صحيفة المثقف

رياض الاسدي: عالم الميناتورفي ميسان.. متابعة لاهثة لمجموعة: تحت شجرة الاكاسيا

ryad alasadiيدرك القارئ لشعر صلاح شلوان الحديث، ذلك العماري الحائز على لقب مكتشف الميناتور(*) في ميسان! تلك البراءة الشعرية في التعرف على لوحة الكائن العجيب، وسط خرائب المدينة التي تشبه قرية قروسطية مترامية الأطراف لا تشبه أثينا القديمة بشيء حتى. وسرّ هذا الجمال الواضح للغة الشلوانية الاختزالية وللصور الشعرية واختيار الثيمات لا يعود إلى الشاعر وتفرده وقدرته وطول تجربته؛ بل إلى "نهر الكحلاء" الخرافي الذي شرب منه حينما كان رائقا يفعل فعله في الإنسان العمايرجي قبل عصر الميناتور هذا، وقبل أن يجف دجلة هذا النمر القوي Tiger ونهر الكحلاء لتصبح مياهه آسنة ممجوجة: أووووه ميسان شقيقة بيسان! – ولاية الشاعر وعالمه الدفين منذ عصر (مملكة الليشن) المغمورة) ولادته الرسمية فيها عام 1955لكنه قبل ذلك التاريخ بآلاف السنين) وهي تعني في إحدى التفاسير التوراتية: المياه الآسنة ومهبط إبليس! - لكن صلاح يبقي صلاحا هارمونيا داخليا ووسيما أيضا (هذه الوسامة المأخوذة عنوة/ يغريها المزيد) (ص:51)؛ ولا ادري أية وسامة تبقى في عصر الميناتور حينما يطاردك ذلك البشري- الحيواني والحيواني- البشري برأس ثور حاملا فأسه الغليظة؟ كان الناس يفرون وصلاح شلوان يصرّ على المواجهة؟! أيّ فعل مجنون هذا في عصر التوحش؟ فلم تؤثر في ابن شلوان أسطرة التوراة وأمراض البيئة ولا حتى سياسات حروب المياه وإهمال الحكومات في القرن الحادي والعشرين حيث بدأ عصر الميناتور في بداية العقد السادس من القرن الماضي بإعلان مذابح كركوك والموصل في عام 1959 من القرن الماضي ولازال صراخ الميناتور مستمرا بعناد وتخريب للروح كبيرين مثلما هو تخريب منظم للطبيعة أيضا:

(لا جغرافيا لدينا

ولا صورة للقدم) (ص:26)

وكنت أتمنى لو وضع شلوان صورته- لتأكيد وسامته الطاغية في عصر الميناتور اللعين إلى جنب صورته هو على غلاف مجموعته الرائقة (تحت شجرة الاكاسيا: دمشق: دار الينابيع، 2009) لتكتشفوا جماله الخارجي قبل شعره ولتروا كم هي موحشة تلك السطور التي اختطها بعناية فائقة في مجموعته.

وتعد شجرة الاكاسيا التي تحتل مساحة كبيرة في الأدب العالمي -الروسي خاصة- من ذلك النوع من الأشجار شبه المعمرة وارفة الظلال صفراء تميل إلى لون الذهب من بعيد وحينما تزهر تسر الناظرين. فأشجار الاكاسيا أو (السنا- مكي) موطنها الشرق الأوسط عموما والجزيرة العربية خاصة، وهي من النباتات القديمة جدا المستخدمة في العلاجات الطبية حيث استخدمت في زمن الفراعنة وكانت تسمى في ذلك الزمن باسم "جنجنت" وقد وردت ضمن عدة وصفات فرعونية لعلاج بعض الأمراض في (البرديات) المصرية القديمة. كما كانت علاجاتها تستخدم على نطاق واسع في عهد الرسول محمد (ص)، حيث ورد ذكرها في عدة أحاديث نبوية تحت أسم شجرة السنا: هذا الأفق الذي طالما أفتقده الشاعر في رحلته تحت الاكاسيا حيث اخبره عبدالله المجنون.

(مالك يا بن شلوان تروح وتجيء

وعيناك في الأفق؟)(ص:44)

ولا أفق يلوح في الأفق فقد اختار صلاح شلوان شجرة واحدة فقط، وهي تكفيه بطبيعة الحال، ليسرح في طرح أسئلته وهو يرى الميناتور قريبا منه. ومن تحت شجرته الأكاسيوية - السنا مكية أطلق تساؤلاته الفلسفية ورؤاه الكونية وهمومه اليومية في ملحمة من الشظايا النارية الشعرية الحادة وغير المعنونة. فبدأ صلاح شظيته الأولى في الإهداء: إلى مجهول! حسنا فعلت أيها الرائق منذ البداية لأن مقتل أي نص أو مجموعة هو في الإهداء المجاني.. والمجاملي أحيانا وغير المبرر. أجل (إلى مجهول): بدءا من الجندي المجهول المحمول بلا بندقية الذي لازالت والدته تبحث عن أسمه في قوائم العائدين من حرب الميناتور بلا جدوى: تلك الجثة المسجاة تحت النصب الأزرق المفتوح كقبة مفلوقة كبيرة في بغداد ساحة الاحتفالات الميناتورية؛ مرورا بأولئك المغدورين القتلى في المقابر الجماعية الجديدة قبل وبعد 2003 من مجهولي الهوية وانتهاء بالمجهول الفلسفي الشلواني: هكذا هو الميناتور على أرضنا:

( .. سفاحنا الواطئ

الذي لا يريد أن يطور مديته الصدئة

البشعة ) (ص:38)

كتب جان بول سارتر ذات مرة أنه سوف يستمر في البحث عن السيدة الحقيقة حتى وإن كانت (لاشيء), واللاشيء هو المجهول في حياتنا والمعلوم في الوقت نفسه في تأملاتنا ولوعتنا وقلقنا من الانتقال إلى عالم آخر وربما لا يقل ميناتورية عن هذا العالم أيضا. فيلهج صلاح شلوان في محاولة تسطير اللوعات الفلسفية في عالم لم يبق للفلسفة والتأمل شيئا مهما بعد سيادة قيم العولمة والسلعية والمعرفة الإنتاجية التداولية. وابن شلوان هو الوريث الشرعي لذلك الكم الشعري الوجودي في نهاية القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين: ت.س.اليوت، ازرا باوند، ادونيس، محمود البريكان عبد الحسن الشذر جان دمو.. تعالوا إلى هذه الشظية الغريبة:

( في طريق مكفهر

ظل الجنود يتقدون ليالي على الجسر

مثل أكياس حطب عتيقة في العراء

ولا طائر أخضر يدنو منهم

ولا حبة من بعيد تذرّ) (ص:9)

يحتاج القارئ إلى إعادة النص مئات المرات لتفحص عوالمه المتداخلة في كلمات مختزلة قليلة لكنها تضرب جذورها في المجهولية: هذه المتضادات بين الاتقاد والحطب العتيق القابل للاشتعال. هم الجنود المجهولون العراقيون والعالميون من ذوي الفجيعة الكبرى، المنسيون كما هي كل حروبنا المجانية، الذين وهبوا دمهم رائقا لنا كي نعيش.. هذه الحياة المجانية بالموت ألشوارعي الآن؛ اوووووه يا اله شلوان أية حياة ميناتورية نعيش؟: لا طائر جنة أرضية اخضر يعزيهم .. بل لا يدنو منهم.. ولا حتى حبة واحدة تذر من بعيد لديمومة الحياة فيهم: هوووو أية فجيعة هذه تغسلنا منذ عام 1959: كانت حربا ضروسا منسية نتج عنها جنود (كاظميون) (جسريون) كثر لم يأخذوا حظهم من اهتمامنا: هكذا يزاح الستار عن لؤم المجهولية وغبائهاالتاريخي.

وشلوان لا يستطيع مواجهة مجهوله ومجهوليته الروحية برغم كل شجاعته ومحاولته التقرب من الميناتور لذلك هو يكتفي بذلك الكوخ الجبلي المنعزل -أحيانا- المغطى بالثلج حيث( وثمة من يبكي.. /ولم أره/ تحياتي إلى المجهول) المجهول من جديد الذي لا ينفك صلاح يرثيه كلما سنحت له سانحة. ومن هذا الذي يبكي غير الإنسان المتوحد في هذا المدنس التاريخي من الأسلاف: إنه يتوجس المجهولية الغريبة من خلال هذه اللوحة السريالية شعريا التي تختتم بالتحيات.. يا للتحيات السود الغارقة في السخرية من كلّ شيء وضدّ كلّ شيء.

فالمجهول لدى صلاح شلوان كائن قائم بحد؛ ذاته لكنه هو الذي يؤثر بقاءه على هذا النحو لحكمة لا نعرفها الآن؛ وقد لا ندركها في أي (وقت) قادم أيضا. حقا ثمة من يبكي دائما وسط هذه الحيرة الفوهة العجيبة الشافطة لنا جميعا في النهاية؟ والنهاية لدى الشعر تكون بداية أحيانا ولا نهائية كتصريحه العلني لولده: (فالصفر أبو الأشياء!) (ص:20) والصفر هو اللاشيء وهو اللانهاية وهو العدم( السواد) الذي تصدر عنه الخلائق كلها المادية والعضوية والطاقوية: يستلهم شلوان من الأخيرة معظم ثيماته. ولا تستخدم المفردات جزافا في شعر شلوان بل يجري تهذيبها وتوظيفها كي تؤدي مهمة التوصيل اللازمة. وهذا ما يميز الشاعر عن كثيرين من مجايليه ممن يرون في الإسفاف والهرولة الكلامية والركض أحيانا - بلا مراجعة مكثفة- يحيي نصا حديثا. ومن هنا فقد كثر أولئك (الشابطين) بالقطار الضوئي الحديث. لكن المتابعات الثقافية – غير المولودة دائما- تزيد من تكاثر هؤلاء كالفطر المسموم أيضا.

لكن شلوان منذ البداية يعلن عن رغبته في الفرار عن (أسلافه) بسبب سلسلة الفجائع التي ورثها عنهم ليسكن غربة روحية وقطيعة تاريخية مغبرة وهو يصرخ بنا: أية غربة هذه؟ وما هي بغربة مصطنعة بل هي متوطنة وطبيعية منذ الولادة في هذا الآتون: العالم: في علاقة (ما) بين طفل وأبيه في حلم والطفل نائم:

( : مع من تتكلم يا ولدي؟

: مع الله

: وماذا قال لك؟

: كل شيء على ما يرام.) (ص:10)

مطلقا، ليس ثمة (شيئا -واحدا- على ما يرام) في عالم ميناتوري ملؤه الفجيعة والخوض في ارض تهبط فيها عصافير فقدت سراجها جفلت؛ بيدأن أحلام الأطفال تبقى هي القائمة كما يحدد الفيلسوف السويسري (ياسبرز) في مقولته الخطيرة: تجد الحقيقة في عيون الأطفال دائما..أما عندما يكبر أولئك الأطفال ويخرجوا من عالم كلّ شيء على ما يرام؛ عندئذ تبدأ المأساة الإنسانية الميناتورية في أدق فصولها حيث تتلاشى الأحلام في عالم على ما يرام تماما لتبدأ رحلة اليأس من العالم على نحو مليء بالفجيعة والألم: ( لو مثل ومضة/ ونختفي) (ص:17)

لكن شلوان يريد منا أن نطور ذائقتنا التاريخية -هذه المرة- بإزاء عالم لا يرحم (أيها الميناتور/ ما أنت بالأسوأ حالة منا) (ص:38) هذا القاتل الأخاذ( بشر يحمل فأسا برأس ثور) فيوظفه الشاعر ليكون دليلا مضافا على وحشية العالم. لكن ميناتورنا الآن يستنهض روحه حيا فينا وهو يستخدم الأسلحة الحديثة من مسدسات وغيرها فيطلق النار مصوبا إلى جهة القلب: هذا الإبليس الجديد الذي يسكن مياهنا الآسنة في عصر الفاشست العراقي الأخير وعصر الفاشست الميناتوري العراقي الجديد! حيث يكون الموت مهنة للعديد من الميناتوريين المتلفعين ببرد جديدة ويضعون على وجوههم مساحيق كثيرة لم يسبق للعصافير البشرية المزحومة بالموت رؤيتها.وعندئذ سوف ينعق الغراب نعقته الأخيرة (- وحده- فوق الجيفة الهائلة)(ص:72) ليعلن خراب العالم الشلواني.

 

د. رياض الاسدي - اديب من العراق - البصرة

........................

(*) ميناتور: مينوس وتوروس: في الأساطير الإغريقية وحش نصفه كإنسان ونصفه الأخر ثور يعيش في المتاهة التي بناها ديدالوس لمينوس ملك كريت .كانوا يقدموا له قربان سنوي من سبعة شباب وسبع عذارى حتي قتله ثيذيوس ابن ملك أثينا . 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم