صحيفة المثقف

عبد الجبار الرفاعي: استغلال الأيديولوجيا للدين.. حوار مع الصديق د. فالح مهدي في مراجعته النقدية لكتابي"الدين والظمأ الأنطولوجي"

abduljabar alrifaiكتب الصديقُ د. فالح مهدي مراجعةً نقديةً لكتابي "الدين والظمأ الأنطولوجي" من منظور مختلف عن المنظور الذي أتبناه في كتابي هذا. فكتبت له: كتابتك اعتز بها، ذلك أنها كانت أقرب للمنهج الغربي الحديث في البحث والنقد العلمي، وهو منهج يفتقر اليه الكثير من الكتابات في شرقنا العربي، التي تبتعد عن النص، وتنشغل بالكاتب أحياناً، وتنزع للمدح والثناء أو الذم والهجاء.

كل كتابة تكشف لي ثغرات كتابتي، وتحيل الى مرجعيات غير مرجعياتي، وتحاكم أفكاري من منظور مختلف، تمنحني فرصة لمراجعة مرجعياتي، وفحص أفكاري، وترشدني لنقد وثوقياتي ومنطقي في التفكير والتعبير.

 أكرر امتناني لحضرتك، لأنك حرّضت عقلي على التفكير في الايمان خارج الايمان، والتفكير في الدين خارج الدين، والتفكير في التدين خارج التدين، والتفكير في التراث خارج التراث، والتفكير في أفكاري خارج أفكاري.

 لا أزعم أني نجحت في التحرر من ذاتي، ذلك ألا تفكير خارج الذات، كل تفكير يلتبس بـ"الذات". تداخل تفكيرنا بذواتنا حتمي، يصعب علي الفرار من أحكامي المسبقة القابعة في أعماق عقلي، ويتعذر علي فهم العالم خارج رؤيتي للعالم التي تشكلت في سياق تربيتي وبيئتي وثقافتي وديانتي، ويشق عليّ التفكير بأفكاري خارج أفكاري المترسبة في ذهني والمولودة في فضاء دراستي وتدريسي ومطالعاتي وخبرات حياتي، ويصعب عليّ عبور آفاق انتظاري.

 أود عاجلاً توضيح مايلي:

1. كتاب "الدين والظمأ الأنطولوجي" يشدو لحنَه الخاص، خطيئتُه أنه لم يكرّر الأصوات المكررة في أدبيات الجماعات الاسلامية، أو غيرها من أدبيات الجماعات اليسارية والقومية، التي يغرق المجالُ العام في مجتمعاتنا في شعاراتها ومقولاتها ودعواتها وأحلامها وأوهامها، منذ أكثر من قرن. 

"غيرُ الاسلاميين" من بعض القراء أزعجهم دفاعي الشديد عن الايمان والدين والوحي والنبي الكريم "ص"، ودعوتي لتدين ينشد إغناءَ الروح والأخلاق. كذلك أزعج بعضَهم اكتشافُهم  أني كائن روحاني أخلاقي ميتافيزيقي مؤمن، وامتعض البعض الآخر من تمسكي بالصلاة والفرائض العبادية وتديني التقليدي، إذ فوجئوا بأني مازلت حتى اليوم وسأبقي ألجأ لطقوس تدين أمي.

كما أن معظمَ الاسلاميين أزعجهم ايماني وتفكيري الحرّ، ونقدي لإحراقهم الدين في عربة الأيديولوجيا والصراعات على السلطة والمال والنفوذ.

 لا أستطيع حين أكتب أنْ أُزيّفَ تفكيري، أو أكذب، أو أتملق أحداً. لا قيمةَ لكتابة تتملق القراء. ما قيمة صوتي حين يصبح صدى ببغاء تكرّر أصواتاً لا تفقهها. الكتابة هي الكاتب، كلُّ كاتب أصيل يكتب ذاتَه، وينسج من ألوان حروفه لوحةً تحيل إلى: مسبقاته ومعتقداته وفكره وأفق انتظاره وأحلامه.

2. الدين في مفهومي يمكن أن تستغله الأيديولوجيا فينقلب إلى سم يدمّر الحياة، ويحطم الحضارة والتمدن البشري، مثلما تستثمره بعض الجماعات الدينية اليوم. ويمكن أن يكون الدين مفارقاً للأيديولوجيا، كما هو دين أمي وأمك ودين أبي وأبيك، ودين الحلاج وأبو اليزيد البسطامي وجلال الدين الرومي وايكهارت والدالاي لاما ... الخ. فيكون عذباً خلّاقاً، يمنح الحياةَ معناها، وطاقتَها الحيوية الايجابية، عبر تكريس الحياة الروحية، وإثراء الحياة الأخلاقية.

ربما لا تستطيع أنت تذوق حالات الروح وفضاء إشراقها وتجربة تساميها عبر وصالها بالحق خارج سياق الأيديولوجيا، ذلك أن تذوق الحالات لا طريق له سوى القلب، وما كان طريقُه القلب يضل العقلُ الطريقَ اليه غالباً.

علماً أن اختزال الكائن البشري في العقل ينطوي على تبسيط تكذبه علوم الانسان في القرن الأخير، وأنت تعرف جيداً المواقفَ النقدية الجذرية لعلم النفس التحليلي، وفلاسفة ومفكري "معهد العلوم الاجتماعية في فرانكفورت"، وغيرهم من فلاسفة ومفكري فرنسا في القرن العشرين، لمنطق العقل الوضعي، وفضحهم العقل الأداتي، الذي يتجاهل اللاشعور والمتخيل والأسطورة والرمز، ويتعاطى مع الانسان بوصفه كائناً يسيّره العقل فقط.

لقد أوضح فلاسفةُ ومفكرو الغرب في القرن العشرين أن كارل ماركس الذي فضح تزييفَ الأيديولوجيا للوعي البشري في كتاب (الأيديولوجية الألمانية) وغيره من آثاره، لم تتحرر كتاباتُه من بصمة أيديولوجية، بل

كانت آثارُه هي أيضاً ضحية استغلال أيديولوجي، واكبنا تطبيقاتِه على المجتمعات البشرية في سنوات طويلة من القرن العشرين، وبرر ستالين، وجماعة "الثورة الثقافية" في الصين، وبول بوت في كمبوديا ، في سياقه  ذلك المنطق الأيديولوجي كلَّ انتهاكات الكرامة البشرية، والمجازر الوحشية التي ارتكبوها.

3. "معنى المعنى" ما أقصده منه هو ذروة المعنى، أو كثافة المعنى، وهو أبعد مدى من المعنى، وأعمق منه. ويمكن أن نتعرف على "معنى المعنى" في آثار الكثير من الفلاسفة واللاهوتيين الذين تناولوا تعبيرات المعنى في اللغة والدلالة والعلامة والاشارة والرمز، وتجلياته في العقل والروح والعاطفة. وفي مطالعة كتابات شلاير ماخر ودلتاي ونيتشه وهوسرل وهيدغر وغادامير وبولتمان وتيليش وريكور ورولان بارت وأمبرتو ايكو وغيرهم ما يضيء ذلك. كذلك يمكننا اكتشاف معنى المعنى في آثار فلاسفة الاشراق والحكمة المتعالية، ونصوص التصوف والعرفان.

4. لو بطل التعميم تبطل العلوم، العلوم تنشد التعميم والارتقاء من الجزئي إلى الكلي، ومن الجزء إلى الكل، ومن الخاص إلى العام. لو بطل التعميم لاندثر التقدم في كل معارف وفنون وخبرات ومهارات البشر، ولم تتطور ويهتدي الانسان من خلالها كل يوم لاكتشاف القوانين العامة للطبيعة، وسنن النفس والمجتمع.

حين يتعطل منطق التعميم لا تتعطل علوم الطبيعة فحسب، بل علوم النفس والمجتمع. فلماذا يصبح حديثي عن الدين وتعبيراته، بوصفه ظاهرة أصيلة عامة كلية مشتركة في الحياة البشرية، ليس دقيقاً.

5. اشارتكم إلى عدم تمييز الكتاب بين (الذات الفردية) و(الهوية المجتمعية)، إذ أشرتم بقولكم: (في تقديري إن الذات والتي بطبيعتها شخصية ليست الهوية التي أطلق عليها الرفاعي"شخصية"...). والذي ورد في سياق تعليق على حديثي عن "الأنا الشخصية"، وبيان أني أعني بها: (الذات الفردية والهوية الشخصية، والتي هي قوام الحياة الباطنية للكائن البشري. فمن دونها يفتقد كل انسان ذاته، ويصير نسخة مكررة متطابقة مع نموذج محدد مصاغ سلفاً).

من الواضح أن (الهوية) لا ترادف (الذات). سياق الحديث يدل على أني استعملت الهوية هنا وفي هذا المورد فقط بمعناها اللغوي لا الاصطلاحي، لذلك خصصتها بأني أعني بها (الذات الفردية والهوية الشخصية) بغية تفسير ما أقصده. وماورد في الفصل الأول من الكتاب يؤشر بوضوح في عباراتي للتمييز الذي أقمته بين الذات الخاصة (الأنا)، والـ(هوية) المجتمعية.كما تشي بذلك هذه النماذج من عبارتي: (فائضُ هويتي يسجنُ ذاتي، ويصادرُ حريتي .. أنا لست أنا، يفرض علي انتمائي لهويتي ألا أكون أنا؛ كي تتطابق صورتي مع ما تنشده هويتي). 

  6. نقدكم لكتابي (الدين والظمأ الأنطولوجي) يستقي من رؤيتكم للعالم، وللدين أيضاً، بوصف الدين كما ترون منتجاً بشرياً، وهي رؤية أحترمها، وإن كنت لا أتبناها. لا أنكر أن فهم وتأويلات وتمثلات الدين بشرية.

 رؤيتكم للعالم والدين من الطبيعي أن تختلف عن رؤية للعالم وللدين لمؤمن لا يشرق قلبُه إلاّ بحب الله وتجليات جماله، كما هو (أنا)، إذ إني أتذوق تجليات جمال الله في كل شئ، ولا أستطيع تذوقها إلاّ عبر تديني وايماني. هذه الرؤية خلاصة عمر تجاوز الستين عاماً، تكرس في دراسة الدين والعلوم الاسلامية والانسانية، وتجربة حياتية لنمط ايمان وتدين اقترن بسياحة وأسفار مزمنة لكائن لن يكفّ شغفُه الأبدي عن متعة أسفار الروح والقلب والعقل، متعة الطريق لدى هذا الكائن على الدوام تنسيه متعةَ الوصول، إنه لن يبلغ محطةً إلاّ ليرحل منها إلى ما هو أعلى وأثرى منها، وهكذا. إنها أسفار لن تبلغ مدياتها النهائية مهما امتد به العمر، ذلك أنها مسكونة بغبطة السير التي تشغلها عن الوصول.

 هذه هي خلاصة شديدة لتجربتي الدينية التي أعيشها، ورؤيتي للعالم، وفهمي للايمان والدين، والتي لا أنشد فرضَها على أي كائن بشري في هذا العالم، ولا أحسب أنها خشبة الخلاص الحصرية لكل البشر.

 

د. عبدالجبار الرفاعي

...........................

 

منهجية عبد الجبار الرفاعي

د. فالح مهدي

 لقد كتب الكثير عن عبد الجبار الرفاعي، وهو يستحق دون ريب عبارات الثناء والتقدير التي وردت في كل تلك الكتابات. لم تكن تلك الكتابات بدافع الإطراء والمديح لذلك الرجل الدمث الأخلاق، المفكر الذي ينزع إلى أنسنة الدين، إنما كانت تتلاقى مع أطروحات الكتاب.

 في قراءتي هذه سأغرد منفرداً، اعتمادا على منهجي الذي يدرس الظاهرة الدينية في ضوء المكان. من المؤكد هو أنني لم أقرأ كل ما كتب عن عبد الجبار الرفاعي، إنما وفي ضوء ما كتبه عنه أصدقاؤه تلامذته ومريدوه، وفي ضوء ما قرأت من نقد ومراجعات لعمله.

 يضعنا عبد الجبار الرفاعي من البداية ودون مواربة أمام إشكالية الكتاب الأساسية، والمتمثلة بالفقر الوجودي لعالم لا دين فيه. ففي الصفحة 6 يذهب إلى الآتي: "الفقر الوجودي حقيقة يتفق عليها الكثير من الفلاسفة والمتصوّفة والعرفاء، لكن ربما يقال : لماذا الدين هو سلّم  الكمال لا غيره ؟..". ويستمر في طرح الأسئلة. وفي تلك الفقرة نفسها يتساءل عن دور الفنون والآداب في الحد من ذلك الظمأ، ويشير إلى أن المعرفة والشوق إلى الإبداع ذات أهمية قصوى لكي يحس الكائن الحي أن لوجوده معنى.

  وفي ضوء ثقافته وسعة أفقه لم ينكر أن لكل ذلك أثرا في إغناء الوجود الإنساني، إنما وفي تلك الصفحة نفسها يؤكد: "لكن ذلك كله أيضا لا يغنيه عن الحاجة إلى الدين، ولا يكون بديلاً عن الدين، وإن قدّم له شيئا مهما يهبه الدين ...".  

 كما أشرت ليس من أخلاق عبد الجبار الرفاعي المخاتلة واللعب بالكلمات، فهو أمين أشدّ الأمانة إلى ما يعتقد أنه صحيح. لذا فإن جوهر كتابه مع تعدد مقالته يصب في الدفاع عن الفكرة القائلة: ليس هناك من حياة تستحق العيش دون إيمان ودون دين.

تلك المقولة تجد صداها وجوهر وجودها في الحيز العمودي، ذلك أن الدين بوصفه مفهوما وفهما للكون، تفسيرا وتأويلا وأيديولوجيا، طقوسا ومعابد، من نتاج ذلك الحيز. أما الحيز الأفقي فهو فقير في إنتاج عقائد ماورائية. ما موجود من عقائد وأديان في العالم المعاصر هي من بنات الحيز العمودي.

عبّر الكاتب بأمانة عن ثقافة ذلك الحيز الذي هو جزء منه. لذا فإننا لن نجد صعوبة في فهم عبارة: الدين سلّم الكمال، ولا يمكننا أن نتخيل أمراً آخر في ضوء ثقافة المكان التي أنتجت الدين.

 ثقافة عبد الجبار الرفاعي الواسعة والمنفتحة على كل النوافذ، لم تمنعه عند الكلام عن الإنسان، من اللجوء إلى التعميم، إذ نجد في الصفحة 8 ما يلي: (الإنسان  يبحث عمّا يتجاوز الوقوف عند سطوح الأشياء والاكتفاء بظواهرها ... انه يفتش على الدوام عمّا هو أبعد مدى ... إنه في توق لاكتشاف "معنى المعنى" ...)!

عن أي إنسان يتحدث عبد الجبار الرفاعي هنا؟  فهو لم يأتِ الى هذه الدنيا يوم أمس، بل إن تجربته في الحياة، وفقر حال والديه وضعه أمام سكتين، إما أن ينتقم من ذلك الماضي، ويتحول إلى كائن رخيص، أو أن يترفع عن كل ذلك. ودون تردد اختار السير على السكة الثانية، حيث تجد في سلوكه حبه للإنسانية، ترفّعه، موضوعيته، وقدرته الهائلة على التسامح والتسامي. إنه على دراية من أن عبارة إنسان تضم تحت جناحيها مشارب، واتجاهات، ميول ومواقف، أذواق وحساسيات .. الخ ، بيد أنه لم يتوانَ من استخدامها بمعناها المطلق.

عندما تلتقي به يذهلك حكمه على من يعرفهم، دون أن يتخلى ولو لهنيهة عن موضوعيته ورقته، فيقول: إن فلانا متمكن بيد أنه وعر في سلوكه، وإن فلانا مع أن الدنيا فتحت له أبوابها إنما بقى يعاني من عقدة نقص الأقليات... الخ.

 استعماله لمفردة "إنسان" وعلى ذلك النحو غير دقيقة في تقديري، لا اجتماعيا ولا انثروبولوجياً، ولا ثقافيا ولا نفسيا. عبد الجبار الرفاعي على دراية بأن الناس مشارب واتجاهات، وليسوا سواسية كأسنان المشط: لا في سلوكياتهم، ولا في ردود أفعالهم، واندفاعاتهم، ورهافة حسهم، وتألق ضمائرهم، واستعدادهم لبيع أنفسهم...الخ.

لوم يكتفِ بذلك، بل ذهب الى مقولة متمثلة بشوق ذلك الإنسان الى البحث عن معنى المعنى! لا اعرف ماذا يعني الرفاعي بمعنى المعنى، ذلك أن البحث عن المعنى لوحده أمر شاق من الناحية المنهجية، فما بالك بمعنى المعنى؟

منهجه ذاك أدى به إلى إيجاد مصطلح أطلق عليه "الأنا الخاصة"،إذ يبدأ القسم الأول من كتابه بتعريف تلك الذات، وفي ضوء منطقه وعقلانيته، يقوم بتعريفها على النحو الآتي: "وإنّما نريد بها الذات الفردية والهوية الشخصية والتي هي قوام الحياة الباطنية للكائن البشري. فمن دونها يفتقد كل انسان ذاته ويصير نسخة مكررة متطابقة مع نموذج محدد مصاغ سلفاً..." ص 15 .

   في تقديري إن الذات والتي بطبيعتها شخصية ليست الهوية التي أطلق عليها الرفاعي "شخصية"، ذلك أن مفهوم الإنسان عن نفسه يبدأ وينمو ويتفاعل وينضج في ضوء تجاربه ومراراته وخيبات أمله، أو إحساسه المرضي والنرجسي المتمثل بتضخم تلك الذات. هذا الشعور ينبع من إدراك الفرد لوجوده وكينونته. البعض يعرّف الذات بوصفها إناءً يستقر فيه الوعي أو الشعور والاستجابات  لخبرات وتجارب تنطوي على ألم وسرور. عملية التفاعل تبدأ عندما يقوم المرء بوعي تلك الذات كموضوع، أي إدراكه لنفسه بنفسه وتقييمه لها، أو الفكرة التي يكوّنها الفرد عن نفسه.

 أما الهوية، فهي كموضوع مستقلة عن الذات ومرتبطة بالثقافة والمكان، التاريخ والجغرافية، التقاليد والعادات. وتعرّف بوصفها مجموعة القيم والمثل والمبادئ التي تقوم عليها الشخصية الفردية والجماعية. فبدون هوية لا يستقيم أمر الذات، إذ إن هناك علاقة ديالكتيكية بين المفهومين ولا يقوم أحدهما دون الأخر. هوية الفرد هي لغته وثقافته وتاريخه. الهوية مرتبطة على نحو لا فكاك منه بمفهوم الثقافة.

ولا يغفل الكاتب هذا المفهوم، فيبذل جهداً واضحاً لتطويره، فنجده يقول في الصفحة 16 "لا تبدأ الحياة الإنسانية الحقيقية إلا عندما تتحقق وتوجد الذات الشخصية، وهذه الذات لا تتحقق من دون فعل ... الذات البشرية وجودها وصيرورتها الحرية، وحيث لا حرية تنطفئ الذات ...".

 وقبل الحديث عن الحرية، تنبغي الإشارة إلى أن الذات البشرية لا تتحقق دون أن يكون لها وجود، لذا فالأصوب هو أن الحياة الإنسانية لا تبدأ إلا عند وجود تلك الذات أولاً وتحققها ثانياً.

لا يكتفِ عبد الجبار الرفاعي بذلك، بل ربط ما بين الذات والحرية وتوصل إلى نتيجة مفادها  "وحيث لا حرية تنطفئ تلك الذات". إذا أخذنا تلك المقولة العميقة على نحو مطلق، نجد أنها سليمة. بيد إننا أمام كاتب مؤمن، وهو يعلم قبل غيره أن الإيمان والدين، لاسيما في الأديان التي لم تخرج من ماضيها ولم تقم بقراءة جادة ونقدية لكثير من الطقوس والمفاهيم، يحدّ من تلك الحرية.

  الكاتب يصّر على مسألة الشعائر والطقوس، إذ يذهب في الصفحة 73 إلى الآتي: "لا يتكرس الاعتقاد، وينتج الإيمان، من دون العبادة والطقس الخاص بهذا الدين. ليس هناك اعتقاد، وإيمان منبثق عنه، من دون تقليد محدد للعبادة. لا إيمان بلا حدود وعبادات وشعائر وسنن مرسومة. لا إيمان إسلامياً بلا صلاة إسلامية ... ".

في هذه النقطة بالذات، أختلف كلياً مع عبد الجبار الرفاعي، في قناعاتي أن الدين منتج من المنتجات الأساسية للحيز الدائري. الطقس فعل إيديولوجي، فرضته العقلية الدائرية، قائم على المقايضة "أعطني لأعطيك". ولو نظرنا الى ثقافة عصر الصيد والعصر الزراعي والذي لا زال قائماً، نجد أن مفهوم المقايضة جليّ ومن الأسس الجوهرية لمفهوم الدين والإيمان، ففي كتابي القادم: البحث عن جذور الإله الواحد، نقد الأيديولوجية الدينية، دراسة عن هذا المفهوم.

 عبر مفاهيم الطقوس والصلوات يقوم عبد الجبار الرفاعي بإعادة بناء الإله الدائري. إله الكون لا يحتاج إلى طقوس وعبادات.

  الرفاعي على علم بأن التفكير يتوقف عن ممارسة نشاطه عندما تغلق الأسئلة المفتوحة، وهو على يقين من انهيار  الايدولوجيا أمام تلك الأسئلة (راجع ص 122)، إلا إنه يعتبر الطقوس والصلوات فعلاً إيديولوجيا، بل من ماهية الدين وجوهره.

 ولإثبات وجهة نظره يخصص صفحات معظم هذا الكتاب للتفريق بين الدين والأيديولوجيا، ففي الصفحة 148 من الفصل المخصص لنقد شريعتي (103-150) نجده يقول: "إنّ ما أفضت إليه أدلجة الدين هي عبودية الإنسان للأيديولوجيا، واستلاب الأيديولوجيا لروحه وقلبه وعقله، وإقحامه في أحلام رومانسية ووعود خلاصية موهومة". لو كان الكلام متعلقا بالأيدلوجيات فحسب لأعلنت إعجابي بذلك الفهم المتميز، إلا أن الرفاعي يفرق بينها وبين الدين. في حين لا يستقيم أمر أي عقيدة في تقديري دون أدلجة وطقوس وعبادات في مجال الدين، مسيرات ودعايات، إعلام وثقافة، كبش فداء (الطقس ديني إلا أن الفاشية والنازية والستالينية حولته إلى طقس علماني وذلك بإيجاد أعداء وتشخيصهم ومن ثم تصفيتهم، وقد استخدم صدام حسين هذا السلاح على نحو مفرط).

لقد أصاب الرفاعي الهدفَ بتفكيك فكر شريعتي ونقد ما جاء فيه، ذلك أن شريعتي يفرق بين التشيّع العلوي والتشّيع الصفوي وهو مُصيب في ذلك، بيد أن تشّيعه لا يمكن له أن يقف على قدميه دون أيديولوجيا. كل ما كتب باسم هذا الرجل هو إيديولوجيا لا غير. وأكاد أن اكون على يقين من اتفاق الرفاعي معي في هذه النقطة بالذات.

الدين من دون إيديولوجيا لا يمكنه أن يستمر على قيد الحياة. الدين كما يؤكد الرفاعي نفسه معتقدات وطقوس وعبادات، وهذا يعني الخضوع لمشيئة رب أو أرباب تحيكها المخيلة الدينية.

الدين يولد إيديولوجيا، فهناك عقيدة (تتحول إلى كتاب)، وهناك رب مهمته الأولى إنقاذ من يؤمن به. في كل العقائد (توحيدية أم تعددية) يقوم الدين بصناعة أحلام رومانسية (ينسبها الرفاعي الى الأيديولوجيا)، ويقوم بنشر وعود خلاصية موهومة، إذ تنشئ تلك الأحلام والوعود من لحظة قيام ذلك الدين، أي لحظة التأسيس. البناء الأيديولوجي لا يبني صروحَه من دون لحظة التأسيس تلك.

كما ان الرفاعي يقيم علاقة بين الدين والأخلاق، مستندا في ذلك الى نفي الفيلسوف ايمانويل كانط "الاعتقاد النظري بالله، لكنه رأى الاعتقاد الأخلاقي به راسخاً لا يتزعزع" (ص170)،  ومن ثم يؤكد وفي تلك الصفحة نفسها "ان الأخلاق إنما تقود على نحو لابدّ منه على الدين ... الإنسان لا يتحلى بالأخلاق لأنه متدين ، انما يتدين لأنه اخلاقي".

لا اعلم كيف توصل الرفاعي إلى تلك الأحكام المطلقة! من أين جاءه اليقين من أن الإنسان يتدين لأنه إخلافي؟

عند التأمل ودراسة ما قام به عدد من أهم الباحثين في موضوع فلسفة القانون، توصلنا الى قناعة  بأن وجود الأخلاق أملته ضرورات العيش المشترك. وبما ان الإنسان كائن اجتماعي، لذلك أوجد عادات وتقاليد أصبحت ملزمة بمرور الزمن، كاحترام الآخر، رعاية اليتيم ، مساعدة الفقير، احترام الأبوين... الخ. هذه القواعد وغيرها كثير لم تنشأ بفضل الدين بل اقتضتها الضرورات الاجتماعية والعيش المشترك.

  كل ما فعله الدين هو أنه احتضن تلك المبادئ السامية. ولو عدنا الى قانون حمورابي مثلاً، بوصفه الأكثر كمالاً في قوانين العالم القديم، فسنجد أن حمورابي أوجد قانونه لأن ربه شمش طلب منه ذلك، إنما وعند التدقيق نجد أن حمورابي قام بتقنين ما وجد في قوانين السومريين قبله بمئات السنين. بل إن السومريين أنفسهم قاموا بصياغة ما اعتاد عليه القوم في تلك اللحظات من التاريخ الإنساني.

لا ادري إذا كان يعلم الصديق عبد الجبار الرفاعي من أن  أكثر من ثمانين بالمائة من السويديين لا يؤمنون بوجود إله خالق، ولا يؤمنون بأي دين، بيد أنهم من أكثر شعوب الأرض خلقاً!

اللحظة الانطولوجية أو الوجودية، تلك التي تتساءل عن جوهر الحياة الإنسانية وعن أصل الوجود، ولِمَ نحن هنا، والى أين سنذهب مثلاً، لا علاقة لها بالأخلاق البتة، بل بحساسية الإنسان ورهافة حسه، والى بيئته الثقافية، والى حيّزه الذي ولد وترعرع فيه.   

قبل أن أنهي ملاحظاتي هذه بودي الإشارة إلى أحد فصول الكتاب، الذي يأخذ بتلابيب النفس نتيجة صدقه وعفويته وعمقه، واقصد بذلك الفصل الثاني. فتحت عنوان "نسيان الإنسان" راجع الصفحات 29- 101، دعانا الرفاعي لتلك الرحلة الممتعة في ماضيه، في طفولته، في عذاباته، في فقر أهله، في موت أبيه المبكر. هذا الفصل يصلح أن يكون عملاً روائياً مستقلاً فهو ممتع للغاية.

وختاما لم يبقَ أمام الرفاعي في تقديري سوى هدم الأسوار التي بناها بين الدين والايدولوجيا، ليرى بأم عينيه أن ذلك التفريق هو الوهم بعينه.

 

د. فالح مهدي - مفكر وأكاديمي عراقي مقيم في باريس.

جريدة المدى، الصادرة في 17-7-2016.  

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم