صحيفة المثقف

مقدمة في شعرية الجباوي الأنباري

abdulelah alsauqتوطئة: الشعر هو السحر الحلال ذلك ما قاله النابغة رئيس حكومة الشعر في سوق عكاظ ثم قال شاعر قديم:

إني وكل شاعر من البشر    شيطانه أنثى وشيطاني ذكر

وزعموا ان شيطان الأعشى يدعى مسحل،قال الاعشى:

وما كنت شاحردا ولكن حسبتني  إذا مسحل أسدى لي القول أنطق    

شريكان  فيما  بيننا  من  هوادة     صفيان   جني   وإنس   موفق

. وقد زعم "حسان بن ثابت" أن شيطانه الذي يلهمه الشعر هو من "بني شيصبان". وقد انتقلت هذه العقيدة في إلهام الشعر للشعراء إلى المسلمين كذلك. وقد دعا "جرير" شيطانه الذي يلقي عليه الشعر "إبليس الأباليس" وحين قال الجاحظ من رجال القرن الثالث الهجري ت 250 هـ (الشعر صناعة وضرب من الصياغة وجنس من التصوير) احتار العرب فكيف يكون وادي عبقر مسكن جن الشعراء ليكون الشعر الهاما ثم يجعله عبقري العرب الجاحظ صناعة، وفي العصر الحديث كانت الاسئلة تحوم حول الشعر المحمل بالنقائض: جمر وثلج معا صدق وكذب معا .. الخ حتى اصدر ارشيبالد مكليش كتابه النفيس الشعر والتجربة وكان اهم ما فيه ان ميزة الشعر (جعل التماثل في اللاتماثل) فأغلقت صفحة سحرية الشعر الواقعية

1020-sayeqاسم القاريء: عبد الاله الصائغ / الولايات المتحدة الامريكية

اسم الديوان: تأوّهات في رحلةِ الألم والأمَل

اسم الشاعر: محمد فتاح عبيد الجباوي

 

العرض

علم تحليل النص سبيل القارئ المختص إلى إدراك مزايا النص الكامنة في حقوله المؤتلفة والمختلفة؛ والعلاقات الواضحة والمغيبة استناداً إلى مستوى ممنهج يصلح قناة محكمة بين المنتج والنص والمستهلك والشفرة، وسنقدم بين يدي قراءتنا للتاوهات باقة منتقاة من مستويات تحليل النص، تلك التي تعين المتلقي: الاعتيادي المتخصص في كشف الغامض وتقعيد المنفلت وتأثيث الفوضى وسبر أعماق المتخيل وصولاً إلى إعادة إنتاج النص وتمثل تجاربه ومآزقه وكنا وما نزال ننهج لتوطيد التحليل المستند للصورة الفنية،، القراءة الصوفنية  تستثمر جماليات الصورة الفنية بوصفها معياراً فنياً قادراً على معرفة قيمة النصوص ومازال قسم مهم من محللي النص مهتما بمعطيات الصورة، حتى أولئك الذين زعموا أن الصورة تضلل المحلل وتلهيه عن قيم النص المركزية، وكان ازراباوند قد أولى المستوى الصوري قدراً مهماً من اهتمامه، حتى أطلق على نفسه وتابعيه: جماعة الصورة، وهؤلاء يعرفون الصورة على أنها لحظة تشابك بين عشرات الصور الجزئية المتخيلة والواقعية، وقد طوينا الصورة للنشرها في تجلياتها الكثيرة والمركبة معا، وما لنا سوى المقاربة ومفاتشة قصائد تأوهات في رحلة الالم برؤية بنيوية وصفية تسعى الى مقاربة النص لتقريبه من القاريء وتنأى بقارئها عن الرؤية المعيارية التي تقاضي النص (كذا .

اختلاط الخاص بالعام دون التفريط بالحدود: سانحة مباركة كي اُحَبِّرَ  ما بنفسي وعواطفي عن شاعر التأوهات مع ان رولان بارت (موت المؤلف) يُحَذِّر من الصلة العاطفية بين محلل النص ومنتج النص لكن للضرورة احكامها فكيف لا استضيء بمعرفتي للشاعر في فهم شعره بله شعريته؟) وبعدها سنطل معا على قصائد تأوهات في رحلة الألم والأمل، حتى نستطيع معا دخول دائرة التاوهات، الجباوي محمد فتاح قامة ابداعية تعرفت عليها عهد الدراسة في مرحلة البكالوريوس، يوم كنا ننعم بفراديس علمية من العسير دخولها في زمننا الكالح هذا، اساتذتنا كانوا اساتذة بحق مبدعون كبار واكاديميون بناة ومربون مغايرون: هم الاساتذة جلال خياط وعناد غزوان واحمد مطلوب وخديجة الحديثي ونوري القيسي وابراهيم حرج الوائلي وما اطول واعمق قائمة الذين درسونا معا محمد فتاح الجباوي وعبد الاله الصائغ، كنا زملاء ثم بتنا اصدقاء، هو من الانبار العظيمة وانا من النجف العظيمة، الجباوي منذ وهلته الاولى كان عالما ثم تدرج،، ومازال هذا الرجل وهو في مغتربه عالما بامتياز، تنافسنا مرحلة البكالوريوس المسائي وكل منا معلم ابتدائي نهاري، كلنا ينوء بأعباء عائلة ثقيلة، وكانت سنة تخرجنا سنة مغدقة الجباوي نال البكالوريوس بدرجة امتياز عال والصائغ نال البكالوريوس بدرجة امتياز اقل علوا من الجباوي، بل المفاجأة اننا الجباوي حصدنا معدلات بوأتنا لنكون الأولين على كل جامعات العراق الانسانية والعلمية، ولبثنا زميلين صديقين حتى مرحلة الدكتوراه بل ولم ينس كل منا ان ينافس صاحبه على الدرجات وعنوانات الاطاريح، انا افتقدت الجباوي حرسه الله منذ ان انتقلت الى جامعة الموصل وكانت اطروحتا الجباوي ضمن اهم مصادري وما فتئت، لكن المفاجأة حين دعتني ولاية دالاس ان التقي بشاب وسيم خلوق اسمه عقيل الجبوري وزوجته الجميلة الخلوقة واسمها نرجس الجباوي، مع ان دالاس قد احتفت بي احتفاء مبهجا، فالشاعراء قالوا في الصائغ شعرا الفصيح منهم والشعبي، لكن شابين تميزا برعايتي ومرافقتي بشكل لم اعهده، وحين اصغيت الى نبضات قلبي سألتهما من انتما فقال انا عقيل الجبوري انا نرجس الجباوي، فسألت من انت يتها الجباوية فقالت بزهو عبق انا ابنة صديقك وزميلك دكتور محمد فتاح الجباوي، فتماسكت حتى لا ابكي، وهكذا امتدت الجسور مجددا، وحينما كنت اعمل في الملحقية الثقافية العراقية بواشنطن زارنا وفد رياسات جامعات العراق، فسألت رئيس جامعة الأنبار قلت له وهل تعرف الدكتور محمد فتاح الجباوي فابتسم وقال كيف لرئيس جامعة في الانبار لايعرف العلامة الدكتور الجباوي فطلبت اليه نقل تحياتي ومحبتي لزميل العمر الاستاذ الجباوي فوعدني السيد رئيس جامعة الانبار انه سينقل الى الجباوي كل شيء جميل قاله الصائغ فيه،

كان محمد الجباوي مغرما بالشعر وبخاصة شعر الجواهري وجمال الدين وقال لي كم اعشق الطريقة النجفية في القاء الشعر انهم يلفظون الياء والنون بطريقة خاصة مثل الليل والسيل وكنت انشد للجباوي الشعر بطريقة نجفية انشده الفصيح مرة على طريقة الجواهري جمال الدين ومرة على طريقة عبد المنعم الفرطوسي وصادق الهلالي فينتشي ويستزيدني، لكنه لم يصارحني عهد الصحبة انه يكتب الشعر ولم يدر بخاطري ان اسأله فيما اذا كان يقرض الشعر او لا، وفي نهايات عام 2015 وصلني على ايميلي رسالة مشتركة من السيدة نرجس الجباوي والسيد عقيل الجبوري ومع الايميل وصلتني رسالة بخط البروف الجباوي و ديوان شعري للاستاذ الجباوي مخطوط وفهمت ان هذا العالم اللغوي الجليل قد انجز في غربته ديوان شعر بعنوان تأوّهات في رحلةِ الألم والأمَل

ودهشت حقا كيف لصاحبي ان يخفي عني موهبته طيلة السنوات الطوال الماضية، ولم يكن الديوان قرزمة شاعر مستجد او عملا تجريبيا من مُحَاوِل مرتبك الخطى، كنت اقرأ القصائد والدهشة تخلب عيني، شعر شاعر محترف بدأ منذ ايامنا الدراسية، لايتكلم الصائغ عن إحكام لغة الديوان للغة الضاد فالجباوي عالم وابن بجدتها، لكن الذي استوقفني طاقات الشاعر على (دوزنة) الايقاع الشعري ليتناسب مع ايقاع الشاعر السايكولوجي، وقلما امسكت هنة ايقاعية لدى الجباوي وهو يبحر في جل البحور الشعرية العربية المحبكة المركب منعا والبسيط  نحو الطويل والبسيط والخفيف والرمل والمتقارب .. جل قصائد الجباوي كتبت وفق الميزان العمودي التقليدي ولم يخل الديوان من القصائد المكتوبة وفق تقاليد شعر التفعيلة او الشعر الحر كما يقال، لكن الجباوي لم يكتب قصيدة نثر واحدة وذلك اختياره، فبنية الجباوي التكوينية بنية كلاسيكية وهو مخلص لبنيته ولايستطيع ان يركب غير موجته وان كانت الموجة تمخر في بحران حداثة قصيدة النثر،  

 

اشعرية قبل الشعر

الشعرية هي اهتزاز جاذبية الحساسية الجمالية في النص بحيث تصدق مقولة الدينوري ابن قتيبة ت286 هـ (الشعر ما انت فيه حتى تدعه) او الشاعر الناقد ارشيبالد مكليش ت 1982 (اذا لم يشغلني النص الشعري عن الشاعر بل عن نفسي فانه يمكن ان يكون كل شيء الا الشعر) اذن سنختار نجيمات ثمثل قراءتنا المغايرة في شعرية التاوهات الجباوية .

 

الف / الهم الدلالي

في البدء تكتب القصيدة بعدها تُقرأ القصيدة واخيرا تصل القصيدة  من المُنتج الى المستهلك، مرحلة البدء ضرورة لتعبر عن خلجات الشاعر لكن حصة المتلقي هي الفيصل، حتى ليتغيب الشاعر او يُغّيَّب خلال لحظات التلقي باعتداد التلقي خلقا ثانيا للقصيدة، التاوهات هموم وجودية استحالت هموما جمالية، بمعنى ثان ان مشاغل الحياة في التاوهات قبل مشاغل القصيدة، الوطن مخرَّب المواطن مُعَذَّب، الماء لم يعد ماءً وكذلك الهواء والمكان، كل شيء تغير لكن الوعي باق يقرأ الاحداث قراءة معاناة، فاذا لبثت في منطقة الانا الاصغر وانا الاعلى وابتعدت عن الهو كما يقول فرويد فثمة الهو الأقوى، الجباوي انسان مندهش وابن صحراء متمدينة تجعل الهم الذاتي هما موضوعيا، الذاتي محور الهموم وذروتها، تجرع الغربة داخل الوطن فبغداد لم تغنه عن مواطن الطفولة والاهل واخلاق بغداد المركز على رقيها مغايرة لاخلاق الاطراف، قارن معي قالته (.. ولقد فتّ في عضد الشاعر أن يرى فخاخ الحقد مشرعة لكبح جماح كل ما هو جميل لذا فقد تباطأت خطواته حينما أراد أن يواصل الرحلة..) الجباوي يوزع جسمه في جسوم الوطن والعائلة فلايكاد يبقى شيء لذاته،

قارن عروة بن الورد:

اقسم جسمي في جسوم كثيرة  واحسو قراح الماء والماء بارد

 واذا التفت الشاعر الى المحيط الثقافي الابداعي وجد الجسور محطمة فيهتف (..عزوف أهل اللغة والأدب عن عقد مُصالحةٍ بين الإنسان في بيئاته المختلفة وفن الشعر. والحق أن ليس ثمة ما يعين على احتضان الشعر بوصفه فنًّا جماليًّا يثير المتعة ويبني الحياة بناءً سليمًا، بل على الضدّ من كل ذلك نرى أن بين الوسط الثقافي من ينظر إلى الشعر على أنه فن ترفيّ لا يستحق العناية) هي غربة يا ابن الجباوي إذن؟ ولن تردم الفجوة بين المغترب والغربة حين تكون الذات قديسا، نعم كتب الجباوي شعره متأخراً بسبب فطرته الأكاديمية، هو لن يطلق سراح مخلوقاته الجميلة حتى يتيقن انه يتيقن، وذلك مسوغ التباطوء في نشر التأوهات، وقد تكون اوجاع الغربة المبرحة واشواقه مع ايقونات عائلته مسوغا للتسريع بنشر اوجاعه بهيئة قصائد، فالصلة اذن كما صلة اللحن بالوتر، هو ذا يذوب في عشق البنات واعني بناته بنات الجباوي ويوزع قبيلاته (قبلاته) بينهن قارن:

سلامٌ رقَّ كالنغمِ الحـــــــزيـــــنِ  تعمَّدَ بالدمــــــوعِ وبالأنيــــنِ

تُعانِقُـــــهُ لتَخفيــــفِ الرزايــــــا   قُبيلَةُ مُدنَفٍ صبٍّ فَتـــــــــونِ

إلى عيني سُنيدسَ صنوِ روحـي  ومَنْ كانتْ بكبواتي عُيونــــي

أُسَرِّبُ قُبلَـــــــةً أُخـــــرى لِتغفو  فُوَيقَ يُدَيَّةٍ وعلى الجَبيـــــــــنِ

ولنْ أنسى وإنْ أُنسـيتُ يومــــــًا  قَطاةَ الغري بالدمعِ الهــــتونِ

تُغالبُ لوعةً تحيــا لظـــاهــــــا  وتَسقي جذوةَ الداءِ الدفيـــــنِ

ما اجمل ايقاعات البحر الوافر حين تقفلها قافية النون المكسورة، وما اقدر هذه الايقاعات على ترجمة الابوة النادرة  حين يفتك العشق بالعاشق، وكأني بهذه القصيدة السندسية قد كتبت الشاعر قبل ان يكتبها بسبب من اللوعة الفادحة، واية تلقائية والقصيدة تصغر القبلة وتصغر اسم المعشوقة وتصغر واحدا من الاتجاهات الاربعة (فويق) وتصغر اليد، فكأن الهاجس الادلالي متدفق في لاوعي القصيدة فالتصغير للتحبيب كما يقول الدلاليون حين يقترن السياق بالتحبيب ويبتعد عن التهوين، واي محبب في مزاج القصيدة كثر من ابنته سندس وهو يناديها سنيدس، واذا كان اسم سندس قائما على مركزية حرف السين فثمة ملفوظات سينية سربتها القصيدة من نحو: سلام / اسرب / انسى / نسيت تسقي ..

 

باء / الهم الجمالي:

احتراز لابد منه

يعجب المتلقي في قدرة البيت الواحد على التماهي والتعاطي مع مصطلحات جمالية كثيرة من نحو الجمال الخارجي والجمال الداخلي والمجاز والواقع والاخفاء والتجلي وربما تداخلت وظيفتا الاستعارتين التصريحية و المكنية  فكلتاهما مجاز لغوي، الاستعارة التصريحية وهي التي حذف منها المشبه وصُرِّح بالمشبه به بينا الاستعارة المكنية نقيض ذلك ففيها المشبه به مختف والمشبه متجل مع قرينة تمنع من ارادة الصورة الظاهرة، كذلك الفصل والوصل بين المجاز والتشبيه ففريق من العلماء يفرق بين التشبيه والمجاز وفريق يضعهما في دائرة واحدة والامثلة كثيرة لكن محلل النص ينجم افكاره ويعكسها على النص بما يشبه اعادة انتاج النص وهذه امور يكابد منها محللو النص على اختلاف مدارسهم ومناهجهم ويمكن القول ان الانزياح سبيل الشاعر اللاحب حين يؤثل جاذبية النص في كفتي المعنى والمبنى وذلك ما يصبغ الديوان بلونه المحبب،، والانزياح يعني مشاكسة المدلول المألوف للدال، ويبدو ذلك في حقول كثيرة أهمها المجاز والرمز والصورة. والنص الأدبي هو الأجدر بتقنية الانزياح بسبب اشتغاله في مخبر الجمال وسعيه إلى الشعرية التي تضمن تفوّق النص وتفرّده ثم تعاطف المتلقي معه وقد توصل عبدالقاهر الجرجاني

إلى حدود هذا المصطلح حين درس المعاني الثواني بيد أنه لم يسمّه، و آ.آ.ريتشاردز حين رصد معنى المعنى في النص ولنا ان نضع جدولا يبوبه جيزان هما اولى المعنى الاول غير المقصود والمعنى الثاني وهو المقصود او الحيز الاول المنطوق والحيز الآخر غير المنطوق الابيات التالية:

هذي حُميَّا جِراحي نَزفُها عَبـــــــقٌ فـهـاكهـــــا مُـــُزّةً من غـــيرِ ما كأسِ

*****

فقدْ نحرتْ على الأشواقِ دمعــًا سخينًا قدْ تفرَّى من جفـــــونِي

مِراضٌ ذي الجفونُ لِما هَمـــتهُ نوالًا في سِني الزمنِ الضَّنونِ

*******

فقدْ سكبتُ الهوى نَــزْفًا على وَتري فاهتزَّ في صَخبٍ يَحكي صَدى يأْسِـــي

أَلْفـَيتَهُ نـَــزِقًا تُنـْـبِيكَ رَعْـشَـتـُهُ عن نَشـــوةٍ غـَرِقـــتْ في لُجَّــــةِ البأسِ

إنْ تنسَ فوحَ طُيوبٍ في شدى كلِمي فانظرْ هذاكَ طريًّا في جَنى غَرْسي

وجري على القول وهكذا دواليك نترك استقصاء الامثلة ونحن نستبق القول الى ان التاوهات نصوص في الانزياح،، وها نحن ننجم الظواهر الجمالية الانزياحية في التأوهات:

نجمة اولى / الجدل في التاوهات بين الدلالي والجمالي يكشف للمتلقي حذق الشاعر الجباوي في صناعة الشعر والجاحظ في كتابه الحيوان قال (الشعر صناعة وضرب من الصياغة وجنس من التصوير) وقصائد التاوهات تشيء بموهبة الشاعر الفطرية على تخليق الشعر بله تطريته بالصورة الفنية الشعرية، والصورة لوحة تشكيلية مرسومة بالكلمات، وكنت اتسكع في مدينة التاوهات فتدهشني الصور الفنية حتى انني لا استطيع تسمية قصيدة واحدة في التاوهات تنماز بصورها الفنية ومسوغ ذلك ان الصور الفنية هي قوام كل القصائد، ثمة الصورة الحسية التي تقع تحت سلطة الحواس الخمس وثمة الصورة المجردة التي يتحصل عليها التلقي من خلال تحسيسها الى جانب الصورة المجازية والواقعية والصورة الكلية والجزئية الى جانب الصورة المتحركة والصورة الساكنة، انظر كتابنا الصورة الفنية معيارا نقديا، ادهشتني طاقة التاوهات على انتاج الصور الفنية المبتكرة المستضيئة بمكنتي القدامة والحداثة على حد سواء، واذا كان ولابد من الشاهد كما يقول المناطقة فهذه الابيات من سعديك ففي البيت الاول صورتان مركبتان الاولى - الصدر - استعارية فقد اظهر المشبه به واخفى المشبه (نوارك) والثانية - العجز - ثمة (مشبه) مقلة مشبهة وثمة (مشبه به) فتاة وسنانة:1. سَعديكِ ما عانقتْ نُوَّارُكِ الثَّغرا وقبلتْ مُقلةً وَسْنانـــةً سـَــــــكرى، ووجه الشبه منح المقلة والفتاة احساسا بالخدر الجمالي، وفي البيت الثاني يواجهك التشخيص او الانسنة اي المشبه غير العاقل يستحيل انسانا فالوجنة تلامس وتخجل والليالي تتعفف كما الفتاة: 2. ولامستْ وَجنةً خَجلى تربعهـــا خالٌ سَقتْهُ الليالي عِفَّـــةً, طُــــهْرا كذلك العيون في البيت الثالث

نجمة ثانية / وحتى لانترك هذه القصيدة - سعديك - التي استحضرناها للمثال وليس الحصر ففي البيت العاشر يؤنسك التجسيم وهو استحالة الحسي مجردا بعبارة اخرى التجسيم تحويل الذهني المجرد إلى حسي فلا يمكن استقبال الصورة الذهنية المجردة مالم تتوسل إلى التلقي بقنوات الحواس، قارن:

أبُنَيَّ: هلْ تدري بأنَّ قصائدي وقعتْ سَبايا في شِباكِ الصائدِ

قَيَّدْتَهــا بِشراكِ قولِك: إنّني (أدري وأعلمُ كيفَ قَلبُ الوالدِ)

قدْ قلتَـهُ أسْيانَ من فرطِ الجَوى فأَتى جنًى لَذًّا بفرعٍ مائدِ

واذا كان الشاهد كمال القاعدة كما يقال فلنا مثلا ملاحظة تحسيس المجرد كقوله: قصائدي صورة مجرَّدة سبايا صورة مجسمة ... الخ،

نجمة ثالثة / التراسل في التأوهات: يمكن القول ان تقنية تراسل الحواس تشتغل على الهم الجمالي وفق السمتين الداخلية والخارجية (المعنى والمبنى)، ويعني علماء تحليل النص بتراسل الحواس هو ان تنقلنا الصورة الى فضاء الدهشة فتضع فعل حاسة بصرية مكان حاسة شمية كما جاء في ازهار الشر لشارل بودلير (لشعرك المنسدل موسيقا صاخبة)، قارن:

لمْ تدْرِ كيفَ لثمْتُ عِطْرَ خِطابِكم  أو كيفَ كانَ رفيفُ جَفنِ الساهدِ

العطر كما في تقنية الحواس صورة شمية واللثم صورة لمسية، والخطاب صورة بصرية حين يُقرأ وسمعية حين يُسْمع والعطر صورة شمية والامثلة كثيرة وقصائد التاوهات تمنح نفسها للباحث المتأني،

نجمة رابعة / ولايمكن للدارس تجاوز تقنية التشخيص او الانسنة او التجسيد، التجسيد و يخطئ من يظن أن التجسيد Personification مصطلح أجنبي، ولنا أن نسأل ماذا يحدث لو أفرغنا (جدلا) الشعر العربي من التجسيد؟ والجواب: يحدث أننا لن نجد شعراً.. التجسيد هو أنسنة غير الإنسان وإضفاء صفات الإنسان ووظائفه عليه وهانحن قبالة امثلة من ديوان التأهوات في رحلة التأوهات قارن التحيس

التجسيد:

أنتَ الحُميَّا لصَبٍّ باتَ ينعشُهُ همسُ الجفونِ, ووحيٌ مِلؤهُ الودُّ

وكانَ صَمتُكَ نَهْرًا في تَدفُّقهِ وحلوُ همسكَ أضحى دونهُ الشهدُ

أسكرْتَني بفتورِ ثَغــركَ حينمــا تلجلجَ الحرفُ لا يَخفى ولا يَبدو

وأثملَتْني رُموشٌ خِلتُها رقصَتْ نشوى وقدْ هزها في سَعدِها السعدُ

****************

حيّاكَ جُرحٌ تشظَّى فوقـــهُ الألمُ وحشرجـــــــاتٌ بَراها الأينُ والسـقمُ

وهمهمات الضحايا راح يعزفها قيثارُ وجدٍ تلوى عبْـــــــــره النــــــــغمُ

وباركتكَ شجونٌ ساء جاحمها كالجمرِ إذْ غمغمتْ في الصدر تضطرمُ

وعانقتكَ عيونٌ غضةٌ رقصتْ فيها الأماني وأرخى هُدْبَها الحـــــــــــلمُ

***************

وسافرَ في عيونِ الشوقِ يحدو  حُداءً دونَهُ وقْعُ الطّعانِ

 

وحلَّقَ دونَ أنْ يثنيهِ قيدٌ  بأجنحةِ الفصاحةِ والبيانِ

وعلّى فوقَ رابيةٍ تسامتْ  تسامي الحَرفِ في عرشِ المعاني

وقَوَّضَ عَالَمَ الأحلامِ صوتٌ تحدى صولةَ الوغدِ الجبانِ

فنادى حيثُ ساريةٌ تغافى هذاكَ الموتُ مقتربٌ ودانِ

فنبهَ غافلًا يُزجي السرايا على ذلِ الهزيمةِ والهوانِ

فكانتْ صرخةً غضبى فجاءتْ مخالفةً لأقنومِ الزمانِ

إذِ اختصرتْ من الأيامِ شطرًا وآخرَ من حِمى رَحِمِ المكانِ

********************

يَزخُّ قَلبي دَمًا, يبكيكَ مدْمَعهُ  وَمَدمعُ القلبِ جُرحٌ ليسَ يَندمِلُ

شَتانَ ما بينَ مَنْ يبكي دمًا ودمًا وَآخَرٍ دمْعُهُ جادتْ بِهِ المُقَلُ

سيفٌ تراقصَ في كفيْكَ مَضْرِبُهُ كما تراقصَ في أفنانهِ الجَبَلُ

وقدْ تلَألأَ مزْهوًّا بِمغْمَدِهِ كما تلألَأَ في ليلِ الدُجَى زُحَلُ

أبكِيكَ للقَلَمِ المَحزُونِ في بلدي أنَّى لنا ولَهُ إنْ قدْ دَنا الأجَلُ؟،

نجمة خامسة / القناع: تقنية إخفائية قديمة تقوم على وضع وجه مصنوع من الجلد أو المعدن أو الخشب Mask على وجه الشخصية الروائية أو المسرحية Persona وربما استثمر (البيرسونا) التقاليد الدينية اليونانية في بعض المواسم والأعياد التي يمتزج بها الغناء والرقص والطقس الديني من نحو أعياد باخوس (إله الخمر) حيث كان الناس يخرجون إلى الشوارع مرتدين قناع باخوس الذي هو وجه معزى، اذن نحن نواجه تداخلا ملتبسا بين نجمات الانزياح او الشعرية او المجاز لكن ذلك لايمنع الباحث مثلنا من التنجيم لترسيم الحدود داخل الدائرة الواحدة ورحم الله استاذنا العلامة احمد ناجي القيسي القائل ان شبها كبيرا بين عمل المتحكم بعرض فلم لعبة كرة القدم وعمل الناقد فكلاهما يسعى الى اعادة اللقطة السريعة الى لقطة بطيئة كي تتميز الامور، البطء في دخول الكرة الى المرمى يجعلنا على يقين من حركة الكرة وشرعية الهدف والنقد يجعل حركة النص بطيئة للتجلى لنا كوامن النص،

 

امثلة في القناع:

كانتْ همُومي ثِقالًا في سِني كِبَري فاضّاعَفتْ عددًا من كَثْرةِ العللِ

نهضتُ في حملِها شيخًا يُؤازرُني مِثْلُ الحُسامِ - فتًى- في قبضةِ البطلِ

وما نكصتُ هروبًا من منازلةٍ ولا انكفأتُ فِرارًا من جنى الأسلِ

وما هممتُ بأمرٍ خِفتُ كَبوَتَهُ إلَّا وأدمَى بُنيِّيِّ هامةَ الفشلِ

وبعد

والتأوهات في رحلة الامل والألم هو ميلاد شعرية جديدة رغم ان الشاعر يرهفه التهويمات،، قرات التأوهات قراءات متعدة حتى اكون منصفا مع نفسي والديوان والقاريء وسيكون سانحة مهمة بؤسس جسرا  بين الشاعر وجمهرة المتلقبن ولي ان اردد قول الشاعر: فأول الغيث قطر ثم ينهمر وشيء من الفال الحسن اقول للقراء الكرام انتظروا ميلاد ديوان جباوي ثان وثالث فقصائد الناوهات حبلى يديوان ثان وثالث ورابع فشيئا فشيئا تتفتح اوهار البرقوق.

 

عبد الاله الصائغ

 دكتور واستا ذ / سفير السلام العالمي / مدير موسوعة الصائغ الثقافي/ مؤسس منظمة ادباء بلا حدود.

الثلاثاء 28 جون 2016 مشيغن المحروسة

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم