صحيفة المثقف

الأبعاد السايكولوجية في رواية (حفل رئاسي) .. وقائع غيرمروية عن مجزرة قاعة الخلد عام 1979

jamal alatabiيقيم الروائي سعد العبيدي صلة حميمة ومباشرة بين الواقع والعالم الروائي الذي يبنيه، وتتداخل العوالم وتتفاعل وتتكامل حد الإندماج في أحداث روايته (حفل رئاسي) الصادرة حديثا عن منشورات ضفاف، معرفة الكاتب وتجاربه الشخصية ورؤاه، وعلاقاته الشخصية مع زملاء المهنة أو أبناء مدينته الذين نجوا من المجزرة، تظل هي الباعث الرئيس لكتابة الرواية التي، أضاف لعنوانها الرئيس، (وقائع غير مروية من أحداث مجزرة قاعة الخلد عام 1979).

التعبير الرمزي في العنوان، توظيف (الحفل) ليحتلّ مساحة العمل الروائي توظيفاً فنياً، مازجا بينه وبين (الرئاسي) كاشفاً عن الدلالة الأشدّ بلاغة والأ كثر تعبيراً عن ذلك الواقع المريرفي العتبة العنوانية التي ظل يشتغل عليها الروائي كبؤرة مركزية للتعبير عن واقعة قاعة الخلد التي يتذكرها جيداً أبناء ذاك الجيل .كمرحلة مفصلية من تاريخ العراق القريب، لبناء الحدث الروائي.

من الصعب التعاطي مع النص على أنه عمل روائي يندرج ضمن شروط السرد كما وردت عند (لوبوك) في كتابه عن صنعة الرواية، علماً إن العبيدي سبق له أن أصدر روايتين كما تشير سيرته الإبداعية، إذ يرى لوبوك إن نجاح الرواية يكمن في خلق عوالم جديدة أمام الخيال، أوإنها العالم الذي (يبدع الوهم)، ونرتضي الضياع فيه بكل سعادة، الا إن المسألة تبدو أكثر تعقيداً حين يعود بالقول ليصف الرواية، إنها صورة للحياة، صادقة مفعمة بالحياة ومقنعة .

وعلى وفق هذا المعطى، يمكننا تجاوز إشكالية العنوان حينما ندرك أهمية ماقدمه العبيدي كنص بمستوى الحدث (الفاجعة)، قيمته الأساسية تكمن في دلالاته

السياسية والإجتماعية، وتعبيره الصادق عن عذابات الإنسان المؤدلج حزبياً، وهو مايريد أن يذهب إليه الكاتب في إختيار (حفل رئاسي) عنواناً لـ(روايته)، متجاوزاً عنصرالتخيل، فسعى إلى تقديم حالات إنسانية قائمة، فجّر فيها الحسّ الإنساني بأعمق تجلياته، وصوّر ثقل العذاب الذي ينوء به المرء، حين ليس بمقدوره إيجاد الحلول .ليتحول النص إلى عمل فني إبداعي يشدك إليه ويمنحك طاقة إستثنائية لمواصلة القراءة، وأنت مشدود الأعصاب حتى النهاية .ومن وجهة نظر أخرى، يتبادر إلى الذهن السؤال التالئ : هل يمكن أن يندرج النص ضمن مايسمى بـ (الرواية التاريخية) التي تشكل أدباً قائماً بذاته، وله قوانينه الخاصة، حسب تعريف (جورج لوكاتش)، لأنها تعكس وتصور تطور الواقع التاريخي، فإن مقياس مضمونها وشكلها يوجد في هذا الواقع ذاته المليء بالأزمات .لذا تفتقد الرواية الى عنصرجمالية الشكل، وإن كان عنصراً مهما في الكتابة، إن البحث في جمالية النص، توخاها الكاتب في مواجهة اللاجمالي في الواقع والتاريخ، انها كتابة ضد العنف والدمار الذي يستهدف الإنسان .فأقام الكاتب مشهداً سردياً من مستويات لغوية متنوعة، وتبنّى المشهد الأكثر درامية للدمار والتزوير الذي ألبس القاتل قناع البطولة، في مفارقة يبدولنا فيها مشهد الثأر هو المضمون نفسه .وتكشف لنا دراسة النص عمّا نوى الكاتب فعله، ولكن ثمة محددات منعته من ذلك فآثر الإفصاح عن أفكاره روائياً .

وجد الكاتب الطريق أمامه سالكاً نحو رفع الستار عن العالم الخفي، وعن الداخل المستور والمخابىء السرية، وهدف إلى فضحه والتنديد به، وإكتشاف أبعاده عبر تجارب الماضي والممتد الى الراهن واللاحق، ويسجل له سبق المحاولة الفنية وهي مهمة الرائي المتميزة، وإن تناول بعض الكتاب الحادثة برؤى توثيقية وتاريخية، فهو لم يماثل سواه، إذ مكّنه تخصصه الأكاديمي بعلم النفس، أن يغور بأعماق الشخصيات وهي تواجه الموت الحتمي لفعل لم يرتكبوه، بإتهامات مزورة وملفقة وباطلة إدّعت التآمر على (الرئيس)، وإسقاط نظامه، بعد أيام من تسنّمه مقاليد (الرئاسة) في مسرحية هزيلة، عُرض المأساوي منها في قاعة الخلد مكان (الحفل). حاور الكاتب شخوصه ( رفاق الأمس ) بأسمائهم الحقيقية : محمد، المشهدي، طارق، حليم، مرتضى، عايش، محجوب، غانم، وليد، عبد الخالق حامد، شكري، كردي، وغيرهم، أكثر من ثلاثين (رفيقا) يساقون الى الإعدام وآخرين بمحكوميات مختلفة، أصدرتها محكمة مضحكة من رفاق الهتاف والرعب والخوف من المصيرالمماثل .وفي الحوار كان الكاتب محايداً واعياً، منتمياً إلى عمله وشخصياته، لم يعلن إنحيازه الفكري لهم، يأخذونه بعيداً نحو ظلمة الزنزانات وأقبية التعذيب، نحوالأنفس المنساقة بشكل أعمى إلى الإحتراق المجنون .

قراءة هذا الإنموذج بما يحمل من أضداد، تتعلق بذاكرة حية توقظ الضحايا وتنسخ أرواحهم ثانية، ذاكرة لايسحقها النسيان ويدمّرها الغياب التام، هو ما يمنح النص حضوراً نادراً، فالعبيدي لايحول روايته الى تحريات مجردة، أو ملاحقة لنتائج تحقيقات، بل انها تحريات تبوح عن عالم يتعلق بالزمان والشخصيات، الأمر الذي يجعل من هذا العمل لوناً من ألوان التنقيب عن الخفي الكامن في النفس المعذبة، ووحشية رجال التعذيب، وفي العالم المحيط بهما بآن واحد، إنه يقود القارىء الى إيقاظ وعيه نحو معطيات الإستبداد وأدواته، وصناعة الديكتاتوريات، فيلزم نفسه في البحث عن الحقائق بصدق، وبما يوحي بالإثارة التي إحتلت موقع الإنتباه الاول .

يوظّف الكاتب تخصصه العلمي في تسليط الضوء على نمط التفكير المريض لمعد ومخرج (الحفل) ومساعديه، إذ يقودهم إنحرافهم النفسي والإجتماعي، إلى البطش بأقرب (الرفاق) والأصدقاء المقربين جدا، فإنشغل بكشف الأبعاد السايكولوجية لهذا النمط من الشخصيات والتوغل في أعماقها، ومن المؤكد أن في عقل الكاتب حضوراً لامعاً لمواصفات الشخصية (السايكوباثية)، المندفعة للعنف والعدوان بدون ضوابط، وهي أخطر إنحرافات السلوك السايكوباثي، يلازمها متعة في ممارسة القسوة والأذى، بكبرياء مريضة منحرفة تخدم أغراض التباهي والتفاخرالمزيفين، دون توفردلائل على الندم أو الشعور بالإثم، ولا خشية من عقاب يكبح جماح نزوات الإعتداء .

بإعتقادنا ان معادل الضد من (الحفل) يجد تفسيره في هذا النمط من السلوك، الرئيس يجمع كوادر حزبه من غير علمها بسبب الحفل، كان ذلك في قمة الأداء الدرامي، كما يصفه الكاتب رياض رمزي في كتابه (الدكتاتورفنانا)، عندما أعلن أن هناك مؤامرة اكتُشفت، وإن الجناة موجودون في القاعة بين الحضور، كان هناك (عضو قيادة) يرتجف أمامه وهو يدلي بإعترافات وهمية، ممارسة المتعة في مشاهدة إكتشاف البريء انه مجرم، وشغفٌ بمفاجأة الآخرين عن طريق إنزال الآلام بهم .إن الصورة الخارجية للواقع المأساوي كامنة في الواقع الروائي، الحقيقة الفنية الداخلية ذائبة فيها، مؤثرة في حركتها، بعد أن إستحالت أحقاداً وضغائن سرية وقوانين لاأخلاقية تبرر الجريمة، حلكة داخلية، حلكة الحدث والنفس البشرية، هي إمتداد لحلكة الواقع الكبير.

هكذا يبدأ الطاغية حكمه بعمل عنيف يشعر الانسان من خلاله ان عهدا جديدا قد حلّ، تُحرك فيه الحياة العامة كي يصبح الحدث قيمة بذاته، تسمح له اولا بتغيير الذاكرة الفردية، وثانياً بطبع الحياة العامة بطابعه الشخصي، تغيير الذاكرة بأعمال إستعراضية ومؤثرة (الحروب، الإضطرابات الكبيرة، عمليات الإعدام في الساحات العامة، الإغتيالات، التصفيات الجسدية، التهجيروغيرها الكثير).

إن حبكة الأداء هذه، منحت الكاتب فرصة النجاح في إختيار عنوان روايته، إذ لاسلطة تعلو على سلطات (بطل الحفل)، ومهاراته الفائقة والمطلقة في إعداد وتنفيذ وإخراج الحدث، ليدع المشاهد في حيرة السؤال :هل يمكن للفن الروائي أو الدرامي الذهاب أبعد من هذا الحد ؟ إنها حكاية تقتفي خطى رواة المغامرات الصارمين، وكتاب التراجيديا والكوميديا بكل أشكالها .

من المنصف القول ان سعد العبيدي أجهد نفسه في صياغة نص قوامه الشهادة بدل الرؤية، فالوقائع هي الرؤية، وهي مايشهد على التمزق وبداية الإنهيارات .

 

جمال العتابي

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم