذن هل العنف الدموي حسب المنهج الديني هو حالة ملازمة  لوجود البشر؟ هل اسطورة قابيل وهابيل الدينية التوراتية الدموية أضحت مقياسا أخلاقيا للاحتلال ومستوطنيه وحاخاماته؟!

بعض النظريات السياسية تطرح رؤية عن شكلين من العنف، العنف المشروع والعنف غير المشروع. 

العنف المشروع يشمل حسب هذه النظريات الدفاع عن الحقوق القومية، او مطالب حقوقية مختلفة، البعض يسميه "العنف الثوري" ورجاله تطلق عليهم القاب مثل "ثوري" أو "مناضل" واذا قتل يصبح شهيدا. هناك عنف تطلق عليه صفة "الارهاب" فيه تيارات مختلفة، ابرزها تيارات دينية يظن  اصحابها ان معهم توكيلا سماويا بقتل اناس ابرياء من اجل تحقيق رؤية دينية او حتى قومية الى حد  ما.

رؤيتي ان كل اساليب العنف لا تخدم أي فكرة انسانية عادلة او غير عادلة. حتى اليوم لم اعرف ارهابا عادلا.

الملاحظة هنا ان وصم شعب يناضل من اجل استقلاله او تحرره من الاحتلال او يواجه اعداء وطنه بالإرهاب.. هو أمر مرفوض. لكن هذا الموضوع ليس مطلقا، بمعنى ان النضال العادل لا يعني مشروعية قتل ابرياء اطلاقا، حتى لو كانوا من الشعب الآخر.

انتفاضة الحجارة كنموذج نضالي كانت نضالا عادلا واجه الارهاب الاحتلالي سلميا والحجارة كانت دفاعا عن النفس بمواجهة القمع الاحتلالي المسلح بكل وسائل القتل.. لكن انتفاضة السلاح فيما بعد لم تنجز الا الخسارة والضرر للقضية الفلسطينية. انتجت تجزيئ المجتمع الفلسطيني في المناطق المحتلة عبر بناء الأسوار العازلة، مصادرة المزيد من الأرض، او احداث قطيعة بين اصحاب الأرض وأراضيهم التي تركت ثمارها للنهب والتخريب، تعمق القمع والحصار والتجويع. انتفاضة السكاكين اليوم لم تقدم للشعب الفلسطيني الا اضرارا كبيرة. يمكن كتابة مجلدات عن شرعية النضال وحق الشعب المقموع والمحتلة ارضة استعمال مختلف اساليب النضال. لكن اساليب النضال يجب ان تخضع لنهج سياسي واهداف سياسية وليس لتصرفات شخصية وعشوائية، خطرها انها تخدم الاحتلال والقمع والاعدام الميداني للفلسطينيين وتصويرهم ارهابيين دون ان تنجز أي هدف وطني او سياسي.

اساليب العنف او الارهاب حتى لو كان عادلا في دوافعه، ثبت انها لا تخدم أي قضية عادلة، بل تلحق الضرر بالقضية العادلة وأصحابها.

التاريخ يحفظ لنا تجارب نضالية مختلفة، انجزت بدون العنف الدموي ما لم تنجزه الأساليب الدموية في النضال. على رأس هذه التجارب النضال السلمي لتحرير الهند من الاستعمار البريطاني الذي قاده غاندي، الذي نجح بنضاله السلمي الرافض للعنف ان يهزم الامبراطورية الاستعمارية القديمة بريطانيا ويفرض عليها انهاء احتلالها للهند.

تجربة اخرى من جنوب افريقيا، تجربة نلسون مانديلا، الذي قاد من سجنه نضال الشعب الأفريقي ضد النظام العنصري الأبيض، قضى ربع قرن في السجن رافضا ان يلجأ حزبه للسلاح، وفي النهاية حرر من السجن ليكون اول رئيس لجمهورية جنوب افريقيا الحرة.

التجربة الثالثة من الولايات المتحدة الأمريكية، النضال السلمي الذي قاده القس مارتن لوثر كنغ لإسقاط القوانين العنصرية وتحقيق المساواة للسود في أمريكا.

يجب الانتباه ان هذه التجارب نجحت بتجنيد اوساطا واسعة من الشعب البريطاني، ومن البيض في جنوب افريقيا ومن البيض في الولايات المتحدة الى جانب النضال السلمي العادل، ومن هنا قوة هذه التجارب ونجاحها في انجاز اهدافها. دون كسب قوى عقلانية من الجانب المعادي او المعتدي او المحتل، لن يكون انجاز الأهداف الوطنية ميسرا. من هنا ضرورة طرح نهج سياسي نضالي وليس شرطا اللجوء للعنف فقط.

كتبت اثناء الحرب الأخيرة على غزة ان "صواريخ ابو مازن اقوى من صواريخ حماس" في مواجهة اسرائيل. وكنت أقصد ان ادارة معركة سياسية ضد الاحتلال، وتجنيد الرأي العالم الدولي ضد الاحتلال والدفع لتحرك دولي لمقاطعة الاحتلال، وكسب اوساط سياسية يهودية الى جانب الحقوق الفلسطينية،  افضل واكثر تأثيرا وخدمة للقضية الفلسطينية من كل معارك حماس التي "انجزت بها انتصارات على العدو الصهيوني"!!

الموضوع ليس بطولة انتحارية، بل اختيار اسلوب النضال الملائم والأبعد تأثيرا في الواقع القائم.

لن اتوسع حول ظاهرة العنف الذي تشهدها بلداتنا والقتل الذي يجري دون ان تتمكن الشرطة من ضمان امان المواطنين والقاء القبض غلى منفذي القتل. الموضوع هنا مختلف... وهو يستحق معالجة خاصة، لكن الأمر المقلق هنا هو اهمال السلطة الاسرائيلية للمجتمع العربي، ليس اهمال من الشرطة فقط، انما حرمان الوسط العربي من ميزانيات للنشاطات الثقافية والفنية والرياضية، حيث نشهد انتشار مقاهي الأرجيلة، انتشار تجارة السلاح والمخدرات. الشرطة هي جهاز لتنفيذ سياسة مخططة. ليس سياسة امنية فقط ، ليس سياسة منع المخدرات وتنظيف المجتمع العربي من السلاح غير المرخص. انما سياسة تشمل ميزانيات للتعليم، ميزانيات للنوادي، ميزانيات للبرامج التثقيفية والفنية والرياضية، سياسة تخفيض البطالة بين الشباب العرب، سياسة بناء المشاريع الاقتصادية، بناء مساكن للأزواج الشابة، تقليص ظاهرة البطالة ونقل البلدات العربية من كونها مأوى للعمال الى اقامة مناطق صناعية تضمن تشغيل نسبة كبيرة من عمال البلدات العربية داخل البلدات العربية، وتقليص او انهاء ظاهرة الأطفال الفقراء التي تشكل اخطر ظاهرة تواجه المجتمع العربي في اسرائيل!!

كل حديث عن مواجهة العنف في البلدات العربية بواسطة الشرطة فقط سيكون مصيره الفشل ، العنف لا يعالج بالقمع والعنف الرسمي للدولة، بل بعلاج موضوعي للواقع الاجتماعي الذي سبب نشوء ظواهر العنف.

 

نبيــل عــودة

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم