صحيفة المثقف

أسس الأخلاق.. الفيلسوف والترستيس

ibrahim telbasilkhaلا شك أن وجهة النظر الدينية تنظر إلى الأخلاق على أنها تقوم على الدين . ولقد ظهرت هذه النظرة بالطبع، من الناحية التاريخية فى صور مختلفة ومتنوعة، تبعا لمعتقدات الناس الدينية،وتبعا لتحضرهم أو تخلفهم النسبى . ولقد كانت صورتها الساذجة جدا تقوم على أساس الاعتقاد بأن ما هو صواب أو خطأ تحدده ببساطة، إرادة الله . ولقد صورت الله فى صورة تشبه البشر بوصفه عقلا ضخما أو وعيا عظيما خلق العالم وحكمه . وربما وجدت صورتها الأكثر تحضرا فى المذاهب العميقة الغامضة للمثالية المطلقة absolute idealism  . غير أن التصور الشائع لله قد حل محله فى هذه المذاهب مصطلح المطلق الميتافيزيقى . وإن كان هذا المطلق، مثل الله، هو مصدر القيم الأخلاقية وغيرها من القيم. الشئ الواحد المشترك بين جميع هذه الصور هو القول بأن الأساس الدينى للأخلاق، يعنى الإيمان بأن التفرقة بين الخير والشر الأخلاقيين، تضرب بجذورها بطريقة ما، فى تصور العالم على أنه يمثل نظاما أخلاقيا .

والميزة الكبرى لمثل هذه النظرة الدينية هى تقديم أساس متين للأخلاق وسط الطبيعة غير المتغيرة للعالم، وليس أساسا مهتزا وسط رمال الطبيعة البشرية المتحركة . فالقيم والقوانين الأخلاقية هى بالضرورة موضوعية، وتكون القيمة موضوعية – حسب تعريف ستيس – إذا كانت مستقلة عن أية أفكار إنسانية أو مشاعر أو آراء للبشر . وسوف تكون هناك مجموعة واحدة من القيم والمعايير الأخلاقية صحيحة وصالحة للبشر، لا تختلف من عصر إلى عصر ومن ثقافة إلى ثقافة لأن هذه القيم والمعايير تنطلق من عند إله لا يتغير، أو من غرض ثابت، أو من مطلق واحد   أزلى.

أما العقل الحديث – الذى قفز من الموضوعية إلى الذاتية – فهو لا يؤمن بالأساس الدينى للأخلاق، ويزعم أن جميع الأخلاقيات لابد أن تكون نسبية . غير أن القول بالذاتية يعنى التمسك بالنسبية وأن الأغراض تختلف من شخص إلى أخر أو من مجتمع إلى مجتمع . فتعريف " الخير "، مثلاً بأنه ما يسر الناس أو يخدم أغراضهم، أو ما يقفون تجاهه موقف حب أو استحسان، سوف ينتج بالضرورة أن يبدو الفعل الواحد أو الشئ الواحد خيرا عند شخص وشرا عند شخص آخر تبعا لمواقفهم أو ما يشتهون . وذلك لا يعنى فحسب أن آراء الناس ومواقفهم تجاه الصواب والخطأ مختلفة، بل إن ما هو حق أو صواب عند شخص سيكون بالفعل خطأ عند آخر، وينتج عن ذلك، فى نظر ستيس، انهيار       للأخلاق .

ولذلك يدافع ستيس عن الإيمان بالأساس الدينى للأخلاق، ويرى أن وجهة النظر القديمة عن الأخلاق التى تقيمها على الدين، تعطينا فهما أعمق وأصدق للأخلاق والعالم معا، أفضل من وجهة النظر الطبيعية المحضة . ويعتقد أن "برجسون" كان على حق عندما ذهب إلى أن للأخلاق مصدرين : أحدهما هو الضغط الاجتماعى social pressure  للنظرة النفعية الخالصة . وهذا المصدر، بالطبع، دنيوى وطبيعى . أما المصدر الثانى فهو يكمن فى التصوف الذى يتحد مع الدين فى هوية واحدة . والغايات الأخلاقية التى تنبع من هذين المصدرين تناسب الواحدة منها الأخرى، وتنسجم وتتناغم معها، وتنصهر تماما فى المجتمع    البشرى .

ويقول بعض أنصار النزعة النسبية إن أساس الأخلاق ينبثق من "العاطفة" ويقول بعضهم الآخر بأنه ينبثق من "العادات" . ويكفى هنا أن نفهم المبادئ العامة التى ينطوى عليها هذان الموقفان . فوفقا للرؤية الأولى فإن مشاعر كمشاعر الامتعاض أو الاستياء ينبثق منها الفكرة القائلة بأن الأشياء أو الأفعال التى نستاء إزاءها هى غير أخلاقية وفاسدة. والسيد وستر مارك WESTER MARK المفسر الكبير لهذا النمط من الرأى وأحد ممثليه، يضيف جديدا  قائلا : " ليس لنا أن نقول بأن أى امتعاض هو مصدر عدم الاستحسان أو الاشمئزاز الأخلاقى . بل إن الامتعاض النزيه اللامتحيز هو فقط مصدر هذا الاشمئزاز ". لكننا لسنا فى حاجة إلى أن نقحم أنفسنا فى هذا التفكير الدقيق . يمكننا أن نرى بسهولة تامة، أنه إذا كان هناك فعل ما فى مجتمع ولنقل إن هذا الفعل هو اللواط أو مضاجعة الذكور وكان هناك امتعاض إزاءه من الأغلبية فإننا سوف نعتبر ذلك خطأ كما تقول هذه الجماعة أو المجتمع . أما إذا لم يكن فى مجتمع آخر مثل هذا الشعور بالامتعاض إزاء اللواط فإننا لن نفكر فيه على أنه يمكن أن يكون مرفوضا أخلاقيا . إذا فمصدر الإلزام الخلقى والأوامر الخلقية هو المشاعر . وحيث إن مشاعر البشر متغيرة، فإن القوانين الأخلاقية التى تعتمد عليها تكون متغيرة أيضاً . وبالتالى ليس هناك معنى للسؤال عما إذا كان جنس بشرى على صواب فى استحسانه لحدث معين لأن مجرد استحسانه هذا هو الذى يصنع الصواب ويخلقه خلقا .

ووفقا لوجهة النظر التى تقول بأن العادة هى مصدر الأفكار والمعايير الأخلاقية فإن ما يحدد "الخطأ" فى مجتمع ما هو عادات هذا المجتمع بمعنى أنه إذا كان هناك شئ ضد عادات هذا المجتمع فبالتالى يمكن أن يقال بأن هذا الشئ "خطأ" كما أن "الصواب" هو ما يتفق مع عادات هذا المجتمع. حقا إن المعيار الأخلاقى تحدده ببساطة العادات الاجتماعية فى منطقة معينة وزمن معين . ولأن العادات متغيرة فالمعايير الأخلاقية التى تعتمد عليها متغيرة تبعا لذلك. هنا أيضا لا يمكن القول بأن مجموعة من العادات هى الأفضل أخلاقيا من مجموعة أخرى غيرها لأن "الصواب" و"الخطأ" ينبثقان من هذه العادات، فالعادات هى التى تصنع الصواب وتخلقه خلقاً وهى أيضا التى تصنع الخطأ وتخلقه خلقا .

ويحاول ستيس إثبات أن العقل الحديث قد ارتكب خطأ عندما ظن أن جميع الأخلاقيات لابد أن تكون نسبية .   ويرى أن التفكير فى العالم الحديث قد سار فى ثلاث خطوات: الخطوة الأولى أنه يقبل وجهة النظر الطبيعية عن العالم . والخطوة الثانية أنه يستنتج الذاتية من المذهب الطبيعى، والخطوة الثالثة أنه استنتج النسبية من الذاتية . وهذا العقل الحديث قد ارتكب خطأ فادحا عندما افترض أن النسبية تنبع من الذاتية . فإذا كانت الحجة الأساسية للنسبية الأخلاقية تتأسس باستمرار على هذه الواقعية المزعومة للطبيعة البشرية التى تقول بتنوع واختلاف الأغراض، والرغبات، والحاجات، والاشتهاءات وألوان النفور بين البشر، فإن ستيس يرفضها ويرى أن أصحاب هذه الحجة لابد أن يفترضوا على الأقل أن هناك أغراضا هى بمعنى ما شائعة بين جماعات بشرية هائلة . وكذلك بين الأمم، بل ربما بين جميع الثقافات وكل الحضارات . ويعتقد أن هناك - على الأقل -  ثلاثة أغراض إنسانية مشتركة بين الناس هى مصادر القواعد العامة للسلوك وهى :

أولا : المحافظة على الذات : وهذا هو مصدر عدد من القواعد العامة للسلوك التى يمكن أن تسمى قواعد الحيطة والحذر أو قواعد الأمن والسلامة .

ثانيا : صحة البدن : هذا الغرض البشرى المشترك يؤدى إلى ظهور قواعد هائلة للبدن، وهى واحدة بالنسبة للناس جميعا تحت عناوين مثل : الوقاية وتعزيز الصحة العامة، ومنع تفشى الأمراض، ونظام الغذاء . وهى تشمل أيضا قواعد العلاج، وعلم الطب ويمكن أن نطلق عليها اسم "القواعد الطبية" .

ثالثا : السعادة : ويمكن أن يسمى هذا الغرض أيضا باسم : الرفاهية، إثراء الحياة، تحقيق الذات، وفرة الحياة وخصوبتها، القدرة، صحة الأرواح .. الخ . والقواعد التى تؤسس عليها تسمى بالقواعد الأخلاقية .

ولم يتوقف ستيس عند هذا الحد الذى جعل فيه الأوامر الأخلاقية كلية وعامة للناس جميعا، بل نجده يجعل من التصوف أساسا للحياة الأخلاقية. فما دامت ماهية الدين توجد فى تجربة القديس الصوفية، فإن أساس الأخلاق لابد أن يكون فى تلك التجربة. ولابد أن نرى الحافز الأخلاقى ينبع من تلك التجربة، وذلك لأن التجربة، طبقا لرواية كل من مر بها، لا هى معرفية فقط،ولا انفعالية فحسب، وإنما هى فوق ذلك كله قيمة . إنها الغبطة، والنعيم، والسكينة، والسلام . وهى أيضا – أو أنها تتضمن كجزء متكامل مع ذاتها -  الرحمة اللامتناهية والحب الذى لا حد له للبشر جميعا . وإن مثل هذه الرحمة وهذا الحب هما أساس أخلاق رفيعة.

إن الرؤية الصوفية هى الرؤية الموحدة التى ترى "الكل فى واحد" والتى تتجاوز جميع التمييزات . وبالتالى التفرقة بين إنسان وإنسان، فالذاتية بمعنى الإحساس بأننى ذات واحدة وأنك ذات أخرى، قد اختفت أو تلاشت . ومن مثل هذه الذاتية تنشأ جميع الشرور ولا سيما الكراهية، والحقد، والحسد، والغيرة من الآخرين . ومن يمر بالتجربة الصوفية يرى أن ذاته هى عين ذات الآخرين جميعا، وأنها فيهم وهى فيه . ولا يوجد عنده مثل هذه التفرقة بين "الأنا" و"الأنت" كأن يكره الآخر ويحب نفسه، أو يسبب ألما للآخر، بينما يطمح هو بالمتع، فهو يعيش فى الناس جميعا، والناس جميعا يعيشون بداخله، ومن ثم فإن رغبته وحبه ليسا لنفسه بل للناس جميعا . وهذا هو ما يجعل التصوف أساس الحياة الأخلاقية، كما أنه هو الذى يزودنا بأساس الدين .

لكن قد يسأل سائل : ما فائدة ذلك كله للبشر الذين لم يمروا، ولا يمكن لهم، أن يخبروا ببصيص من هذه الرؤية الموحدة عند المتصوفة ؟ لا شك أن رؤية الصوفى هى أساسا رؤية خاصة به، ومن ثم فإن ما يبدو خيرا للصوفى سوف يكون خيرا للصوفى، لكن ما المبرر الذى يجعلنا نقول إنه خير لنا كذلك؟

يذهب ستيس فى إجابته عن هذا السؤال إلى أن تجربة الصوفى ليست فقط موجودة بالقوة عند كل الناس، بمعنى أن فى استطاعتهم أن يمروا بها بشروط معينة، إذا أخضعوا أنفسهم، مثلا، لنظام طويل صارم . وإنما هى موجودة الآن عند جميع الناس بالفعل، رغم أنها موجودة عند معظمهم بدرجة دنيا . فما يسميه الناس عادة بالشعور الدينى هو "رؤية معتمة من خلال زجاج مظلم" لما يراه الصوفى فى ضوء مبهر . إن الإلهام الصوفى ينبع من تجربة دينية مشتركة بين الناس جميعا بدرجات تختلف نسبتها بين الوضوح والإعتام . وطالما أن هذه التجربة واحدة، من حيث الأساس عند الناس جميعا – والاختلاف هو فرق فى الدرجة – فإن الأخلاق التى تنبع منها سوف تكون واحدة فى كل مكان، وبالنسبة للناس جميعا رغم أن بعضهم سوف يدركونها بوضوح أكثر، فى حين أن غيرهم سوف يدركونها على نحو معتم .

 

أ.د. ابراهيم طلبه سلكها

رئيس قسم الفلسفة – كلية الآداب – جامعة طنطا - مصر

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم