صحيفة المثقف

تحسين عباس: الاندماج الروحي بين ثلاثي الابداع سعدون وطالب والسياب، أغنية (غريب على الخليج) مثالاً

tahseen abasفي الوقت الذي يتعثَّرُ حبُّ الوطن على أرصفةِ دُعاةِ الوطنية والشرف لكثرة من ينادي، يا وطني، يا عراق ... يختالُكَ الاحتمالُ بين حُسْنِ الظنِّ وسُوءِ الظنِّ، فلا تَجِدُ بُدّاً الا أنْ ترتمي على سَواحل قصائد (السيّاب)،وهذا ما دَعاني لتقصي هذه القصائدَ وبالأخصّ المُغنّاة منها، فوجدتُ قصيدتَهُ (غريبٌ على الخليج) خيرُ مثالٍ يعكسُ الحالَ آنذاك ويُفصِحُ عن مَعنى التَجذّر في حُبِّ الوطنِ، والعلاقة الدائرة ما بين مثلث الشعر(الوطن، الأم، الحبيب) فتقع الأم هنا مصدر الحنان الأول الذي يتغذى منه الشاعر وهو الحلقة الرابطة بين الوطن والحبيبة،وقد ورد ذكر الأم في هذه القصيدة بشطرين فقط (هي وجه أمي في الظلام وصوتها، يتزلقان مع الرؤى حتى أنام) وقد حُذفَ الشطران من القصيدة المغناة واكتفى الاخراج بوجود لقطات معبرة في ذاكرة السياب عن أمّهِ، فأحياناً تُحذفُ مقاطعٌ من القصيدة بحسب رؤية الملحن أو المطرب أو كليهما، وهناك مقاطع تتحدث عن امرأة غائبة تصلحُ في المعنى للأم وللحبيبة أو لكيليهما، فنحن رأينا الشاعر ركّز على العلاقة القوية ما بين المرأة والوطن، فالحب بلا وطن، لا يمنحَ العناق الروحي والوصلَ والكنفَ الدافئ، والوطن الذي يخلو مِن الحُبّ، هو مكان مُظلمٌ لا نورَ فيه، فالمرأة والوطن هما : دليلُ الشاعر حين تحيطهُ الطُرقُ الوعرة والمُلمّات الصعبة والمحبطات، الفقر الطويل المهلك، الحرمان من حنان الأم، النشاط السياسي المتعثر، الشكل غير الجذاب، مرض العضال الذي حجبَهُ عن العمل، كلُّ هذه الضغوطات النفسية شكّلت حافزاً مهماً في جعلهِ شاعراً عاطفياً رقيقاً مترقرقاً، فالنصُ الذي بينَ أعينِنا، كشفَ عن معاناةِ الشاعر الطويلة في الاغتراب بالرغم من أنّهُ في دولةٍ شقيقة، فاللقاء بالحبيبة لا يحلو الا في أحضانِ الوطن، وأيّ لقاءٍ بفتاةٍ فاتنة بعيداً عن رُبوعِ الوطن العزيز، سيكونُ لقاءً عديمَ اللذةِ لا جَدوى فيه؛ وقدْ كُتبتْ مقالاتٌ نقدية كثيرة في هذه القصيدة وتمَّ فيها تناولُ أبعاداً اجتماعية وسياسية ونفسية، والجدير بالذكر، أنَّ هذهِ القصيدة قد غناها أكثر من مطربٍ وبمختلفِ الألحان والتنغيمات الجميلة لكني في قراءتي هذه، أخترتُ ما غناه المطرب الكبير سعدون جابر ولحَّنهُ الفنان الراحل طالب القرغلي لأنّي وجدتُ أنَّ الملحن الكبير طالب القرغلي كان الأقرب من غيرهِ في الوصول الى آلامِ (السياب) ومعاناتِهِ، فالمستمع يشعرُ بأنَّ الشاعر والملحن مندمجان في معنى الاغتراب وصراع المرض، فلم أعتمدْ في اختياري على التقنية التنغيمية (التكنيك) لأنَّ هناك من كانت تقنيةُ تنغيميهِ أعلى من هذه الأغنية من حيث كثرة الانتقالات النغمية وتنوع الايقاعات لكنَّه لم يستطعْ أخذ المستمع الى مداراتِ (السيّاب) العاطفية، فلعلَّ (القرغلي) استلهمَ في النص بساطةَ الانسان العاشق وصدقَ مشاعرهِ وهولَ آلامِهِ، وغيَّبَ عن نفسهِ عظمةَ شخصيةِ (السيّاب) الشعرية لكي يقتربَ أكثر من المعنى المنشود بلا تكلّف .

فعلى مائدة بدر شاكر السيّاب نفترش معكم أنغام طالب القرغلي وصوت سعدون جابر في أغنية (غريب على الخليج) . 

 

الفكرة:

اختار الفنان الكبير طالب القرغلي لكل مقطع شعري ما يناسبهُ من تنغيم، ففي الفالت الغنائي كان مقام الحجاز كار وفي المقطع الأول مقام الحجاز واستمرَّ الحجاز متسيداً في البناء الرئيسي بالرغم من دخول مقام البيات والصبا عليه ومسحة من الهزام، والسبب واضحٌ لأنَّ قوامَ ما تمَّ اختيارهُ من مقاطع شعرية كانت تدور معانيها حول الغربة والحيرة والفقدان وشدة الشوق والحرمان، فكلّ ما ذكرتُهُ هو عوامل مثيرة للحزن فكيف اذا اجتمعت في حالٍ واحدٍ ويصاحبُها الشعورُ بالمرض المُعضلِ آنذاك، فهنا كان تسيّدُ نغمِ الحجاز، للجمع ما بين كلِّ ما ذكرناه من معاناة وهندسة التنغيم، وهنا تكمن فلسفة البناء الموسيقي للأغنية .

 

التنغيم ( اللحن):

لم تكن هناك مقدمة موسيقية لهذا العمل، فقد يكون السبب، لأن قصائدَ السيّابِ المغناةَ في مسلسلِ السيّاب هي عبارة عن سيرة ذاتية للشاعر مع كونها عَملاً فنيّاً فلم تكنْ هناك ضرورةٌ مُلحِّة لوجود مقدمة موسيقية، فابتدأ التنغيم بمقدمة على شكلِ فالتٍ غنائي، وقد أُخْتيرَتِ الأصواتُ الجماعية (الكورس) لأنَّ الشاعرَ يتحدثُ عن نفسِهِ بصيغةِ الغائب ليكون هو، حديث الناس الذي تلهجُ به :

(جلسَ الغريب، يسرّح البصر المحيّر في الخليج

و يهدّ أعمدة الضياء بما يصعّد من نشيج)           

- صوت تفجّر في قرارة نفسي الثكلى : عراق -

 فجاءت هنا الاصوات الجماعية لتُمثلَ ما تقولهُ الناسُ عن هذا الغريبِ وتحكي عن حالِهِ الذي يعيشُهُ بين الغُربةِ والحَيرةِ، ولهذا جاءَ نغمُ (الحجاز كار) في مقطع الفالت الغنائي مطابقاً للمعنى الشعري، وبعد انتهاء الفالت الغنائي تبدأ مقدمة موسيقية قصيرة من نغم الحجاز على درجة الـــ (صول) للتمهيد للغناء المنفرد : 

 (كالمدّ يصعد، كالسحابة، كالدموع إلى العيون

الريح تصرخ بي عراق                       

والموج يعول بي عراق، عراق، ليس سوى عراق)

فيمتزجُ هنا الشوق والحنين بالحزن بموج نغم الحجاز الذي دائماً ما يجرُنا الموروثُ الشعبي اليه (دللوه يلولد يبني دللوه .....)، التهويدة المعروفة على لسان الأمّ حين تهوِّد ابنَها لينام بسلام.

يأتي المقطع الثاني مسبوقاً بمقطوعة موسيقية قصيرة على نفس النغم لكن على ايقاع الملفوف (2/4) وبتنغيم مختلفٍ عمّا هو في المقطع الأول، ليوحي الغناء في لحنهِ للمستمع باستمرارِ الحنين المتلفع بالآهات، فيدخل الغناء كي يثير الذاكرة التي رَسَمتْها معاني الشعر في هذا المقطع، حيث يتقلَّبُ الانتماءُ على أسرّةِ الشوق بين الوطن الذي لا يحصره المكان لأنَّهُ في الوجدان وبين الحبيبة ...، وهنا الحبيبة قد تكون كلَّ امرأةٍ مرّتْ في ذاكرة السيّاب وهذا ما حاولَ ايصالَهُ مخرج المسلسل حيث أظهر لقطات من الذاكرة مع عدّة نساء، فكان نداؤهُ للمفرد المؤنث بالعموم ؛ وبعد جملة الاستفهام (أفتذكرين؟ أ تذكرين؟) يتحول النغم من الحجاز الى البيات من نفس الدرجة بجملة نغمية توحي باستحصال السعادة عند الاستذكار.

(بالأمس حين مررت بالمقهى، سمعتك يا عراق

وكنت دورة أسطوانة

هي دورة الأفلاك من عمري، تكوّر لي زمانه

في لحظتين من الزمان، و إن تكن فقدت مكانه

أ فتذكرين؟ أتذكرين؟

سعداء كنا قانعين)

 وبعد هذا المقطع يأتي المقطع الأخير الذي يحتضن كل مشاعر السيّاب فيترجمها التنغيم بأبهى صورة يمكن لها أن تدرك معاني الانتماء التي أسسها الشاعر في القصيدة، فترجع الموسيقى بجملة قصيرة الى نغم الحجاز ليبتدئ الغناء بنفس النغم فيطوفُ بين حبِّ الوطن والحبيبة -الأم،المرأة- ففي هذا الشطر من المقطع تختلط كلُّ معاني الحبِّ فهو نداءٌ للوطن وللحبيبة معاً يسيرُ مع أمواج نغم الحجاز(أحببت فيكِ عراق روحي أو حببتُكِ أنتِ فيه)على ايقاع المقسوم 2/4 و(يا أنتما مصباح روحي) على ايقاع الوحدة الكبيرة (4/4) ونغم الحجاز ثم يكرّر (يا أنتما مصباحَ روحي) بآهات نغم الصبا من نفس الدرجة وبوزن الوحدة الكبيرة أيضاً، ثم يرجع الى وزن المقسوم(2/4) في (وأتى المساء و الليل أطبق، فلتشعّا في دُجاه فلا أتيه )، ويعود التنغيم في الشطر الرابع الى نغم الحجاز (لو جئتِ في البلدِ الغريبِ إليّ ما كَمُلَ اللقاء) ثمَّ تأتي لازمة موسيقية قصيرة ليتحوّل النغم الى الهزام على درجة الــ (مي كار) فتوحي الجملة النغمية الى ثبات القرار لأن هذا النغم –الهزام- كثيراً ما يستخدم في الأهازيج والافتخار فهو بالتالي ناتج من الثبات في القرار، فلا مكان يحتوي الشاعر سوى بلدهِ ولا لذةً بلقاء الحبيب الا في بلده العراق (الملتقى بكِ و العراقُ على يديّ .. هو اللقاء) فيختتم المقطع بعودة الى نغم الحجاز مُعلّقاً اياه على درجة التحرير الــ (دو) وليس على درجة الاستقرار الـ (صول) لتعلو صرخة السيّاب مدويةً (ليس سوى عراق) بعد جملته المشهورة (الشمسُ أجملُ في بلادي من سِواها، و الظلام حتى الظلام - هناك أجمل، فهو يحتضنُ العراق).

(أحببت فيكِ عراق روحي أو حببتكِ أنتِ فيه

يا أنتما - مصباح روحي أنتما - و أتى المساء

و الليل أطبق، فلتشعّا في دجاه فلا أتيه

لو جئتِ في البلدِ الغريبِ إليّ ما كَمُلَ اللقاء

الملتقى بكِ و العراقُ على يديّ .. هو اللقاء

الشمسُ أجملُ في بلادي من سِواها، و الظلام

حتى الظلام - هناك أجمل، فهو يحتضنُ العراق

ليس سوى عراق)

الغناء:

حقيقة وأنا أسمع صوت الكبير سعدون جابر كنت أعيش مع معاناة السيّاب فقد استطاع المطرب مع ما وفّرهُ له اللحن (التنغيم) أن يصل بنا الى فحوى ما كان يكابدُهُ الشاعرُ من ألم الفراق ووجع المرض المُعضل آنذاك، فكانت السمة الظاهرة من الصوت هو الحنين الممزوج بكل هذه الآهات، وهذا ما جسّدهُ الأداء الرائع للانتقالات النغمية والايقاعية التي وضعها الفنان الكبير طالب القرغلي .

 

التوزيع:

لعبت الكمانات دوراً جميلاً في السؤال والجواب الموسيقي بينها وبين الكورديون كما تخللت لوازم الموسيقى ضربات النقر على أوتار الكمان (البزي كاتو) واشترك الساكسفون في الفالت الغنائي لتعظيم ما يحمله موضوع القصيدة، هذا وما يمكن الاشادة له هو تنسيق صوت المطرب مع الموسيقى بشكل ملفت للنظر لأنّ صوت المطرب من الأصوات الناعمة التي تحتاج الى هندسة خاصة للصوت.

https://www.youtube.com/watch?v=tKHUpzxjF8w

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم