صحيفة المثقف

تأملات في جديد الشجر عند الشاعر سعد ياسين يوسف .. قراءة نقدية في مجموعة: الأشجار لا تغادر أعشاشها

912-saadصدرت مؤخراً للشاعر (سعد ياسين يوسف) مجموعته الشعرية الجديدة (الأشجار لا تغادر أعشاشها)، وفيها يطلّ ـ كالعهد به ـ من عالي أشجاره، ليلاحق خيباتنا ويدون خساراتنا، ويضيف للـ (شجر) ـ الذي كرسه كشوفات رؤى في هذه المجموعة كما مجموعاته الأربع سابقاتها ـ قيم تعبير وتحشيد أدائي يستوعب الذات، ويتناغم مع بوحها الذي تهيمن عليه نزعة وعي تماهت مع الأفق الجمعي الذي يشاغلها ويشتغل فيها .

يأتي ذلك من دون التنازل عن التعبير المتدله بالانتماء إلى (رؤاه الشجرية) تلك التي تؤثث المكان، وهو يمد جغرافية شجرته ليتسع وطناً قيض له أن يكون (شجراً) مثمراً، ولكنه متعاور بالأسى والشجون، وبمكابدات إنسانه الذي انتمى إليه وتجذر وجوده فيه، حيث هي ـ أعني الأشجار ـ ترسم لمعادل موضوعي يستدرجه الشاعر من معجميته وباذخ مدلولاته، ليؤشر دعوى التمسك بالمكان، والانتماء القيمي المتعالي إليه.

يتلاعب الشاعر بمواضعات الدلالة القارة في المفردات المنتمية إلى قاموسه (الشجري)، ويؤطرها في فضاء من التشكل المفارق . فالأشجار وهي تترسخ حضوراً في المكان (لاتغادر) امتدادها الصاعد في الفضاء، كما امتدادها الذاهب عميقاً في الأرض، لتستحيل ـ عبر حد نتلقاه من التأويل ـ مراسم انتماء نبيل، عند أولئك الذين تيمموا بتراب المكان/ الوطن، فاحتضنهم مسمى، واحتووه قيماً ومشاعر وأحاسيس لاينتهي بوحها في الوعي والضمير، والتشخص الشعوري المتواتر فيضه . ليبقى وجداً مستعراً في ذواتهم التي تلوذ به بعاطفة الولادة الأولى كما (الأعشاش) التي لاغنى للطير عنها، مهما أدعت أجنحته الطيران بعيداً عنها.

لقد تبدت (الأشجار) أفقاً ترميزياً لا حد لامساك الشاعر بمداليل كشوفاته ـ تلك التي جعلها متسعة كل شيء ـ دلالة وتمثلاً ـ فكان من تجلياته ذلك الإلحاف على تداول المفردة في عنونة كثير من نصوص هذه المجموعة:

(الأشجار لاتغادر اعشاشها / شجرة الخسارة / شجر القدّاس / شجرة الأبواب / شجرة الصَّباح / شجرة المرآة / شجرةُ العبورِ/ شَجرُ الدَّوَران / شَجرةُ الأسئلة / شَجرُ الجُنون ِ/ شَجرُ الارتطامِ / شجرةُ الأشواكِ/ شجرةُ يونس (2) / ما تعسر من شجرة البحر) .

وإذ تتكرر تلك المفردة مشخصة قيماً من الرؤى سبق لتجربة الشاعر أن كرت عليها بيقينها المتواتر فإنها هنا سترسخ لها توجهات مضافة، هي جزء من كشوفات الفضاء الذي تؤثثه مواقف الشاعر وتوجسات وعيه ومشاعره ومتراكم نضح جماليات التجربة وتناميها عنده .

لقد طور الشاعر في هذه المجموعة تجربته الشجرية وأمدها بثقة في الرؤية والتمثل التعبيري، لتبدو (الأشجار) أكثر توهجاً بمعادلها الموضوعي المؤشر لحالنا الراهن، بفجائعه وانكساراته وصحوه ورغبة الحياة فيه، وتحولات مكابداتنا فيه كما الماء في الطبيعة:

(" مطر السَوءِ "

912-saadالذي أمطرتهم إياهُ

فُؤوساً...

تلجُّ بذَبحِ أشجارِنا

من الجذورِ إلى الجذور ِ

غير أنها كلَّما سقطتْ من عليائِها شجرة ٌ

وارتفعَ غبارُ الأرضِ من تحتِها

وارتجَّ رأسُها بإسفلتِ

مخالبِ الظلام ِ

وفاحَ منها عطرُ الدَّم ِ ,

والأمنياتِ الوئيدةِ

لفّتْ أغصانَ أُمومتِها

على الأعشاشِ

وحكتْ لهم حكاية َ

البدءِ .......

قبل أنْ تغمضَ خضرتها،

وتنامَ ....

حالمة ً...

بأصابعِها تخترقُ عينَ الإسفلتِ

عَميقاً ...

لتعودَ الى نشأتِها الأولى

.....   .....

.....  .....) ص9

إن ذلك الاستدراج والتداعي الذي جاءت عليه كثير من النصوص ـ حد استحالة اجتزاء أي من مقاطعها ـ يتوازى خطه مع رغبة الحياة التي لا تتوقف فينا، متكافئين ـ في ذلك ـ مع نوازع الشجر الذي انغرست جذور وجوده في تربته بعيدا.

 

(2)

يعايش كثير من نصوص المجموعة الشعرية هذه متناً سردياً، يأتي ـ في الغالب عليه ـ مفعماً بشيء من الغنائية الشفيفة التي لا تنال من اشتراطات السرد وتناميه بكيفية لا تتحقق غاية التلقي منها إلا حين يواصل السير مع النص حتى آخر سطر فيه، كما في النص الآتي الذي تبدت (الشجرة) شخصيته الأولى التي تنشر قامتها، كي يتملاها الآتون إليها من البشر، فيترك كل منهم بين يديها ما تيسر من مشاعره .:

(مررتُ بها ...

هي مازالتْ بعينيها الخضراوين

واقفةً على ناصيةِ الشارع ِ

مذ نقشتُ أولَّ حرفينِ واسمي

وهي هناكَ

مرَّ الطفلُ فرمى الوردةَ

أسفلَ قَدَميها

ولوّحَ بالتّوديعِ لقامتِها .

...  ....

مرَّ الجنديُّ

اخرجَ حربتَهُ وانهمكَ بنقشِ اسمه ِ

على رمانتِها، اسما ً...

لم يحملهُ قرصُ الموت ِ،

وما أنْ أكملَ رسمَهُ

انتزعَ القرصَ وقلَّدها حُزنَهُ

قرصُ الشمس ِ يعلو في كَبِد الوقتِ

والحافلةُ تُطلقُ آخرَ صوتٍ

هَروَلَ ومضى الجنديُ ..

مرَّت ْ طالبةُ الكُلِّيةِ

مدَّتْ يدَها ...

أخرجتِ الأحمرَ

رسمتْ نصفَ فم ٍ كالزهرة ِ

تشتعلُ فيه النار ُ..

قلباً ......

تخشى البوحَ بنبضهِ

خَشْيةَ أن يمتلئ َالدربُ

بالليلكِ .....

مرَ المراهقُ، حدّق َ فيها

في ساقيها

اخرجَ يدهُ من جيبهِ

ذي الثقبِ السري

تحسَّسَها ..

رفعَ أطرافَ قميصِ الخُضرةِ

أطلقَ تنهيدتَهُ المكتومةَ،

وأعادَ يدَهُ ....

أغمضَ عينيهِ

ونامَ ..أسفلَ قَدَمَيها .

مرَّ البائعُ الجوالُ لبَخورِ الجمعةِ

أشعَلَ عودا ً

بخَّرَ أغصانَ ضَفيرتِها

حتّى فاحتْ منها رائحة ُالرعشةِ

أمّنها كيسَ بضاعتهِ

وغابَ بنهرِ الشارع ِ

.......  ........

مرَّتْ امرأةٌ طاعنةٌ بسؤالٍ

لم تلقَ جوابَهُ

كانتْ تستغفرُ خالقَها

إذ داستْ نِصفَ رغيفٍ مرميٍّ،

رفَعتهُ وبلُطفِ خجولٍ

قالتْ: قد يحتاجُ إليه ِ

أحدٌ - أيَّتها الواقفةُ الممشوقةُ -

أو قد ينزلُ سِربُ حَمَامٍ

إذا ما أبرقتِ الغيمةُ .

....  ....

تقرَّبتُ إليها

وأعدتُ كتابة َاسمي

ثانيةً ..وخَطوتُ

ملتفتاً أُحدِّقُ في عينيِها المتسائلة ِ

..........

.........) ص14

 

لقد أخذت (الشجرة) تحولاتها إلى حيوات وصلات بعالم أكبر تتواصل الذات معه، وتنفعل به:

(ما إن تبزُغ أغصانُها

حتى نستعيذَ بالحياة ِ،

من عتمةٍ

تنتظرُ الضوءَ فينا ..

على رائحة ِالشاي،

وهو الوحيدُ الذي يوحّدُنا،

نتذكرُّ رمزَ فناء ِاللحظة ِ

خلفَ البابِ المقفلِ .) ص30

لقد انضبط التداول التعبيري في حده النثري الذي يمتلك إيقاع تداعيه وتناسقه في استدعاء عنصر المفارقة الدلالية، والمتممات التعبيرية السردية المستدعاة عبر عناصر من القص الذي يغنى بوقائع لها دلالتها على مثاقفة مستحضرة، والحوار الذاهب بمنولوجه إلى الذات، أو المترسم أفقاً من استحضار (الآخر) ومكاشفته في بوح تعبيري مشترك:

(ما إن تستيقظي

قفي أمامَ المرآةِ

وتحسَّسي وجهَكِ جيداً

ستَرينَ ثمَّةَ نوراً

ولذا أنصحُكِ

أن تطفئي ظلمةَ هواجسِكِ

وتَسدلي ستائرَ القلق ِ

حينَها

ستَرَينَ ماتركتهُ

أشجاري .....

الليلةَ الماضيةَ

في بلُورِك، وأنا أتأمَّلُهُ عن بُعدٍ

......) ص34

 

(3)

تكاشفنا هذا المجموعة الشعرية ـ التي بدت نصوصها أطول نسبياً من سابقاتها وأكثر تداعياً وانهماراً متواتراً للصورـ بمحددات وجهة تعبيرية أكثر تركيزاً في إدلالها الملامس لنضح المفردات وأنساق كشفها التعبيري، فالشاعرـ مثلاً ـ لم يكتف بتبني (الأشجار) منطلق توثيق دلالي تتفشى مفردته في نصوصه، بل ذهب لمعاينة حزئيات ذلك التكوين الطبيعي الباذخ، فأثث القصيدة بمفردات من العائلة الشجرية ومعجمها الخاص كالزهر والورق، الغصن الذي نال ترداداً لافت الحضور في عنوانات بعض النصوص: (لَوعةُ الغصنِ غُصنُ الرَّغيفِ، ما تَبقَّى من الغُصن، غُصنُ الرحيلِ)، مثلما كرره في الطيات النصية كذلك . وكأن (الغصن) الذي لا يمكن له إلا أن ينتمي لشجرته هو الذات المفردة للشاعر أو لسواه التي تفرعت من شجر وجودنا الجمعي المبتلى.

يأتي (التناص) ـ كما عهدناه في مجاميع الشاعر السابقة ـ خصيصة توظيف لاتبوح بكامل ما استدرجته إلى متنها من وقائع، بل تنسجه بتقنية من التشكل خاصة، وتداخله مع غيره، لتكاشف التلقي بمثاقفة لها مقدرات خاصة في الاستعادة . كما في استهلال هذا النص الذي حمل عنوان (موج):

(صارِخاً ....

البحرُ يصخَبُ خلفي

والأفقُ صافَحَهُ

انطبقتْ سماء ٌ

غيرَ ضوء ٍ ...

شعَّ من بينِ الغيوم ِ

خِلْتُهُ انت ِ

فأَشْرعتُ ذراعَيَّ) ص46

فلبعد التأمل هنا أن يستذكر استهلال قصيدة السياب (غريب على الخليج)، كما له أن يستعيد قصيدة السياب الأخرى (رحل النهار) حيث المرأة المنتظرة التي تبادلت الأدوار ـ في نص سعد ياسين يوسف ـ ليمسي هو من ينتظر.

ويجيء لافتاً ـ في هذه المجموغة ذلك الإلحاف الذائب الذي فرض حضوره في النصوص كلها لـ (علامات الترقيم)، وهي تشتغل آلية كشف واقتصاد تعبيري يعنيه الشاعر، وهو يضعنا على طريق البحث عن الدلالة وإدراكها عبر ما تحمله كل علامة ترقيم من توضيح لمقاصدها. هكذا تأتي أسطر (النقاط) المتلاحقة تعبيراً عن كلام لم يتمه النص، ليبقى مفتوحاً على متسع من التصور يريدنا أن نشاركه إضافته:

(منذُ أن رحلت ِ

أدركتُ أني بلا عائلة .

وكلما قالوا لي:

- سلِّم لنا على العائلةِ

أضحكُ... ثم أبكي في سِرّي ..

وأنا أتحسَّسُ جدرانَ

خيمتِنا التي هَوتْ ...

لأظلَّ غصناً مكسوراً

يتدلّى من شَجرتِها

الصاعدةِ لسماءٍ

لا تعرفُ

كيفَ تجيبُ عن

الأسئلةِ المذبوحة ِ) ص 51

أو كما في هذا النص الذي وضع له عنوان (شجرة الأبواب)

( ....

يَتَلاشى الباب ُ

خلفَ هزيمِ ليالِ شتاءِ المطرِ

تتبعهُ تلويحةُ كفي،

جناحُ يمامة ٍ .

رفيفُ الأسماءِ المنقوشةِ فيها ،

ثقوبُ رَصاصِ الزمن ِ

بقعةُ ضوءِ الخشبِ المحكوك ِ

بِلُجاجتِنا ...

ونداءاتٌ ... تتعثرُ في حَنْجرَتي .

يا ... أيَّتُها المُفضِيَةُ لي

كوني شجرَ الوحدة ِ

علّي استوقفُ سربَ يماماتي

ليلةَ قدرٍ

أسألُها أن تهدلَ للأبواب ِ

حتىّ الفجرِ ...

أن انفتحي ..

لا فرقَ لديَّ الآنَ

للجنَّةِ كانت

أم ....) ص26

وربما كانت علامة السؤال ـ المستفهمة أحياناً والمستنكرة في أحايين أخرـ اكثر ما كرت عليه التداولية النصية، وهي تصطنع إيجازها الدلالي . لقد جعل تلك العلامة (عنواناً) لواحد من نصوصه، وختم تكرارها لأكثر من مرة نصاً ثانياً، وأوردها بعد أول مفردة استهل بها ثالثاً:

(هم ؟؟؟.......

فَجَّروكَ،

من بطنِ حوتِ الأرضِ

إلى السماءِ.....) ص96

ولعل تواتر تلك العلامة كان امتداداً تعبيرياً لمفردتي (السؤال) و(الأسئلة) التي تردد دفق دلالتهما مرات عدة، سواء أكان عنواناً مضافاً إلى المفردة المركزية (شجرة الأسئلة) أم في الخضم التعبيري لأسطر النص:

(عابراً ...

بحرَ اشتعالِ أشجاري

بأسئلة ٍ ثقال ٍ

أنتِ الشراع ُ .

على كتفِ زورقي

أَلفُ جثةٍ من سؤال ٍ

ينوءُ بها تارة ً

يَميلُ ..وهي تَبحثُ

عن شمسِ إجاباتِها)  ص40

لقد ازدحمت الأسئلة مدلة على مكابدات الذات ـ مستوحدة، أو في تكيفها الجمعي ـ وهي تعاين هذا الذي (يشتجر) حولها ويمعن بمد أصابع خرابه وقسوته في تلافيف الوعي والمشاعر. فلا تكون لها من عدة مواجهة إلا أن تدجج صوتها بالأسئلة (أسئلة ِالبقاء ِ/ أسئلةِ الرَّحيلِ/ أسئلةِ التَّوسُّل) كما يذكرها الشاعر، وفوقها: أسئلة القلق، وأسئلة الاستنكار، وأسئلة الرفض .

 

(4)

وبعد... فليس (سعد ياسين يوسف) شاعر طبيعة تكاشفك نصوصه بجماليات ماتحتويه، فلعل تلك أخر مرامي الانهماك التعبيري عنده، إن أشجاره لاتعايش عالمها المعتاد ولا تتطامن معه بل تغادره إلى حيث تستحيل فضاءات من الأنسنة ومكابداتها وتشظيات وجودها، وذواتاً تطل على ماحولها، فتعاين وترصد وتقول كل الذي يقع تحت باصرتها وبين ثنايا بصيرتها، .

هكذا يتأنسن الشجر صداحاً شعرياً عن الشاعر و(أناه)، وعن (نحن) التي كثيراً ما أقصت فردية البوح وكسرت هدأتها بالذي تلقيه على كواهل وجودها في المكان الذي ارتضت ألا تغادره أرضاً وسماء وما بينهما من وجود إنساني حبيب .

 

ا. د. علي حداد

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم