صحيفة المثقف

بكر السباتين: زوبعة في فنجان.. محاولة قتل المنجز التركي بإفشال الانقلاب على الديمقراطية إعلامياً!

bakir sabatinأمام هذا السيل الجارف من الشتائم والتشكيك بحقيقة الانقلاب التركي الفاشل واتهامه بالمسرحية التي ألفتها وأخرجتها واشتغلت على نتائجها منظومة تتألف من أردوغان وأنصاره في القيادتين العسكرية والسياسية بالتنسيق مع حزب العدالة والتنمية، لفرض واقع جديد على تركية دولة وشعباً.

من هنا لا بد من وقفة موضوعية لإعادة تفسير الوضع في سياق الحدث وانعكاساته على الرأي العام ما بين الشك واليقين، من أجل وضع النقاط على الحروف، وإجلاء الصورة الحقيقية أما القارئ وفق المتاح من معطيات ما جرى أثناء حدوث الانقلاب للخروج بنتيجة مقنعة.

وسوف أبدأ من سؤال طرحته على صفحتي المثقفة التونسية (هنده بوغديري) حول سقوط بعض المروحيات في ساحات المواجهة في الوقت الذي قطعت فيه جميع الاتصالات في تركيا ونحن نعلم آنذاك بأنها أصيبت بالشلل التام، فكيف يحدث ذلك بدون دعم خارجي!؟ فننسبه للشعب الذي لم يحرك ساكناً إلا بعد ظهور الرئيس التركي عبر خدمة السكايب!

ثم نوهت إلى أنها لا تؤيد الانقلاب بحد ذاته؛ لكن الشك أخذ يتسلل إلى قلبها حول بعض الملابسات التي أججت التعليقات المتضاربة حول حقيقة الحدث برمته.

فلا بد في سياق ما شاهدناه بأم أعيننا من خلال ما كانت تبثه قناة TRTV الرسمية، الإشارة إلى أنه وبعد الصدمة الناجمة عن الانقلاب استعاد الجيش عافيته حينما اطمأن على صحة الرئيس من خلال السكايب حيث طلب من الشعب التركي الواقع حينها تحت الصدمة، بالنزول إلى الشارع لحماية الديمقراطية، وقد بث النداء لحظتئذْ عبر قناتي atv و cntv التركيتين.. فاستجابت الجماهير على الفور للنداء بعد تأكدهم من سلامة الرئيس وقدرته على المناورة من منطقة ما، فانبرت جميع مؤسسات المجتمع المدني حتى أحزاب المعارضة (توخت الأحزاب الكردية جانب الصمت المطبق) للتصدي لهذا الانقلاب الذي يذكر الأتراك بالماضي الأليم إبان الحكم العسكري الذي امتد طويلاً للبلاد، فيما قامت قوات الشرطة بأخذ زمام المبادرة في التصدي لقوى الجيش من الانقلابيين في كل أماكن تواجدهم سواء في الشوارع والساحات أو في محيط المؤسسات الرسمية كهيئة الأركان والتلفزيون الرسمي والمخابرات، وجسر البسفور، في عموم المدن التركية.

والنتيجة كانت سقوط المئات من القتلى والجرحى.

وكان فرصة مواتية لبعض الموالين لأردوغان بتحريك بعض الطائرات العسكرية لقيامها ببعض الطلعات الجوية، ومشاغلة المروحيات التي كانت تسيطر على الموقف العام، وإسقاط بعضها، هذا لو أدركنا بأن الانقلابيين لا يشكلون يوى أقلية، فعدة آلاف منهم لا يستطيعون التحكم بمنظومة عسكرية قوامها الملايين وخاصة أن قيادة الأركان العليا وقفت إلى جانب الرئيس كم أعلن فيما بعد رسمياً.

ولنفترض بأن هناك قوة خارجية ساندت أردوغان في إفشال الانقلاب المبهر؛ فمن تكون برأيكم تل الجهة المحتملة، والتي ينبغي لها أن تتمتع بنفوذ إقليمي ودولي مؤثر، لتدعم النظام التركي لوجستياً؟

فحلف شمال الأطلسي على سبيل المثال، والذي ينضوي تحت لوائه الجيش التركي في إطار اتفاقية الدفاع المشترك، لا يمكن لقيادته العسكرية تجاوز قيادة الجيش التركي للتعامل مع القيادة السياسية التركية، وذلك لوجود ضابط ارتباط تركي في القيادة المشتركة لحلف شمال الأطلسي الكائنة في بروكسل، والتنسيق يتم من خلاله. وأمريكا التي توخت الحذر في بداية الأزمة لم تعلن عن تأييدها لأردوغان إلا بعد أن تكشفت لها المجريات باتجاه فشل الانقلاب! ما أثار حفيظة أردوغان.. ناهيك عن أنها تحتضن زعيم المعارضة المتهم لدى تركيا بتورطه في هذا الانقلاب.. لذلك لم تشكر القيادة التركية أمريكا وهو ما كان سيحدث لو تلق الدعم اللوجستي منها؛ بل أطلق تصريحات تفيد بأن كل دولة تحتضن المعارض التركي محمد فتح الله كولين المتهم بوقوفه وراء هذا الانقلاب سيندرج في خانة أعداء تركيا، في تلميح مبطن إلى أمريكا ما دعا وزير خارجيتها جون كيري لقبول طلب رسمي بذلك على أن يكون معززاً بالدلائل والبراهين المقنعة.

أما فرنسا فكانت منشغلة بهمومها نتيجة العملية الإرهابية التي لم تتحرر بعد من نتائجها الوخيمة عليها.. ولكن بالنسبة لليونان فهي تمثل دولة معادية لتركيا، حتى أنها تحولت إلى ملاذ آمن للفارين من الضباط الانقلابيين، وهذا ما جرى بالفعل حينما اعتقلت السلطات اليونانية بعضاً منهم حينما هبطوا بمروحيتهم العسكرية عقب فشل الانقلاب، على الأراضي اليونانية.

أما روسيا، التي كانت تعتبر العدو غير المباشر لتركيا حتى وقت قريب من آخر الاتصالات الواعدة بين بوتين وأردوغان على خلفية إسقاط الدفاعات الجوية التركية لطائرة حربية روسية داخل الأجواء السورية، ما جمد العلاقة نسبياً بين البلدين، فمن المستحيل إقدام روسيا المتواجدة جيوسياسياً على مشارف الحدود السورية مع تركيا تقديم الدعم اللوجستي للشرعية التركية أثناء الأزمة الانقلابية.

حتى الاتحاد الأوروبي فكان على خلاف دائم مع أردوغان بشأن ملف اللاجئين السوريين الذي تتحكم تركيا ببعض جوانبه، وخاصة إقدام الأخير على محاولة تجنيس اللاجئين السوريين المقيمين على الأراضي التركية (2.5 مليون لاجئ) ما سيشكل ضربة موجعة للجهود الأوروبية في هذا السياق.

ومن الطبيعي أن لا تقدم أي دولة عربية (وخاصة سوريا والعراق) الدعم اللوجستي لتركيا وخاصة أنها ترزح جميعها تحت وطأة الأزمات الخانقة وخاصة من حلفائها

هذا إذا علمنا بأن العملية برمتها تمت في وقت قصير لا يتجاوز عدة ساعات، وسياسة التدخل الخارجي في الطوارئ بين الدول تحتاج لقرار وغطاء برلماني، وإن جاء ذلك في سياق العمليات السرية فهو يحتاج لوقت طويل حتى تنظم العملية سراً في الخفاء في إطار الأجهزة الاستخبارية، ولو افترضنا جدلا بما هو مستبعد في أن التدخل المحدود قد حصل بالفعل؛ فما الضير من ذلك في وقت كانت تتعرض فيه الدولة للسقوط والتحول إلى كارثة الدولة الفاشلة والحرب الأهلية التي ستحرق الأخضر واليابس ومنطقة جاذبة للإرهابيين! وربما الذهاب بالبلاد نحو خيارات التقسيم العرقي والطائفي!وهذا هو العبث بكل المقاييس التي يتجاوب معها العقل. لذلك تضافرت جهود الجميع في تركيا للتصدي لهذا الانقلاب والاستجابة لنداء الرئيس.

وهل بقي لدى المشككين من حجة إزاء ظاهرة الالتفاف الشعبي حول أردوغان، سوى التذرع بعدة عناوين واهية لا ترتكز على منطق سياسي يحترم العقل، للهجوم الأجوف على الإنجاز التركي من خلال التشكيك المغرض به!

فلماذا إذن حملة التشكيك المبرمجة بالمنجز التركي لقتله إعلامياً عبر مواقع التواصل الاجتماعي وإطلاق تغريدات هنا وتصريحات هناك!

ربما يعزى ذلك لعدة أسباب، أهمها:

*ارتباط بعض المغردين اليائسين بأجندات مختلفة الولاء، في إطار تضارب

* تورط تركيا في الأزمة السورية.

* الشعور بالعجز والغيظ ممن لا ينعمون بالحرية في بلادهم، من ثمار التجربة التركية التي أتت أكلها، في إنجاز نهضة مشهودة، لمس نتائجها الشعب التركي بكل أطيافه.

*الإيمان بنظرية المؤامرة غير المعززة بالبراهين الموضوعية، والناجمة في كثير من الأحيان عن عدم الثقة بالعقل العربي، لهذا فالانقلاب الفاشل في نظرهم مجرد مسرحية خطط لها وقام بها النظام للخروج بالنظام السياسي التركي من عنق الزجاجة، ولخلق الأسباب المدعومة جماهيرياً خارج سياق البرلمان من أجل تعديل الدستور لصالح رئيس الدولة (وهو ما ترفضه الأحزاب المعارضة التي تشكل غالبية الأصوات في البرلمان التركي) ومن ثم إعادة هيكلة المؤسسة العسكرة التركية وتطهيرها من المعارضين لحساب حزب التنمية والعدالة الحاكم، ثم ضرب المعارضة التي يتزعمها محمد عبد الفتاح المتهم بالتخطيط للانقلاب الفاشل واتهامه بتشكيل دولة ظل موازية للشرعية التركية، تغطي كل أركان الدولة، وهو ما نفاه المعارض الذي يقيم في أمريكا. وأخيراً جاء من يقول بأن الانقلاب أفشل من الخارج وهو ما ضحدناه في معرض حديثنا!

والغريب أن قلة من المغردين العرب عبر صفحاتهم في مواقع التواصل الاجتماعي كانوا من أكثر المشككين بأمر هذا الانقلاب وكأنه حصل في عقر دارهم! فهل كانوا ينتظرون خراب تركيا!؟

وينبغي أن يدرك المشككون بأن كل ما يذهبون إليه في تحليلاتهم لم ينغص على الأتراك فرحتهم، غير مكترثين لهذه الترهات، وهو ما يبين الفرق بين العقل التركي المتحضر النهضوي والعقل العربي المهزوم المعتاد على مخرجات مثل هذه الأزمات المصبوغة بدماء الأبرياء.. لأن الدكتاتوريات لا تنتج إلا المشككين المهزومين، بينما القادة الملهميت فهم لا يصنعون إلا الديمقراطيات ولا يحققون لبلدانهم وشعوبهم إلا التنمية الحقيقية المستدامة.

فتركيا ليست مصر التي أريقت في ساحاتها الدماء لينتهي بها الأمر إلى دولة فاشلة نسبياًُ، تقدم الولاء لإسرائيل وتحاصر قطاع غزة، فيما تنكل بالمعارضة المصرية بكل أطيافها، إضافة لكثير من الدول العربية وخاصة الفاشلة منها كسوريا والعراق وليبيا واليمن؛ لذلك لن تجد فيها من يصدق بأن الشعب التركي أفشل الانقلاب وحقن الدماء وحمى الديمقراطية.. لأن في تلك الدول يخضع العقل العربي للخوف الذي يلجم عقولهم المضطربة، فيما يستمدون الطاقة السلبية من الدكتاتوريات التي تتحكم ببعض بلدانهم.

بينما أردوغان الذي تصدى لعودة الحكم العسكري بمؤازرة الشعب، والذي حكم البلاد خلال أربعة انقلابات متعاقبة حتى عام 1997، ليحولها أردوغان إلى دولة ديمقراطية تنموية مقتدرة وتمتلك قرارها المستقل. والنتيجة أنه أثبت نزاهته للشعب فسدد ديون تركيا المتراكمة (بسبب سوء الإدارات السابقة لعهد أوردوغان والتي استشرى فيها الفساد في دولة عميقة متجذرة في الفساد) منقذاً البلاد من براثن صندوق النقد الدولي وشروطه الاستنزافية، ثم هيكل الدولة على أسس صحيحة بدعم البرلمان التركي الذي شرع عدة قوانين إصلاحية غيرت تركيا إلى الأفضل.

وهذا لا يعني بأن أردوغان معصوم من الخطأ وخاصة أن المعارضة ما زالت تتهمه بتوريط تركيا في الأزمة السورية، وقيامه بدعم التطرف الإسلامي في سياق دعمه للمعارضة ضد نظام الأسد، كما لا أريد التهليل به كونه دعم المقاومة الفلسطينية في غزة إبان العدوان الإسرائيلي الغاشم على غزة بما يعرف بالجرف الصامد! لكنني لا أستطيع إلا الوقوف باحترام لزعيم ملهم لشعبه وصانع للنهضة التركية الحديثة بشهادة العدو والصديق، والحاصد لولاء الشعب الذي أحاطت به جماهيره ،وهتفت له الحناجر.

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم