صحيفة المثقف

علاء هاشم مناف: دراسة نقدية في رواية: عزازيل ليوسف عز الدين.. فكرة التأمل الثنائي في تشظي الدال

إن ما يسترجعه "عزازيل" في رواية يوسف زيدان عنوانها "عزازيل" الصادرة عن  دار الشروق طبعة خامسة 2009 هو تأكيد على علاقة هذا الإنسان بالعالم لكنه يمر عبر زمكانية من الاحالة وداخل بنية سردية تتشكل باعادة تلك التصورات وفق منطق زمكاني يتحدد  بطريقة فعلية وصياغة تاريخية للاحتفاظ بالمنطق السيكولوجي "الجشطالتي" وما يعني الصياغة السيكولوجية، للوعي الجوهري للتحليل الظاهراتي.

ولكي تبلغ المشكلة السردية في الرواية غايتها في إعادة تصوير الزمن السردي في خاتمته حين يكون داخل المقاصد. والأحالة المرجعية التي تُبرز النسيج السردي الروائي عبر السرد الهرمينوطيقي المحسوس وهو ما يعنيه المقصد المرجعي السيكولوجي "الجشطالتي" الذي لا يتضح إلا من خلال الأبعاد الاستعارية للاسطورة وهي الاستعارة الحية التي انبنت من قبل الروائي على الاستعارة التعالقية بين "هيبا" البطل الذي يجمع بين تعالق الإنسان بالعالم الآخر.

ورواية "عزازيل" هي عبارة عن تحليل للزمنية النصية اي إلى عالم النص التفكيري الذي يمليه القارئ بدلالته التفكيرية. فالسرد الروائي هو فعل بنوي يقدم لنا حبكة بنوية من المعاني تنكشف بالقوة الانتقالية التفكيرية والصياغات التصورية للأحداث عبر السرد التاريخي السسيولوجي الهرمينوطيقي الذي يتشكل به الفعل النصي وتعالقه مع حياة الإنسان من الناحية الموضوعية وما يخبره من تجربة في العناء وفي التعبير المزدودج بين "نظائر  الخطيئة والاثم" وما يتعلق بالمنطق السردي والحبكة التجريبية التي تأتي في أحيان كثيرة مع خلاصات التعبير السردي وما تمثل من فرضيات أساسية في الفعالية السردية للرواية وبين الطبيعة الزمكانية للتجربة الانسانية، فالتعالق يأتي في هذه الرواية ليس تعارضاً عرضياً بل هو يمثل شكلاً من إشكال الحس الديني الذي يخضع لمتاهات الوعي اللاهوتي للديانة المسيحية حيث يصير الزمن هو التعبير عن حقيقة الإنسان اللاهوتي المسيحي، ليصاغ بطريقة سردية، ويشكل السرد عمودها الفعلي حتى يصبح شرطاً وجودياً زمكانياً يقع في مهام الإرتباط الهرمينوطيقي والصيرورة البنوية.

ورواية "عزازيل" ليوسف زيدان تؤرخ حقيقة الفعل الاجرائي اللاهوتي المسيحي وعلاقته بالفعل والعناء والخطيئة وتعيين الاستثناء الهرمينوطيقي في هذه الرواية، فهي المعنية بالاجراء التجريبي عبر العملية التاريخية وعلاقتها بالكشف عن المصادر التاريخية وحركة الزمكان السردي، والمصير المتصور الذي يعد زمناً على مستوى التصور القبلي الذي تحقق بالفعل الإنساني في سياقه التاريخي الديني وغير الديني، والرواية تحاكي المستوى الفعلي الذي يؤدي ابطال الرواية فعلهم وتحركاتهم داخل المستوى الظاهراتي من فعل الرواية.

وفصول الرواية تقسّم على عدد "الرقوق" " التي هي متفاوتة الحجم، وقد أعطيت للرقوق عناوين تسهيلاً للقارئ، وقد أستعملت الأسماء المعاصرة للمدن التي ذكرها الراهب هيبا".(1)

وكان عدد الرقوق "ثلاثون رقاً" والتاريخ يظهر في هذه الرواية وهو نسقاً ذاتياً في قمة التاريخ الدنيوي والتاريخ المقدس والأول مارسه هيبا من منطق إنجيلي، والأنجيل كما قال يوحنا في تعريفه للانجيل، قال يوحنا: ذهبيُّ الفم، كذلك معنى كلمة القديس : وتعني الاخبار المفرحة، والتاريخ الدنيوي. هو التاريخ الحدثي وهو الأقرب إلى النمطية المثالية فهو التعبير عمّا يحدث، أما التاريخ القدسي:فهو يستخلص الأحداث.

إنه يدمجها في المشروع اللاهوتي السماوي، ويتم الحكم على نتائجها أعتباراً من التعاليم الكنسية، وهو الذي يميز بين الأحداث ذات الدلالة الشاملة، لأنها تظهر اللامرئي في المرئي، والمقدس في اليومي ورواية "عزازيل" هي من هذه الدلالة النمطية للتاريخ المحرك لتقسيم التاريخ إلى دنيوي ومقدس.(2)

وأن الظروف المحيطة بالخطاب الروائي تبين  ما تناولته التداولية في الخطاب الروائي ومن شأن لبنية الجملة التي يتم تحقيقها على يد رجال الدين اللاهوت الذين يتقدمون التاريخ المرئي في الرواية وهم:

1. هيبا الذي يمثل التاريخ الدنيوي بلمسة قدسية مبطنة لكنها متركبة في شخصية "عزازيل" وهو الإبليس الأرضي الذي تركبّ في شخصية "هيبا".

2. نسطور وهو المشرف الكنسي والمسؤول عن تقديم الخدمة لتيودور وهو القس، والرواية تبدأ بالراوي وهو هيبا الذي يروي الأحداث ويسجلها على تلك الرقوق وهو يروي المجيء إلى اورشليم، ويعلن هيبا عن وجوده المتعين في الزمان الدنيوي المرئي وهو تعيين  مشروط بالبقاء دائما داخل منحى وجودي في الزمان المرئي، وحاله الدائم هو الرحيل بعد ما قتل ابيه بمؤامرة من والدته لتتزوج شخصاً آخر، فكانت رحلته داخل صومعة هذا الأدراك الحسي الذي أصبح هو المتصّور الحقيقي لوجوده داخل زمنية مرئية تطل على رؤية صوفية متشددة يقطعها الوعي الدنيوي الذي يخضع إلى اهواء النفس البشرية.

وهيبا كان يخضع إلى اهواء نفسه إضافة إلى أنه كان  يعاني أزمة سيكولوجية جنسية كانت مرتبطة بصيرورة هذا الزمان المرئي الذي يداخله دائماً بالزمان غير المرئي. وهيبا هو المتعين الزمني الذي يرتبط بالوجود في شخصية "عزازيل" ومع هذا الوجود العيني المتصاعد تبرز الأشياء الأخرى من اهتمامات هيبا باعتباره رجل دين مسيحي، وعنده اللغة الارامية قبل السُّريانية.

يقول هيبا" بل نقول السُّريانية، ليتميز زمانها المسيحي المبارك عن زمانها الأول، الوثني واليهودي" [ص36] وخنوم الإله "الذي كان القدماء يعتقدون أنه يصنع الشر من طين الصَّلصال، ثم ينفخ فيهم آمون ليهبهم الحياة" [ص40]، وكان "معبد الإله خنوم الذي يستقبل جريان النيل، عند الطرف الجنوبي من جزيرة الفنتين الواقعة جنوب مصر، بالقرب من أسوان" [ص41] .

كانت اللعبة المثالية اللاهوتية عند هيبا قد قلبت حياته، هذه السيكولوجية الاهوائية الجنسية اللّعوب هي التي قذفت به في مهاوي الاقدار بعد مقتل ابيه على ايدي متطرفين مسيحيين ومجيئه إلى الاسكندرية وتعرّفه على "اوكتافيا الجميلة خادمة السيد الصقلّي وهي مثل إبنته رباها وقد مرت بعين  المشكلة التي مر بها هيبا هو مقتل زوجها على أيدي متطرفين مسيحيين، لكننا نستدل من شخصية هيبا بأنه شخصية مهتزة سيكولوجياً وانه خسر أوكتافيا بعد أن عرفت أنه رجل دين متطرف وأنها وثنية كما يطلق عليها هيبا دائماً.

واوكتافيا امرأة وثنية "تعتقد في خرافات الالهة اليونانية الحمقاء. الإلهة الذين يخادعون بعضهم، ويحاربون البشر، ويتزوجون كثيراً، ويخونون زوجاتهم! أيُّ خيالٍ مريض أنجب آلهة اليونان" [ص98] وقد عرضت أوكتافيا على هيبا أن تسميه "ثيوزوروس بوسيدونيوس!" ومعناه في اليونانية " الهدية الإلهية من بوسيدون" [ص99] وخُير هيبا إذا لم يعجبه الإسم فسوف تعطيه إسماً آخر بدلاً عنه هو"ثيوفراستوس" والذي يعني الكلام الإلهي" [ص99]

وقد اعترض "هيبا على هذين الإسمين وقال كلها اسماء يونانية، وأنا لي أسم مصري." [ص99] وكان في كل هذا السرد يعترف بالكتابة. لكن إبليس يذكرّه، وكان إشكالاً قد حدث من خلال الهواجس عند هيبا هو شكه في هذا الرجل "الصقلي" الغني. لماذا لم تكن له علاقة مشبوهة مع "اوكتافيا" قال لها "هل يضاجعك سيدك الصقلّي" [ص105] وفي كل هذا الاعتراف كان "عزازيل" يتابعه عن كثب وهو ضميره الحسي لهيبا، وهو "الكوموفلاج" الذي يظهر ويختفي عند  الرواي"السلم والواصل بين  سطح البيت وطابقه الأعلى، كانت درجاته عشرة" [ص100] من هنا يتم الربط الاسطوري بين "الدرجات العشرة والعقول السماوية التي تصل بين الله والعالم بحسب أفلوطين الحزين" [ص100].

وبعد عملية  جنسية كاملة مع أوكتافيا أثناء النزول إلى باحة البيت سألها هيبا"لماذا أسموك اوكتافيا؟ "[ص101] اجابت "ابي تزوج مرتين، وأنجب كثيراً، وكنتُ الثامنة بين أبنائه وبناته العشرة. إذن سوف أسمَّيك يتماشموني، فهي تعني المصرية الثامنة، مثلما تعني اوكتافيا باليونانية " [ص103] .

كانت اوكتافيا تروي مقتل زوجها الاول هو أنه" خرج ذات صباح ليضع النحور في المعبد الصغير الذي كان قائماً بشرق الميناء، فحوصر هناك، تقصد حاصره أهل ديانتنا. وأجهشت وهي تقول: قتله المجرمون وقادتهم من الرهبان، وهم يدمرون المعبد" [ص122]

"رهبان الاسكندرية يفعلون باسم ربهم العجيب، وببركات الاسقف ثيوفيلوس المهووس وخليفته كيرُلس الأشد هوساً" [ص122]

 

في صميم الرواية

الرواية تأخذ المنحى السردي اللاهوتي أي أن هناك علاقة جدلية بين الوعي الديني في إطار الزمان اللامرئي والزمان المرئي الإنساني وهذه الرواية تذكرنا برواية "جويس صورة الفنان في شبابه" "وتذكرنا كذلك برواية لعبة الكريات الزجاجية لهيرمان هيسه وبطلها يوسف، وهي جزء من المنظومة الأصولية المسيحية، وفي شاهد الرواية هناك مشاهد شكسبيرية، ومشاهد دينية في ظهور شبح الخضر الذي يظهر من خلال الأمواج البحرية.

والرواية تتحدث عن جزء من الوعي الاسطوري "الديني" "المسيحي الإسلامي" ويوسف زيدان ينقلنا في هذه الرواية السردية التي يسجل فيها على "الرقوق" تلك الاحداث وهي إشارة دقيقة إلى الوعي الاسطوري الذي يتم إزاحته وإبداله بالوعي السردي الاسطوري في الادب العربي مثل سرديات الف ليلة وليلة، وهي إشارة إلى التقنيات السردية في الأدب العربي.

بعد طرده من بيت الصقلّي على يد أوكتافيا بعد أن عرفت أنه رجل دين وبعد أن اعترف لها بذلك عاوده التعيين الوجودي للزمان من الناحية التجريبية الباطنية وتصوراته للوجود العيني عبر الوعي الديني الذي يلف تفكيره وما يتضمنه من توسط بين الذات المرئية والذات اللامرئية وهي فكرة موجودة دائماً عند هيبا حتى يلزمه الحدس بشكله الباطني من خلال الذات اللامرئية وهي المفتاح لموضوعاته الخارجية اللامرئية في  الزمان والحال والموضوعات الخارجية التي تكون لزوماً تكوينياً لتجربة صوفية باطنية تخرج من متوسط هذه التجربة لهيبا.

كان حواره مع نسطور أي مع نسطور القسِّ " عفواً يا أبتِ المبحَّل: ولكن فيثاغورس كان روحاً طيبة مع أنه عاش زمناً وثنياً" [ص47] "ويوحنا المعمدان، الصوت الصارخ في البرية" [ص47]

سألت نسطور

"يا سيدي، هل تعتقد ان يسوع هو الله، أم أنه رسول الإله؟ المسيح يا هيبا مولود من بشرٍ، والبشر لا يلد الآلهة" كيف نقول إن السيدة العذراء ولدت ربّأً" [ص47] من هنا نقول: كان هيبا متطرف في مفاهيمه وشكاك حتى في زمانه اللامرئي، وكان يريد أن يعرف من نسطور حقيقة " أمر أريوس" وافكاره، قال نسطور : " إنني أدرك ياهيبا، معنى دراستك اللاهوت في الاسكندرية وأعرف كل ما علّموك إياه هناك وكلّ ما علموك به من أمر "اريوس" وآرائه التي يعدّونها هرطقة.

ولكنني أرى الامر من زاوية أخرى، زاوية إنطاكية إن شئت وصفها بذلك. فأجد أن "اريوس" كان  رجلاً مفعماً بالمحبة والصدق والبركة . إن وقائع حياته وتبتُّله وزهده كلها تؤكد ذلك أما أقواله، فلستُ أرى فيها  إلا محاولة لتخليص ديانتنا من إعتقادات المصريين القدماء في آلهتهم." [ص53]

"فهل نعيد بعث الديانة القديمة؟" [ص54]

من هنا " لقد خرج آريوس عن إجماع أهل زمانه، وتم اغتياله بالسم"[ص54] لقد ارتاح وابتهج الاسقف إسكندر مع الامبراطور قسنطنطين لموت آريوس.

 

مقتل هيباتيا

"استاذة الزمان، النقية، القديسة، الربة التي عاشت آلام الشهيد، وضاقت بعذابها كل عذاب" [ص158].

إن هيبا يتوافق مع الحس التجريبي في الانحراف والخيانة خاصة في تعيين المنطق الزماني الذاتي المرئي الذي يرى نفسه فيه وإدراكه للتحليل في شخصيته من خلال التبدل في علاقته بالآخرين، وهيبا كان ينظر إلى هيباتيا نظرة جنسية إلى حسها المرئي وإمتلاكه لموضوعاته الجوهرية الذاتية حسب الاستفادة من التجربة، فكان يتمنى لو ضاجعها ولو مرة واحدة، فبقي يحلم بها لأيام ولاسابيع لكن دون فائدة. فقد اطبق الحس الباطني على الحصار الذي كان يعيشه داخل جدران اللامرائي الصوفي وإحساسه الديني الذي فوض هذا التصور بوصفه حدساً تحت مفهوم الجوهر الاصولي اللاهوتي الخارجي وهو شرط ضروري ألزم به.

وهكذا هي حالة هيبا السيكولوجية،  فهو تعيين زمني وتعيين حسي باطني في "الأنا" لأنها حسه الحقيقي لأنه أساساً غير مؤمن بفكرة الدين وحتى بالمسيح وهي لازمة للجنس عنده.

وعند مقتل هيباتيا "صارت عارية تماماً ومتكوّمة حول عريها تماماً، ويائسة من الخلاص تماماً ومهانة تماماً، الذئاب انتزعوا الحبل من يد بطرس وهم يصايحون، وجروا هيباتيا بعدما صارت قطعة بل قطعاً من اللحم الأحمر المتهرئى عند بوابة المعبد المهجور" [ص159]

وهنا يتأكد الجبن الذي لف شخصية "هيبا" وهو يرى بام عينيه كيف تهتك جسد "هيباتيا" أمامه بعد أن طلبت نجدته عندما وقف يتفرج على موقف التمثيل بالجسد. ويوم قتل ابيه وهو صغير لأنه كان لا يستطيع عمل شيء. "فلماذا خنعت عن إغاثة هيباتيا وقد مدت ذراعها نحوي؟" [ص160]

بعد حادثة هيباتيا الممزقة جسدياً، حاول هيبا أن يسيطر على  حالته السيكولوجية، لكنه لم يستطيع،فبدأ بعملية التمرّد اللاهوتي الديني،وقام بقطع الصليب المعلق بعنقه، حين انتزع الصليب أحس بشيء من  الراحة السيكولوجية بعد أن قطع هذا القيد الديني واللاهوتي الذي طوّقه سنين طويلة، وحوّله إلى إنسان جبان ومتراجع، فإذا كان الدين لا يحمي الناس عنما  يستغيثون برجاله وهم لا يستطيعون مساعدة الناس وإغاثتهم كما حصل لهيباتيا  عندما إستغاثت به ومدت يدها إليه، لكنه جبن أمام القتلة من رجال الدين الذين قتلوا هيباتيا وهي إشارة إلى الرجال المتطرفين أنفسهم الذين قتلوا زوج اوكتافيا التي احبته.

 

هروب هيبا من الاسكندرية وعبوره صحراء سيناء

من اجل التعرف أكثر على إنهزامية هيبا وإدعاءاته البراقة التي وسّع بها مداركه المهزومة داخل الحدود التجريبية لجأ إلى الصيغ الجافة التي تتضمن مبدأ المطالبة في الهروب إلى مكان  آخر لأنه يعيش أزمة سيكولوجية حادة بسبب فشله وإفلاسه على الرغم من المزاعم العقلية التي كان يطلقها،حيث كان يصوّرلنفسه المريضة بأنه ربما يكون المسيح المنتظر،وربما يصوّر لنفسه حسب الاناجيل الأربعة أن النساء اللائي لحقن بيسوع من الجليل سوف يلحقن به أثناءالصلب، وحضرن دفنه، وبما أنه يعيش حالة هذيان،كان يتصور أن مريم المجدلانية هي رفيقة معروفة ليسوع، وهي سوف ترافقه اين ذهب" لم اجد يأساً في المرور بالدير قبل دخول صحراء سينا"[ص169] "قضيت في  الدير الثاني ثلاثة ايام،  خرجت بعدها إلى سيناء" [ص169] .

وكان يعني "فنتيرا للفيلسوف الاغريقي " سيلسيوس"  (Celsas) حيث روى في كتاب ضد المسيحية عنوانه "حول العقيدة الصحيحة" جرت كتابته في  حوالي 178 م بأن مريم "كانت قد أصبحت حاملة من قبل جندي روماني اسمه" فانثيرا"  "Panthera" وأنها طردت من قبل زوجها كزانية(3) .

كان هذا التفكير يراوده،ولذلك كان يشك في "أوكتافيا" وعندما سألها يوماً" هل يضاجعك سيدك الصقلي" [ص105] كان هذا السؤال يتضمن بالنسبة له مشروعية قيمة ودينية لأن في نظره أن المزاعم العقلية الدينية لا يمكن أن تسطع بهذا البريق إلا بالربط بين هذه الفلسفة التجريبية الحياتية، لأن مبدأ الشك يراوده، وهيبا ليس رجل دين ولا قس إنما رجل دنيوي، بدليل كان شكه "بمرتا الطفلة الجميلة التي احبته،  وهي الشبيهة "بلوليتا نابكوف" وكان هيبا يشك بمرتا لأنه كان يشك بسلوك مرتا رغم هذا فقد تعلّق بها" هل ذهبت يا مرتا لخيمة هذا الرجل ليلة غنيت له؟" [ص303] كانت هذه الأفكار من الشك تراوده دائماً لأنه غير مستقر سيكولوجياً، ورجل الدين عندما لا يستقر سيكولوجيا، ويراوده الشك دائماً هو ليس برجل دين بل أنه  رجل دنيا.

"ارجوك يا هيبا  لا تظلمني، فالظلم قاسٍ وقد عانيت في حياتي، الكثير من قسوته" [303]، وهكذا انتقلت  عملية الشك حتى مع الرعشة الجنسية، فالرعشة الجنسية التي عاناها هيبا مع "اوكتافيا" قبل عشرين عاماً في قبو النبيذ عندما جامعها وقوفاً والارتجافة الحالية مع "مرتا" عندما جامعها الآن يقول: "إرتجافة مرتا كانت أحلى وأدل على  الارتواء" [ص310] .

كانت مرتا تغني أغاني "القوقيون" وهي أغنيات وقورة، الغريب في الأمر أن "عزازيل" لم  يفارق هيبا"كان يستعطفني بنداء باطني عميق : لا  تفقد مرتا، مثلما فقدت أوكتافيا قبل عشرين عاماً" [ص334] .

هذا يعني أن هيبا كان أكثر شيطنة من  شيطانه"عزازيل" فهو يشك في كل النساء وقد ذهبت مرتا إلى حلب لتغني "اي اضطرار حدا بها للرحيل، والحمّى تفتك بي؟" [ص365] وكان لوصايا "السَّقاء الاعرج" وقع مهم بالنسبة إلى هيبا وهو يعبر صحراء سيناء:

 

الوصايا:

1. لا تدع البحر يغيب عن عينيك.

2. لا تدخل جوف سيناء لأي سبب وإلا فلن تخرج منه أبداً.

3. وابحث عن حمارٍ تركبه، فهذه الصحراء لا يمكن عبورها مشيا[ص169].

كان مقتل هيباتيا في الاسكندرية، وكيف سحل الاستاذة بطرس ومن كان معه من المتطرفين المسيحيين، بعد أن جروُّرها، وقد تقشّر جلدها عن  لحمها حتى اضرموافيها النار عند اطلال المدرسة العلمية.

كان هذا المشهد المروّع بقي عالق في ذهن هيبا مثلما علقت الرعشة الجنسية مع "اوكتافيا قبل عشرين عاماً ومرتا لكنه كان  يقارن بين الرعشتين الجنسيتين عند الأثنين " اوكتافيا ومرتا" كان يقول" إرتجافة مرتا كانت أحلى وأدل على الارتواء" [ص310] كان هيبا لا يهجر العالم ولا يغيب ولا يرتاح، فهو قلق دائماً فكان هيبا معجب "بخريطون" وهو رجل دين يحب نفسه مثل هيبا، وكان نسطور يقول إلى هيبا " نحن نؤمن بقلوبنا ونقرّ بالمعجزة الربانية ثم نعمل عقولنا لنرتقي بالإنسان إلى حيث أراد الرب. ونحن نؤمن بأن المعجزة لا تكون معجزة إلا وقعت على سبيل الندرة، وإلا فإن تكرارها وتواليها سوف يخرجها من باب المعجزات"[ص183] .

كان حزيطون وهو راهب معتكف في أحد الكهوف في صحراء سيناء وعند لقاء هيبا به كان قد تأثر به، وكان حزيطون يقلد المعجزات في يسوع المسيح وليس هو معجزة وكان نسطور يرد على أسئلة هيبا: "لقد تجسّد الرب مرّةً في يسوع المسيح ليرسم الطريق للإنسانية من بعد ذلك للابد . فلا ينبغي لنا العيش في المعجزة ذاتها، وإنما في الطريق الذي رسمته وإلا فقدت معناها" [ص183] فكان هيبا يجد غرضاً إعتباطياً في تفسير سلوك خريطون الذي لا يمت للمسيحية بصلة وهيبا متأثر به لأنه يناغي حالته الذاتية الشكيّة الدنيوية وفي النهاية يخضع  هيبا إلى القانون الإلهي بعد أن  " غاب عزازيل بداخلي وسكت فغمرتني رائحة شعرتُ بعدها بالفراغ  يلُّغني ..بعد حين توسدت فراغي، ونمتُ في نومي" [ص366].

إن التطور التأملي في رواية "عزازيل" والذي يثير الفهم الجذري للسرد من خلال التأمل للمفهوم المحض للدين وقضية اللاهوت وصلته بقضية الحدس المحض عند البطل هيبا  كما في الشروط التجريبية الممكنة فيما يحصل داخل المعترك السردي، وما يترشح من إستنتاجات تبين كيف ما يحصل من مفاهيم تجريبية في السرد تعود إلى المعرفة الاطلاقية التي تحدد موضوعها بالصرامة النموذجية في البناء الأسلوبي الذي يشبه في تراتبيته موضوعة السرد ومفهوم المبنى السردي في حكاية هيبا وعلاقته الملتبسة مع عزازيل.

وقد يتحدد من  خلال هذا التماثل السردي هو تحقيق شكل من أشكال التحصيل الحاصل من خصوصية ما صار الاعتماد على المنطق الاستعمالي للسرد لأنه أكثر تحديداً من خواص المعنى في هذه الرواية، فكان الروائي يتأمل المنطق السردي في علاقته بالزمكان ويُقرن هذه القضية بفكرة الصوت السردي الآخر الذي يغيب فيه النص الروائي ويتلاشى داخل ملحمة اللاهوت أو الدراما الذاتية اللاهوتية التي تخصصت بالمروى من الأحداث.

وجوهر الموضوع السردي في هذه الرواية هو الاشتراع اللاهوتي والشخصية التي تروي الحدث وهذا ينقلنا إلى السرد الشفهي في معنى الخواص في منطق الرواية، ولولا هذا السرد "الرقمي" الذي أضاف الحميمية واللّذة لمتابعة شخصيات هذه الرواية وفي مقدمها هيبا عزازيل.

إن عزازيل مرافق أبدي لرجال الدين، وإلا ما معنى وجود عزازيل"في حياتي منذ هروبي من قرية أبي حتى رحيلي عن هنا"[ص367] " وها هو الرَّق الاخير، مايزال معظمه خالياً من الكتابة ولسوف أترك هذه المساحة ليضاء، فربما يأتي بعدي من يملؤها."[ص368]

 

بقلم: علاء هاشم مناف

................

( 1) الرواية، ص11.

(2 ) كريستوف بوميان، نظام الزمان، ترجمة:أ.د. بدر الدين عرودكي، مركز دراسات الوحدة العربية، طبعة أولى، بيروت، 2009، ص59

(3 ) جيمس، د. طابور، سلالة يسوع، ترجمة: أ.د. سهيل زكار، دار قتيبة ، دمشق، طبعة أولى، 2008، ص85.

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم