صحيفة المثقف

استطيقا الرؤيا الشعرية والروائية في قصائد (أولئك أصحابي) لحميد سعيد (1-2)

esam shartahلا شك في أن مصطلح (الرؤيا) من المصطلحات المهمة التي تطرق إليه الكثير من باحثينا ودارسينا في حقل الشعر والشعرية، لاسيما الكبار من النقاد والشعراء، أمثال أدونيس، وعلي جعفر العلاق، وعز الدين المناصرة، وآخرين، ويرى أدونيس - في الشعر الرؤيوي- التجاوز، والابتكار، والخلق الإبداعي الجديد، وهو ينظر إلى الشعر الإبداعي الحقيقي على أنه خلق، وتجاوز دائم، وحراك رؤيوي مستمر، وتطور ملحوظ في الرؤيا، وطريقة التعبير، وهذا ما يراه شاعرنا حميد سعيد، إذ يرى أن الشعر الحقيقي هو الذي ينطوي على رؤيا إبداعية خلاقة، ولغة وثابة متوهجة، بالبكارة، والغنى، والثراء، والتجدد، والخصوبة الرؤيوية، والدهشة التعبيرية والغنى القاموسي (خصوبة المعجم الشعري وتنوع حقوله الدلالية)، وذلك لئلا يكون الشعر مجرد تكرار لفظي تقليدي ممجوج لما قد سلف، ولهذا، يقرن الشاعر حميد سعيد الشعر التجاوزي الإبداعي بكل ما هو خلاق ومبدع في الشكل اللغوي، والرؤيا المتوهجة الخلاقة التي ينطوي عليها، وهذا الشعر هو الذي ينبغي أن يحظى بالرعاية والاهتمام؛وهذا ما يؤكده إذ يقول: (إن الكثير من النصوص الشعرية التي تبدو جميلة ومقبولة لا تستهوي النقاد، ولا يجد فيها الناقد ما يستدعي قراءة نقدية مهمة" (1) .لأن الشعر الحقيقي هو الذي يقدم رؤيا شاملة، ونظرة متجددة للحياة، والخلق، والكون، ولا يهم التنميق، والتوشية اللفظية، والمشاكلات اللفظية المموسقة الفارغة، وإنما ما يهم –بالدرجة الأولى- الرؤيا الخلاقة المتوهجة التي تتجاوز زمنها الخاص وتخلق زمنها الإبداعي المتفرد.

ويرى الناقد يوسف جابر أن الرؤيا" هي حصيلة معاناة اجتماعية قامت أساساً على محاور كونية متقاطعة، توحد في مركزها الشاعر مع الحياة بفئاتها حتى خبرها واستوعبها، وصار من هذا المركز يبث رؤاه على تلك المحاور في اتجاهاتها المختلفة تبعاً لغنى تجربته وخصبها" (2) .وهذا المنظور الشامل للرؤيا، يجعلها محور الوجود التأملي لدى المبدع؛ولهذا، نجد أن الكثير ممن خبروا العملية الإبداعية على حقيقتها، يقفون على رؤى دقيقة لحقيقة الإبداع والشعرية، فهاهو الشاعر الكبير خليل حاوي يعرِّف الشعر باعتماد ركيزة الرؤيا في تحديد جمالية الإبداع الشعري الحقيقي عما سواه، قائلاً: "الشعر رؤيا تنير تجربة، وفن قادر على تجسيدهما" (3) .وبهذا التعريف المختصر يضعنا في صلب الوعي الدقيق لمفهوم (الرؤيا) في جوهرها الإبداعي الذي وعاه أدونيس وعبر عنه في أكثر من موقف، ولهذا يرى أدونيس أن الشعر في رؤياه الخلاقة هو تجاوز، وخرق أسلوبي وفكري لكل ما هو معتاد، ليس على صعيد اللغة والشكل اللغوي فحسب، وإنما على صعيد الفكر، والرؤيا، والإحساس الجمالي، إذ يقول:" فكل واقع في الشعر نتجاوزه ويوصلنا إلى واقع آخر أغنى وأسمى.. هذا البحث عن الواقع الآخر، عن الممكنات، هو ما يعطي الكشوف الشعرية فرادتها. ففي هذه الكشوف يتعانق المرئي مع اللامرئي، والمعروف مع المجهول، والواقع المحسوس مع الحلم. وهكذا، تكتمل رؤيا الشاعر في جدلية الأنا والآخر، الشخص والتاريخ، الذات والموضوع، الواقع وما فوق الواقع" (4) .

وما نقصده ب (أستطيقا الرؤيا) القيمة الإبداعية التي تحققها القصيدة في توهجها الرؤيوي، وبكارة الطرح الرؤيوي، والقوة الدافقة التي تولده في النص، بما يثير الحركة الشعرية، ويخلق الرؤية الجمالية الفتانة في القصيدة، فالنص الإبداعي لا يسمو ولا يحقق فرادته إلا بتوفر عاملين –على حد تعبير الناقدة بشرى البستاني- هما اللغة المتوهجة الوثابة، والطاقة الرؤيوية الفاعلة (شعرية االرؤيا)، وهذان هما الشرطان الضروريان في الإبداع، وفي تخليق المنتج الجمالي الإبداعي المؤثر؛ تقول الناقدة المبدعة بشرى البستاني:" البحث عن الشعرية وفي الشعر –باعتقادي- ليس هو إلا البحث في اللغة والرؤيا، وعند التنقيب في هذين المجالين ترد كل التقنيات الأخرى، فالبحث في الصورة الفنية إنما هو بحث في اللغة، ومن ورائها المخيلة التي تشكلها، والبحث في الرمز بحث في اللغة، وفي المخيلة التي تعمل على تشكيل الروابط بين الرامز والمرموز له، والبحث في الإيقاع هو بحث في اللغة، وفي طرائق تشكها، وأنظمة تعبيرها زمنياً، والبحث في المعجم الشعري، وفي تراكيبه هو بحث في اللغة، وفي طرائق اللعب الحر بها؛ فالفن هو أرقى أنواع اللعب، لأنه يمتلك قوانينه الدقيقة والراقية" (5) . وهذا يعني أن لعبة الفن الاستطيقية هي العزف على استطيقا اللغة، وأستطيقا الرؤيا، ومادام توهج اللغة من توهج الرؤيا سينصب البحث في أتون فاعلية الرؤيا وتوهجها فنياً في مسار الحركة التي تحكم سيرورة هذه القصائد في مدها الدلالي وحراكها الرؤيوي المكثف.

 

فواعل الرؤيا الشعرية والروائية أستطيقياً في قصائد (أولئك أصحابي) لحميد سعيد:

إن قارئ قصائد (أولئك أصدقائي) لا يخفى عليه القيمة العظمى التي تمتاز بها هذه القصائد على مستوى توهج الرؤيا، وحساسية المنظور الشعري، فالشاعر حميد سعيد كما صرح لنا بالدافع الذي كان وراء إنتاج مثل هذه القصائد وهو (الرؤيا الجمالية) يؤكد في موضع آخر الآلية الجمالية في توهج هذه القصائد ومطلبها الإبداعي المتوخى منها، إذ يقول:" نعم، أنا أوظف ما أتوفر عليه من معرفة وما أمتلك من ثقافة، في كل ما أكتب، وبخاصة في ما أكتب من شعر، وقد عرفنا شعراء كثيرين موهوبين، وبداياتهم تفصح عن موهبتهم، لكنهم يظلون عند البدايات، يكررونها من دون تجديد أو إضافة، لأنهم لا يمتلكون ثقافة عميقة، وجادة وحيوية، أو لأن ثقافتهم محدودة، وهامشية، وأمثال هؤلاء، أما أن ينصرفوا عن الكتابة الشعرية فتضمر موهبتهم، أو أن يكون نتاجهم، مجرد كم يتكرر .وسواء في قصائد هذه المجموعة أو في سواها، أجد في الثقافة وفي القراءات، ما يغني تجربتي الشعرية، ويعدد مساراتها، وينفتح بها على آفاق واسعة، وأمداء جديدة.هل كان عليَ، أن أتنازل عن معارفي وثقافتي وتجاربي وقراءاتي، وأضعها في محيط معزول، لتبدو قصيدتي سطحية وباهتة، لا تقارب إلا ما هو شائع ومعروف ومكرر من الأفكار والصور، من أجل أن أتصالح مع ناقد كسول، وقارئ أكثر كسلاً،، أو مستمع يصفق لما يعرف وينأى بنفسه عما لا يعرف" (6) .

ولهذا، حاول حميد سعيد أن يرتقي بالرؤيا الشعرية بفواعلها الاستطيقية البليغة، لتصيب مرماها الفني، بقوة تعبيرية فعالة، وحراك رؤيوي مفتوح، ومن يقرأ قصائد (أولئك أصحابي) - بعمق وشمولية- يلحظ أن غنى الحركة الجمالية إبداعياً فيها يعود إلى توهج الرؤيا، وتنوع مساربها الدلالية، والدلائل الاستطيقية على ذلك كثيرة؛ فقوة الحدث في مسار الشخصيات وفواعلها النشطة في هذه القصائد ترتد إلى شعرية الرؤيا، وتوهجها فنياً، وكذلك سموق الزمن الشعري بفواعله المحرضة يرتبط بالرؤيا ومحفزاتها للحدث والمشهد الشعري في آن، وكذلك فإن شعرية الحدث ترتبط بشعرية الزمن وحراك المواقف والأحداث الشعرية ضمن مسار القصيدة ترتبط بشعرية الرؤيا كذلك، فالشعرية إذاً- في هذه القصائد كل متكامل- ترتبط بجذرها الإبداعي- وهو استطيقيا الرؤيا – وترتبط بالأحداث المتعلقة بالشخصيات والمواقف الجديدة التي تفرزها هذه القصائد في مسارها الإبداعي؛ فكما ترتقي بعض القصائد بفواعل الحدث، وحراك المشاهد الدرامية فإن بعضها الآخر يرتقي بمحفزات الرؤيا والإحالات الجديدة المضافة لتبدو الرؤيا الشعرية ليست وليدة الرواية، وإنما وليدة الذات الشعرية، في حراكها الشعوري المكثف، وهذا يرتد إلى فواعل الرؤيا المتوهجة التي حركت الأحداث، وأكسبت المواقف قوة بلاغية في تعزيز الرؤيا الشعرية المتعلقة بالحدث الروائي والشعري معاً؛وهذا يعني – باختصار- أن قوى الجمال -في هذه القصائد- ترتد إلى الفواعل المشتركة بين الأحداث، والرؤى، والتجارب، والمواقف الجديدة التي تنطوي عليها الحركة الدلالية والرؤيوية في هذه القصائد، سواء على مستوى حراك الشخصيات أم على مستوى كثافة الأحداث، وتوترها الدرامي، أو البانورامي في هذه القصائد.

 

1- أستطيقيا الرؤيا الشعرية والروائية في قصيدة (قريباً من الليدي شاترلي .. بعيداً عنها) لحميد سعيد:

لابد من الإشارة بداية أن خصوبة الرؤيا الشعرية- في هذه القصائد- لا ترجع إلى الشخصيات الروائية، ولا إلى أحداثها، وفواعلها الرؤيوية النشطة في الرواية، وإنما إلى فواعل الحدث الشعري، والموقف الشعري الجديد المتخذ في تحريك الشخصيات، فالشخصية الروائية لا تحمل الأهمية من كونها لب الحدث الشعري، أو لب الاستقطاب الرؤيوي للمواقف، والإحالات، والأحداث الجديدة، ولكنها من كونها تعرض رؤيا متوهجة، تعايش الواقع الراهن، وتسعى إلى تجاوزه، ولهذا، يضفي الشاعر على الحدث الروائي ما هو متخيل من جهة، وما هو معاصر لنا في واقعنا الراهن من جهة ثانية؛ وهذه المفارقة هي ما يكسب هذه القصائد سحرها الجمالي وعجائبية مردودها الإيحائي، وتوالدها الرؤيوي على الدوام، ففي هذه القصيدة (قريباً من الليدي شاترلي.. بعيداً عنها) لحميد سعيد، يتمثل فيها الشاعر رواية" عشيق الليدي شاترلي" ل- د. ه لورنس - . و(ديفيد هربرت لورنس، كاتب بريطاني، ولد في قرية ايستورد في العام 1885، وكان والده من عمال المناجم، وكانت والدته مدرسة، وتزوج من فتاة ألمانية وتوفي في العام 1930نشرت رواية – عشيق الليدي شاترلي– في العام 1928 في إيطاليا، ولم تنشر في بريطانيا إلا في العام 1960 .وهي تحكي علاقة جسدية بين رجل من الطبقة العاملة، وامرأة من الطبقة الأرستقراطية، ويقال إن – لورنس – استوحى هذه الرواية من الواقع الاجتماعي الذي عاشه، ومن علاقة حقيقية كانت بين السيدة –أوتلاين موريل – الأرستقراطية وعشيقها البناء –تايغر– الذي دخل قصرها لبناء قاعدة حجرية لأحد التماثيل في الحديقة المنزلية" (7) .

وقد كان الناقد حمدي مخلف الحديثي، محقاً في تعليقه على هذه القصيدة بقوله:" إن هذه القصيدة تصدر عن تجربة غنية، فلم يذهب بها الشاعر إلى محددات قصيدة الغزل، في الوقت الذي كان من الممكن أن تكون تجربة الليدي شاترلي مع عشيقها تمهد لقصيدة غزلية مثلاً.إنها قصيدة ذات رؤية اجتماعية عميقة، تكشف دراما الذات حين تصطدم بدراما المجتمع في تقاليده ومعطياته الطبقية، ومع هذا كان يمكن أيضاً أن ينزلق الشاعر إلى تناولها في هذه الحدود، الاجتماعية والطبقية، لكن شاعراً مثقفا وموهوباً مثل حميد سعيد جعل منها تجربة إنسانية فريدة" (8) .

وهذا القول الحصيف من الناقد يدل على دراية ومعرفة بالبعد الرؤيوي للقصيدة، فهي ليست صراعاً بين شعرية الجسد أو شعرية الروح، إنها صراع استطيقي بين المتناقضات، أو المتضادات (الجوهر/والمادة)، و(الواقع/ والمثال)، و(الممكن/والمستحيل)، و(الحسي/والمعنوي)، صحيح أن الشاعر غلَّب الطابع الغريزي الحسي على شخصيته الروائية، لتعلن ثورتها بالجنس والجسد، على حساب الجوهر أو الروح، ليؤكد أن للقصيدة طيفها الرؤيوي المختلف عن نسق الرواية، إنه أراد أن يبين أن قوة الجسد تجذب الروح، لاسيما حين تجمح هذه القوة، وتعلن ثورتها على الأعراف والتقاليد، ولهذا كرَّس هذا الجانب في هذه القصيدة على الروح:

للجمرِ.. في الجَسَدِ المعبّأ بالزوابع والرعودِ ..

خريطَةٌ صمّاءُ مُعتِمَةٌ

سيفتَحُ في خطوط الطول حيناً

أو خطوط العَرضِ .. حيناً آخرَ..

الأبوابَ..

نحوَ فضاءِ فتنتها.. وما اكتنزتْ من الأسرارْ" (9) .

هنا، يلعب الشاعر أستطيقياً بالعزف على شعرية الجسد، ويبث رؤاه الاغترابية الثائرة من خلال لغة الجسد الجموح بالرغبة رغم كل القيود، وهنا، يفتح بوابة الاصطراع بين تغليب الحسي على المعنوي، وتغليب المعنوي على الحسي بمفارقة رؤيوية مصطرعة بين ما تمثله شخصيته الروائية (الليدي شاترلي) من قوة ورغبة جامحة تؤكد عصيانها وتمردها على الواقع وبين إحساسه الوجودي؛ فهو يعلن تمرده على الواقع ليس بلغة الجسد، وإنما بعزيمة الروح، فالقصيدة هي صراع بين قوة الجسد وثورته ممثله ب (الليدي شاترلي)، ورغبتها وتمردها المشبوب بالانفتاح والتمرد وكسر القيود الاجتماعية، وقوة الروح وثباتها ممثلة بشخصية الشاعر، فكلاهما يعلن ثورته في جانب على حساب الجانب الآخر، وكلاهما يعلن تمرده الفائق، واغترابه المحتدم، وهنا؛ تنفتح التساؤلات، وتطرح القصيدة جملة من المتغيرات والمفارقات المفتوحة على أشدها، كما في هذه التساؤلات المدببة بالرفض والتمرد والثورة، (الليدي شاترلي) على واقعها، وهو على واقعه الاغترابي المرير، كما في قوله:

مَنْ أعطى الرياحَ شراسةَ الإعصارْ

تِلكَ التستفيقُ على جليدٍ .. يسكنُ الرحمَ البليدَ

رأتْ صباحاً لا حدودَ لهُ..

وشمساً طفلةً تتسلّقُ الأشجارْ

تقترنُ السحالي بالسحالي

والسناجبُ بالسناجبِ..

كلُّ ما في الغابة العذراء من شَجَرٍ..

يحضُّ الماء..

تغتلِمُ الثمارْ" (10) .

هنا، ينتقل الشاعر بمرواحة أستطيقية مكثفة من التساؤلات المفتوحة التي تشير إلى شخصيته الروائية من بعد؛ ليترك الرؤيا الروائية مشرعة كل الاحتمالات أي مشرعة على رؤى ودلالات متتابعة لا تسكن في موقف أو هدف بَيِّن ظاهر، وهذا يعني انشغال الشخصية بالجزئيات والمرئيات البسيطة على حساب القضايا والرؤى الكبرى، (كلُّ ما في الغابة العذراء من شَجَرٍ..يحضُّ الماء..تغتلِمُ الثمارْ"؛وهذه الرؤى تنفتح بكثافة لتزداد قوة الحدث، وتوهج الرؤى المحتدمة، وكأن الإحالات الرؤيوية الجديدة فعَّلت الشخصية، وأكسبتها قوة في نقل الحدث، والتعبير عن شعرية الجسد، وثورته على جميع الأعراف، والتقاليد، والأنظمة الاجتماعية الضيقة، ليدخل لب الحدث الروائي في حراك رؤيوي مفتوح، كما في قوله:

"في ليلةٍ ما عادَ يذكرها..

وكان يمرُّ قُرْبَ فنارها الذهبيِّ.. مُرتاباً

فَتَهرَعُ كي تراهْ

وإذا دنا منها.. تُفاجِئُهُ حرائقُها ..

وفي غَيبوبةٍ بيضاء.. تَشْتَبِكُ الحرائقُ

أيُّ عاصفةٍ من الرغباتِ..

يطلقُ جمْرَها الجسدُ الجميلُ

أكانتْ امرأةَ ؟

يكادُ يَشُكُّ ..

ما هذا الثراء الفضُّ في إيقاعِ ربوَتِها..

وفي النهدين ؟!

كيفَ يكونُ هذا السحرُ في لغةٍ..

تنوءُ بما تُشيرُ إليه منْ فِتَنٍ " (11) .

هنا، يدخلنا الشاعر أجواء الرواية، ويسرد لنا الأحداث بلعبة أستطيقية مكشوفة بتفاصيلها، ورؤاها الجزئية، ومشاهدها، ولقطاتها المتخيلة . كيف تهرع إليه، وهو يتلقفها ويستقبلها بذراعيه، ويشتم أريجها بعبق يفيض بالشهوة والغريزة، وهنا، تتراكم التساؤلات المدببة بالرؤيا الشعرية المفتوحة، وتزداد الأسئلة حراكاً وكثافة كلما أوغل القارئ في تتبع حيثياتها الجزئية: (وكان يمرُّ قُرْبَ فنارها الذهبيِّ.. مُرتاباً فَتَهرَعُ كي تراهْ وإذا دنا منها.. تُفاجِئُهُ حرائقُها)، وهذا التصوير المشهدي البانورامي الحي يدلنا على طزاجة الرؤيا وحراكها المشهدي المتتابع، وهكذا، فإن الرؤيا الشعرية تؤسطر الجسد الأنثوي، ليقف القارئ أمام لوحة في تجسيد مفاتن الأنثى وإحساسها الداخلي، بلغة تقترب في وقعها من حساسية القارئ، ولذلك، تتمثل القصيدة الواقع الروائي، وترصد تفاصيله برؤى متخيلة تتغوَّر أعماق الشخصية، ومداراكها كافة، ولو تتبع القارئ الجزئيات والمشاهد المتخيلة لأدرك شعرية الرؤيا، وعمق ما تصيبه من رؤى ودلالات ثائرة ترتد إلى عمق الشخصية الروائية، وعمق الذات الشعرية في تمثل أبعاد الشخصية، وماتنطوي عليه من رؤى ومشاعر محتدمة في قرارة الذات الداخلية، كما في قوله:

تقولُ لهُ..

أَ نقرأها معاً ؟

ماذا سنقرأُ ؟!

إنَّ مُعجَمها تعثَّرَ بارتياب العاشقينْ

وليسَ ثَمَّةَ من يقينْ

بما ادعتهُ..

ستندمينَ .. إذا ارتضيتِ حدودَ فتنتها..

فذاكَ فضاؤها

ابتعدي قليلاً أو كثيراً.. وليكنْ لكِ ما يخصّكِ من فضاءْ" (12) .

هنا، تتعدى الرؤيا حيز المشهد الحواري الوصفي لتدخل قمة المعمعة الشعورية بين إحساس الذات الشعرية، والشخصية الروائية التي تنفتح على أكثر من محرق دلالي، وكأن المشهد الحواري الغريزي الذي تنطق به شخصيته الروائية يرتد إلى الداخل، إلى الإحساس بالتمرد والثورة على الواقع، بكل ما فيه من سلبيات، ومواقف صاخبة تمتد في مسار رؤيوي، على أكثر من محرق دلالي، وأكثر من رؤية، كما في قوله:

كيفَ التقاها ؟

عندَ بابِ الفندقِ الجبليِّ .. في .... ؟!

كانت بقبَّعَةٍ وبنطالٍ قصيرٍ

لم يكن يسعى إليها

كان معتزلاً حزيناً..

هلْ تَذَكَّرها ؟

وإذ حلَّ المساءْ

تَخيَّلته كما تشاءْ

وأدخَلَتهُ خريفَ غابتها.. وأمطَرَت السماءْ

وكأنَّ عُريَهُما أعادَ إليهما..ما كانَ بينهما

و" أسدلت الظلامَ على الضياءْ"

وبانتظار ثمارها

غطّى ضجيج العُريِّ بالأزهارْ

إنَّ أريجها الليلي يدخلُ في استعارات الكلام

وإذ تحاولُ أن ْ.... ؟!

تفيضُ ضفافُها حُمَماً..

وتحرمُ كلَّ مَنْ في الغابة السوداء..

مِنْ نِعَمِ المَنامْ." (13) .

هنا، يقوم الشاعر برصد المشهد الغرامي الحميم المتخيل بين شخصيته البطلة (الليدي شاترلي) وعشيقها، وكأن الشاعر يرصد المشهد عن قرب بإحساس رؤيوي شامل، من خلال الإحاطة بالمكان، ورسم تفاصيله الجزئية، وهذه القوة في رصد المشهد بتفاصيله، هو ما يهب الإحالات الرؤيوية المتخيلة قيمة عليا من التكثيف، والتفعيل الرؤيوي الكاشف، ولهذا، يستغرق الشاعر في رصد المشهد بقوى بلاغية رؤيوية مفتوحة، كما في قوله:

"في مهرجان الماءِ.. تنشَأُ مرَّةً أُخرى ويَنْشَاُ

كان يخلقُها

وتخلقهُ

ويرجو أن تكون وأنْ يكونْ

ويغادران معاً .. ويفترِقان ..

لامرأةٍ من البللور كان قد اقتناها..

من مَزادٍ هامشيٍّ في الضواحي

بعضُ ما قد كان فيها

هل ستخرُجُ ذاتَ يومٍ من تَشَكُّلها المُريب ؟!

وهل تكون ؟

وهل يكون ؟ (14) .

إن اللعبة الاستطيقية الرؤيوية تتبدى في التساؤلات المتخيلة المفتوحة على كم وافر من المفارقات والاستفهامات اللامتناهية عن جمالها، وفتنتها، وثورتها الجسدية التي تكسر حاجز العرف، والعادة، وتحلق في سماء أنوثتها، وفتنتها، وهذا ما يضمن للقصيدة شعرية الرؤيا، وكثافة التعبير، وتنامي الدلالات وانتشار طيفها الدلالي الواسع، وهنا، تتلون الدلالات، تبعاً لمنعرجات الحدث، وفواعل الشخصية، وحراكها الرؤيوي المتجدد، كما في قوله:

"مازالَ حين يمرُّ بالشجرِ المُخاتل .. حيثُ كانا

يَتَخَيّلُ امرأةً.. تَسلَّلُ في الظلام إليهِ..

من مسكٍ وغارْ

شاخت أعاصيرُ البلادِ .. ولَمْ تَشِخْ

فَرَسٌ ..

تَذَكَّرَ ما تجودُ به عواصفُها..

وما تهبُ الرياحُ

حتى إذا اقتربَ الصباحُ

لمَّت بقايا عطرها السريِّ ..واعتكفَتْ بعيداً..

وانتهى الحُلُمُ المُباحُ" (15) .

هنا، يفتح الشاعر بوابة الرؤيا، ليحكي على لسان عاشقها، بما يجول في خاطره، من رؤى متخيلة لرغبته بها والأنس بجسدها البض الجميل، وكأن رغبة الشاعر بها رغبة في العودة إلى عالمه الوجودي العراقي، إلى زمنه القديم، ليستعيد ما كان، فالشاعر أراد أن يجسد من خلال هذه القصيدة فكرة الحب المثالي، أو الثورة الوجودية على الأعراف، والعادات، والتقاليد الاجتماعية، برؤى مفتوحة، تشي بأكثر من دلالة، وتفيض بأكثر من مدلول، وهكذا، تتأسس الرؤى الشعرية على تحريك المداليل الرافضة للأعراف، والعادات، والقوانين الصارمة، وما شخصية (الليدي شارترلي) إلا الشخصية الرمز الثائرة على وجودها، عبر حرية الجسد، والانفتاح به على واقع وجودي مفتوح على كل زمان ومكان، فهي رمز لقوة العراق، وحيويتها، وزهوها في الزمن الماضي، ولهذا، تكاثفت الرؤى، وانفتحت على أكثر من معنى، ومدلول، وإيحاء. وهذا يقودنا إلى القول : إن فواعل الرؤيا الشعرية تنطلق من الرؤى المتخيلة المضافة للشخصيات، والأدوار التي لعبتها بفواعل رؤيوية نشطة، تثير الدلالات الجديدة، وتغدو الشخصيات الشعرية متنفس الشاعر الوجودي في التعبير عن رؤاه العميقة، ومنظوراته الرؤيوية الجدلية للحياة. ولهذا، تلعب الشخصيات الروائية في المتن الشعري دور المحرك للرؤى الشعرية، ودور الباعث الرؤيوي الدافق، لتفاعل الأحداث، والمواقف الرؤيوية –الشعرية التي تبثها القصائد في محرقها الرؤيوي، وحراكها الدلالي المفتوح.

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم