صحيفة المثقف

عندما تتحول الأشجار الى قصائد

905-saadقراءه في ديوان (اشــجار خــريف موحــش) للشاعر الدكتور سعد ياسين يوسف.

ونحن نقرأ قصائد ديوان (اشــجار خــريف موحــش) ونمر عبر فضائها الشعري نتسأل هل القصيدة رؤيا صوفيه لا حدود لها

حين أتخذ الشاعر من فلسفة التأمل أساساً منطقياً يرتفع عليه بناء تجربته الشعرية او الصوفية بالتعبير الأسمى, وابتكر من الصورة ما يفيض عنها بقية المعاني فهي تنمو وتتكاثر وتعبر عن نفسها بشتى التجليات فتغادر المستوى الشعري الى فضاء التأويل كلوحة تشكيلية شعرية لها قدرة إيحائية عالية بقصديه التعبير عن ذات الشاعر وتأثيره على المتلقي , فهي قصائد تنتمي الى طبيعة الشعر وروحه الحقيقية

 

اسلوب الشاعر

905-saadففي هذا الديوان يحقق الشاعر إيقاعات عذبة ومدهشة , حين يجعلنا نرى الشجرة ونتأملها من خلال فكره وابتكاراته فکل شيء لديه يبدأ من الشجرة وينبعث منها ليبدو كقصيدة وجدت لتحيا ثم لا تموت ؛ فالشجر قصيدة بإيقاعات متعددة , وهذا هو ما يناسب أسلوب الشاعر في كتاباته ويطابق حدسه وتوجسه وما يشعر به

فمن عتبة الديوان الى الأهداء يضعنا الشاعر أمام خسارات وخيبات أتت بعد انتظار فالصدور المشرعة للرصاص أملا بربيع مبهج وجدت نفسها في خريف موحش

ففي قصيدته مرثية لسائق الغمام والتي استهل بها الشاعر

ديونه نجد ان هناك فقدانات كثيرة مثل زمن مفقود ,كف الرحمة التي لا تستجيب للدعاء , ارض أصبحت يباب بعد ان تكاثرَ فيها المحلُ ووَلجَ الخنجرُ في خاصرةِ الحلم ِ

فيدون الشاعر مرثيته لسائق الغمام والمرثية تعبير عن التوجع والإشفاق على شيء ذهب ولن يعود

" منذُ زمانٍ كنا

إذا ما وَلجَ المَحلُ

بخاصرةِ الأرضِ

خرجنا

نرفعُ كفَ الرحمةِ

فيجئ الغيمُ، المطرُ،

الخبزُ

يفيضُ النهرُ، وتعلو

سنبلةُ الأرضِ، وتنأى أشلاءُ الليلِ ,

بقاياهُ الرثّة "

بينما هو يرتل فجيعته على مقام الخسارات تكون كلماته دونت ما نشعر به وأرخت لتاريخ شاحب من الحزن العميق الذي يرافقنا كنواح ليلي فيكون ولوجنا لهذا العالم نوع من الفقدان

"حين وُلدتُ

" لم أخرجْ بمشيمة "

- قالت (قابلتي المأذونة):

بلْ كانتْ سلة ً

لخساراتٍ وليدة

هكذا .....

كلما سرت ُعلى هديِ النجوم ِ

وُلدتْ ألفُ خسارة، "

يرتفع بناء النص لديه من ثيمته الأساسية الأشجار , فتحضر الأشجار، ويحضر اللون الأخضر، لا بوصفهما المرئي بل بصفتهما المطلقة كسيمياء للقصيدة ,ثم تتعدد مراكز الحدث الشعري حسب تدفق الأفكار في حوار داخلي والاسترجاعات للأشياء المفقودة التي كانت موجودة سابقا او ما كان يحلم به الشاعر على اعتباره واقع ممكن التحقيق

فالترتيب للنص حسب ما أتسع به أفق الشاعر والذي طوره فيما بعد بفيض الصور واستخدامه الاستعارات والتشبيه :

فترى ... " الأرض قبضة الله "، او ... " ترف سنبلة تنوء بحملها"

او نجد ... " المدى صبحٌ،وإمساكٌ عن الصيامِ "، و" الشمس سيدة النهارات " او " تلويحةَ القمرِ المعذّبِ في المحاقِ "

الإيقاعات الموسيقية

نجد أن هذه الصور حافلة بالإيقاعات الموسيقية الهادئة والحزينة عبر تدرج ألوان الخريف الذابلة والأشجار وهي تتعرى تحت سياط الريح كم هو حزين ومؤلم أن تجد نفسك بعد الانتظار الطويل خارج الربيع في خريف موحش، والشاعر اجتهد ليعطي إدراكا مركبا يمتزج فيه التفاؤل بالأمل والحزن الذي يختبئ عميقا في ثنايا الروح :

" آه يا حزنيَ،

المولودَ .. من جمرِ الخسارةِ،

خساراتي ... غيومٌ غيرَ ما يبقى

قميصٌ ... مزقتهُ الريحُ

فوقَ أشواكِ الخريف ِ

كفاه استغاثات ِالعصورِ "

في قصيدة قبل أن يُلقيَ إلى البحرِ شراعَه يتأمل في وجه البحر في هذه اللون الأزرق الشاسع ويغمض عينيه في زرقة عينيه ويلقي الى المطلق أشرعته :

" أغمضتُ عينيَّ على

زرقةِ عينيهِ

وألقيتُ شراعي

ربما أحيا هناكَ

وبعينيَّ

سأرنو ما حييتُ

صوبَ بيتي الحجريّ

باحثاً عن جذعِ سروة

أمِنَتْ سرَّ حروفي

وجهَ من أحببتُ

وتواريخَ عتيقة

غيرَ أني

كلُّ ما أخشاهُ أن

تُنكرَني الأسماءُ

من حزني

أموتُ . "

وفي قصيدة " أشجار خريف موحش " والتي أختارها عنوان لمجموعته يبتكر الشاعر صوره معتمدا على خياله الابداعي القادر على التخلص من أسر الرتابة، وعلى العروج نحو لحظته الشعرية , مستلهما بيئته وهذا يدل على الجهد الدؤوب للشاعر وحرصه على اكتمال لوحته الشعرية، واقتناصه للحظته الانفعالية المنفلتة والمتمردة في علوها، وإخضاعها الى رهافة التعبير واللغة الحرة المحتفظة بعناصر اللغة الطبيعية الصافية :

" عند ضياءٍ

يُوصف " فجراً "

وصلنا كتفَ كتابِ البحرِ

نثارُ زوارقِنا يطفو خشباً أدماهُ الموجُ "

فهذه اللوحة الفنية التي اختصر بها هذا الأفق الشاسع من الضوء عند حافة الفجر الى زرقة البحر في مداه البعيد هو الحياة ثم هذه الزوارق وهي الأيام ثم هذه التحول الصادم للموج الذي يدمي نثار هذه الزوارق التي لطخها الموج الأزرق بتحوله الى اللون الأحمر، واتساءَل أي موسيقى سترافقنا ونحن نقرأ هذا اللوحة الشعرية ؟

هذا المشهد محملٌ بالدلالات التأويلية بقصديه التحول الى المقطع الصادم الثاني وهو ما أراد الشاعر أن يهيئنا اليه لنجد رؤوس الأطفال المذبوحين وسنعرف حينها لماذا موج البحر أدمى نثار زوارقنا ...

" .... ......

رؤوسَ الأطفالِ المذبوحينَ

بنهمِ نبيٍ كاذب،

عيوناً ترنو ...

أبعدَ من مملكةِ الضوء ِ، "

وذا تأملنا القصيدة عبر صورها وإنزياحاتها البديعة سنجد أنفسنا داخلها كمن يرى وجهه على صفحة الماء نحيا بخوف اللحظة وقد تحولنا الى أشجار في خريف موحش :

" بخوفِ اللحظةِ

بالأجنحةِ المكسورة ِ

بأغانٍ ... يتشظى الصوتُ

إذا غنتها النايات ُ.

بنهاراتِ ربيع ٍ

أضحتْ

أشجارَ

خريفٍ موحش .!!! "

الأنا الشعرية

رغم أن الأنا الشعرية حاضرة إلا أننا نجد أن الشاعر قد توارى خلف نصوصه تماماً فهو سيتجلى هنا في صورة شجرة او أشجار ؛ يعرض نفسه على شكل قصيدة او شجرة سيان لا فرق لديه

ليلغي الخاص ويذهب نحو العام،

ثم يستفيق النخل من غيابه , وتعشوشب الكلمات , وتنتشي رئة الطين , فيتذكر الحروف الأولى التي دونها كلكامش لتغدو ملحمته كتاب الحياة ,ويبدأ النسغ الصاعد يدب في أشجار الخريف لتعود الحياة مرة أخرى فأشجار الشاعر لا تموت ابداً .

لغة النص

إن لغة النص وصوره هي الصيغة المثلى لتجسيد فكر الشاعر حيث يأخذنا الى حيث يريد ,فعلى صعيد الرؤية الشعرية نستطيع أن نكتشف عمق الدلالة الإبداعية التي أحدثتها هذه النصوص على صعيد التعبير الشعري ,وسطوع الفكرة لدى الشاعر سعد ياسين بقصديه لما ستؤول إليه تجربته الشعرية أو رؤيته التي تنظم علاقة الأشياء مع بعضها بعضاً لتقدم رؤية جمالية لحركتها دخل النص سواء بالايقاعات او تدرج الألوان الذي سيرافقنا عبر لون الخريف الشاحب وأشجاره الصفراء والجرداء والتي سوف يجعلنا الشاعر نشعر بإحساسها , وكذلك بالخريف وهو يعاني من انتظاره الموحش والمخيب للآمال .

وهنا تكمن شاعرية الشاعر سعد ياسين فحدسه يقوده إلى جوهر الشعر، والى روحه الحقيقية بحكم ثراء مخيلته وامتلاكه

تلك النزعة الفطرية للرسم بالكلمات لتجسيد الاحساس حيث يجعل المعنى يتصل بالشكل دائماً .

 

ناظم ناصر القريشي

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم