صحيفة المثقف

المصالحة الوطنية في الجزائر قد كانت ولا زالت خيارا وطنيا استراتيجيا (3)

ونبقي دوما مع المصالحة الفرنكوألمانية فإننا نجد ومن جهة أخرى بأن فرنسا قد تابت هي الأخرى من خطيئة شيطنة ألمانيا وتصنيفها على أنها العدو الأبدي لها . وهنا نرى بأن الطرفين قد تابا من أخطاء الماضي والتي كانت هي سبب تلك الحروب المدمرة بين الدولتين وكانت هي المغذي الرئيسي للعداوة بينهما . وهذا هو المطلوب اليوم في الجزائر من بعد أن هدأت النفوس . فيجب علينا كذلك أن نؤسس لمصالحة على مستوى الأفكار قبل الأفعال . علينا أن نتوب جميعا من الخطايا التي تغذي صراعاتنا وعداواتنا العبثية . وخصوصا خطيئة احتكار الحقيقة ومهما كان محمولها . وأن نبتعد وبصورة مطلقة عن خطيئة التخوين والتكفير . ولنترك المجال لمؤسسات الدولة تعمل ووفقا للقانون .

إن الذين يطالبون بالقصاص نتيجة لتجاوزات العشرية السوداء في الجزائر كأنهم يعتقدون بأن معاقبة الجناة المعروفين والمفترضين سوف يكون ضمانة للحيلولة دون تكرار التجربة المرة والسيئة الذكر . ولكنهم يتناسون بأن الإنسان وفي لحظة الخوف يتحول إلى وحش ومهما كانت نبالة المعتقد الذي يعانقه ، وأنه ومتى غاب القانون تحول البعض منه إلى مجرم . نعم إن عدم الشعور بالأمان الاقتصادي والنفسي والاجتماعي يحوله إلى وحش لا تهمه النتائج مطلقا . ولذلك وبدلا من العقاب علينا أن نجفف منابع تغذية العنف داخل الإنسان ذاته . لأن العقوبة تردع ولفترة قد تطول أو تقصر ولكن الإٌقناع يولد الإقلاع الأبدي والهجرة وبصورة مطلقة من ضفة العنف والإرهاب إلى ضفة التعايش المشترك والقبول بالآخر وكما هو . ولذلك فالنبي محمد ص لما دخل مكة لم يثأر لكونه المنتصر وهذا لكونه يعلم بأنه ومتى فعل ذلك خلق مظالم جديدة ستستمر في الزمن وتكون أرضية خصبة لانتقام مضاد . ولكنه عمل على بناء ضمير إنساني حي يضمن به عدم سفك الإنسان لدم أخيه الإنسان إلا في حالة الانحراف كما حدث في العشرية السوداء في الجزائر .

وقريبا منا وفي دولة جنوب لإفريقيا حدثت بها مصالحة وطنية شاملة ولكنها لم تؤدى إلى أحكام جزائية على أرض الواقع على أساس العفو مقابل الحقيقة ويبقي كل إنسان وضميره . لأن مخلفات العشرية السوداء في الجزائر كانت هي بدورها ستكون رحم لأزمة أمنية جديدة لولا حكمة جميع الأطراف التي هندست ونفذت مخطط المصالحة الوطنية . وهذا لكوننا كنا سنرى ميلاد قطبية ثنائية جديدة طرف فيها يحمل روح الانتقام ويتربص بطرف آخر وطرف آخر يرى في نفسه ضحية محتملة . وهنا ستنقسم الدولة والولاءات مرة أخرى إلى معسكرين متقابلين والمواجهة بينهما مؤجلة ولو إلى حين . وهذا النوع من المصالحة لا نريده ولا نحتاجه نريد مصالحة حقيقية بحيث قلوب أصحابها لا تحمل أي شعور بالخوف من الآخر أو الحقد عليه أو بغضه وكرهه . وهذا النوع من المصالحة يحول دون تكرار تجربة العشرية السوداء سيئة الذكر . ذلك أن المصالحة الوطنية لا تفرض وإنما هي سلوك اجتماعي وفلسفة اجتماعية يترجمان على أرض الواقع كنتيجة مباشرة لقناعاتنا الذاتية بضرورة المصالحة وأنها خيار استراتيجي لنا جميعا عندها فقط ستنجح . وهذا النوع من المصالحة يضمن التطبيع الشامل بين جميع أفراد المجتمع وهذا التطبيع يكون نقطة الانطلاق صوب بداية جديدة وخصوصا للأجيال التي لم تعايش حقبة العشرية السوداء .

نعم إن المصالحة الوطنية اليوم لهي ضرورة وحتمية اجتماعية وهذا للتخلص من إرث العشرية السوداء حيث أنه وخلالها قد تم تهديم منظومة القيم التي كانت سائدة بين الجزائريين في الفترة التي سبقت تلك العشرية . ولمّا تهدمت فإننا قد فقدنا الأمن الاجتماعي بحيث أصبح المجتمع وبتعبير التوراة يد كل واحد فيه على الآخرين ويد الآخرين عليه جميعا ، وهذا المجتمع ليس سليما أبدا . ومسألة انهياره هي قضية وقت لا أكثر ولا أقل من هذا . ولهذا فإنه يتحتم علينا أن نبني مصالحة وطنية بشكل أفقي وعمودي بين مختلف فئات المجتمع الجزائري بحيث لا وجود لفئة تعادى الدولة وترى بأنها ليست دولتها ، وبالتالي تصبح تتربص بها وتتحين الفرصة للانقضاض عليها . وفي المقابل لن تكون الدولة في حالة احتقان وصدام مع المجتمع وعلاقتها متوترة مع أي كان من أبناء شعبها . وتكون المصالحة على شكل ميثاق أو عقد اجتماعي يلتزم به الجميع الشعب والدولة لأنه لا مستقبل ولا وجود لأي منهما خارج هذا الميثاق . فنحن هنا لسنا في زواج لنقول للناس أحبوا بعضكم بعض ولكننا أم ضرورة اجتماعية وتحدي وجود لدّولة وللمجتمع من أساسهما ، فالقضية ليست بسيطة أو لعب أطفال . ولنكن معها براغماتيين نوازن بين ما سوف نخسره وما سوف نربحه وهذا متى كنا نحن ومن دون استثناء مع المصالحة الوطنية وهنا فقط سنعانقها وهذا هو الواجب وبكل أريحية .

كما وأننا نعتقد بأن المعركة ضد مختلف المشاكل التي تعرفها الجزائر اقتصاديا وتكنولوجيا والتي لا يمكن لأي جزائري لوحده بأن يتخطاها . فإن هذا التحدي يفرض علينا كجزائريين الاتحاد كرجل واحد لأن معركتنا ضد التخلف تحتاج لتكاثفنا جميعا . وبالتالي علينا أن نكون هنا براغماتيين في تعاملنا مع ما يواجهنا من تحديات بغية الحفاظ على تواجدنا على الساحة الإقليمية والدولية .

نعود ونقول بأن تغذية روح التآخي والتآلف بين الجزائريين وبمختلف مشاربهم لهي حتمية لا نقاش فيها وهذا يكون بالتوعية خصوصا ، وبتجفيف كل ما من شأنه أن يولد روح العداوة بين الجزائريين . أو يولد الشعور بالظلم أو اللاعدل من قبل بعضهم . وهذا يكون عبر تفعيل العدالة الاجتماعية في إطار الدولة المدنية والتي تكفل حقوق الجميع وبصورة متساوية . وبهذا العمل فقط سنتمكن من امتصاص شحنة الغضب وعدم الرضا وشحنة معاداة بعضنا البعض مما يضمن عدم تهدم الأمن والسلم في المجتمع في المستقبل القريب والبعيد على حد سواء .   

نعم إن المصالحة الوطنية وفي أي بلد من بلدان العالم والتي مرت بظروف مشابهة لظروف الجزائر لم تكن تهدف للمحاسبة وفقط وكأنها جاءت للعقاب . وبهذا فهي سوف تكرس مظالم جديدة وتبقي تدور في حلقة مفرغة بحيث يبقي هناك طرف مقهور وطرف قاهر . وهذا لا يؤسس أبدا لمصالحة وطنية شاملة ومستمرة في الزمن . وإنما هو مجرد هدنة بين طرفين استعدادا للجولة القادمة وهذا هو عين الخطأ ولا يمكن قبوله أبدا وعلى أطراف كل صراع أن يتنازلا ومهما شعرا بأن تنازلاته مؤلمة له ولكنها ضرورية وللجميع . خاصة وأنه يجب علينا أن نكون عقلانيين وأن نتعرف على الظروف المحيطة في مختلف بلدان العالم والتي شهدت صراعات تلتها مصالحات وطنية كالشيلي أو جنوب إفريقيا مثلا .

ومن يريد أن يجعل من المصالحة الوطنية فرصة لتصفية الحسابات وفقط فهو مخطئ لأن أمر المحاسبة متروك لمؤسسات الدولة الرسمية ولضمير الأفراد . وكل من اخطأ في حق وطنه وشعبه وله ضمير حي فبإمكانه التقدم إلى العدالة وهي من ستبث في أمره . أما أن نجعل من المصالحة الوطنية فضاء للتنفيس عن مكبوتاتنا فنحن هنا نكون قد نزلنا بمستوى الخطاب إلى الحضيض واعتنقنا عقيدة الثأر والثأر المضاد وليس لعقيدة العدالة . أما الادعاء بأن بعض الدول جرت بها مصالحة وطنية من دون عقاب وهذا يؤسس لسياسة اللاعقاب فهذا الكلام مرفوض لأن صاحبه يريد أن يقول لنا بأن هناك احتمال ولو كان ضعيفا للعودة إلى الوراء وهذا أمر مرفوض جملة وتفصيلا . ذلك أنه لا مجال للعودة إلى خطيئة الإرهاب ولو على سبيل المزح فما بالك بشيء غير هذا . فالذي يمزح يجب أن يعاقب فما بالك بالذي يفكر في هذا الطرح . ولأن صاحبه هنا وبصورة غير مباشرة فهو يحرض على العنف وإن تلميحا لا تصريحا . ومن يتصور عودة جزائري لقتل أخيه الجزائري أو أي أخ له في الدين أو الإنسانية فهو إنسان مختل يجب اتخاذ الإجراءات الضرورية معه وهذا للحيلولة دون إيذاء غيره قبل أن يؤذي نفسه . 

وفي الأخير نقول بأننا لسنا هنا في موقف تزلف واستحذاء وتملق وليس مقالنا هذا مجرد مقال رأى للتهريج وإثارة الفتنة بين الجزائريين بدلا من إطفائها . كما وأننا نرفض النقد لأجل النقد وكأن مقياس الرجولة والوطنية لا يقاس إلا بنقد السلطة والتنقيب في عيوبها وتضخيمها وشيطنتها . وكأن الإسلاميين كانوا ولا يزالون ملائكة وكانوا سيبنون مدينة الله على الأرض . هذا هو عين التهريج فهم بشر ككل البشر وقد شاركوا في مختلف الحكومات الجزائرية المتعاقبة ولم نرى أي نجاح لهم وهم من حملوا حقائب وزارية فهل جعلوا الميادين التي استوزروا فيها تماثل ما هو موجود في الدول المتقدمة . ولن نذكر هنا أي طرف فلسنا صحافة صفراء ولا مجمع نسوة لا هم له سوى تتبع عيوب الناس والنميمة بل علينا أن نكون حكماء في وضع الإصبع على الجرح بهدف مداواته بدلا من الشطحات الاستعراضية لتسجيل النقاط على الخصم كما يحدث في بعض الفضائيات .

كما وأننا نرفض الجدال العقيم ، نرفض أن نحفر الخنادق بين الجزائريين، نرفض إلقاء اللوم على طرف واحد دون الطرف الآخر وهذا لكوننا مبرمجين مسبقا ولذا فناك طرف مدان دوما وطرف ضحية حسبنا دوما ومن أدرانا لعل القراءة الجادة للأحداث تغير قناعاتنا وأحكامنا السابقة وتبين لنا بأن الضحية ما هو إلا جلاد متخفي في ثوب ضحية . لأن الموضوعية تتطلب أن نكون في موقف وسط بين كل الجزائريين . ودوما هناك لوم للسلطة في الجزائر على أنها أوقفت المسار الانتخابي في 1992 بهدف المزايدة وفقط وكأنها اغتالت الدين أو أمين الوحي جبريل وما قامت به هو أمر دنيوي يبقي أمره بيد الجزائريين ولا علاقة له بالدين مطلقا . وهنا نقول هل الإسلام السياسي كان سيحول الجزائر إلى نرويج أو إلى سويد وسويسرا؟؟ .

ونتحدى أن يضع بين أيدينا أحد ما اختراعا علميا مبتكرا أو مشروعا علميا جادا وضعه أبناء التيار الإسلامي في الجزائر أحدث نقلة نوعية في حياة الجزائريين قبل إحداثها في الحياة اليومية للبشرية جمعاء وعليه فهم بشر ككل البشر يخطئون ويصيبون ومشاريعهم ملفقة من هنا وهناك ووضعوا عليها شعار منتج إلهي لشلوا بها الشعار حركة الناس على المبادرة الخلاقة وعلى الحركة لفضح زيف مقولاتهم ويسترهبونهم بالتعبير القرآني ولا شيء غير هذا وهي مشاريع دنيوية بشرية ولا علاقة لها بالله . نعم إن القراءة المتأنية لمشروع الإسلاميين في الجزائر نستنتج منها أنها كانت ستحولها إلى دولة فاشلة على غرار أفغانستان في عهد طالبان وإلى سودان ثانية وهذه هي الحقيقة فلماذا فقط لا نقر بها ، ونحن هنا لا نتجنى على الإسلاميين ولسنا ضدهم كأشخاص ولكننا نحتكم إلى المشاريع وإلى البرامج والتي ما هي إلا مشاريع فاشلة لمحاكم تفتيش بغيضة لا تعتمد على العقلانية ولا تحتكم إلى الواقعية وإنما تعتمد على الشعبوية وعلى التهريج كما يفعل الطبال والزمار والبراح وقارئ البخت والكف لاستغفال الجماهير وسرقة ما في جيوبهم وبائعي الوهم ولا شيء غير هذا .

فلماذا فقط نحن ننتقد من هم في السلطة لأجل النقد فقط ومعظمنا في نفس الوقت يرفض حكم الإسلاميين ويتمنى لو كان مكانهم ولو كان أبناؤنا مكان أبنائهم هذه هي حقيقتنا التي نخفيها ونغطيها برداء نقد يفضح نوايانا بدلا من أن يغطيها وهل لو كنا في السلطة هل كنا سننجح ؟؟ الشيء الأكيد هو لا لأننا كلنا عالم ثالث نفكر بنفس الطريقة ولذلك فكلنا شركاء في الفشل وفي النجاح وما علينا سوى أن نثمن النجاح ولو جاء من غيرنا وأن نصلح العيوب ولو كنا نحن مصدرها . وهنا يمكن القول بأنها المزايدة وفقط وشعور بالغضب لأن بعض من في السلطة استأثروا بالمال والجاه والنفوذ دوننا ولهذا نحن ننتقدهم حتى نجبرهم على أن يقاسموننا منافع السلطة . ومع النقد الذي يوجه لهم من قبل بعضنا فهم وفي في نفس الوقت يتمنون لو كانوا في مكانهم أو لو أنهم  يشاركونهم في جزء مما هم فيه وهذه العقلية لا تبني دولة ولا تبني مجتمعا سليما وليست هذه هي الوطنية . وما الفائدة عندما تحل أنت مكان من تنتقدهم وتزايد عليهم ومتى كنت معهم لا نسمع لك صوت كأهل الكهف؟؟ .

وإنما المطلوب هو دولة العدالة الاجتماعية في إطار الدولة المدنية لا الدولة الدينية أو الدولة المؤدلجة ولا يهم من يحكم ، فزيد أو عمر لا يهم ما دام يحتكم لقوانين الجمهورية الجزائرية . فليس كل الشعب الجزائري من عشاق أو يصلحون لممارسة السلطة . وإنما البعض يفضل العمل الجماهيري فهل سنفرض عليهم وبالقوة تقلد المناصب حتما سيفشلون لأن هذا ليس ميدانهم . ولهذا كفانا مزايدات والتنقيب عن أخطاء بعضنا ليس لأجل الإصلاح والبناء الجاد للوطن ولمستقبل أبنائنا وإنما لإفشال مشاريع غيرنا حتى ولو كانت هي طريق خلاص بلادنا فقط لأننا نتبنى شعار لا أريكم إلا ما أرى .

 

خلف الله سمير بن امهيدي / الطارف / الجزائر

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم