صحيفة المثقف

بكر السباتين: الفكر العربي والباب المغلق.. أطروحة مالك بن نبي في عهد الاستعمار الفرنسي للجزائر

bakir sabatinفي كتاب (مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي) يطرح المفكر الجزائري مالك بن نبي رؤيته التي قد تنسجم مع زمن الاستعمار الفرنسي لبلده الجزائر فيما سيعترضها واقع الحال المعاصر بطابعه الثقافي الفسيفسائي القائم على التثاقف وتبادل التجارب من أجل أفكار تلتقي لا تتنافر!

يقول مالك بين نبي:

"... الأمر الأدهى عندما نبدأ إحياء عالم الثقافة المحشو بالأفكار الميتة، بأفكارٍ قاتلةٍ مستوردةٍ من حضارة أخرى.

فهذه الأفكار التي أضحت قاتلة في محيطها، تصبح أكثر فتكاً حينما نستأصلها من ذلك المحيط، لأنها تترك بصفة عامة مع جذورها التي لا يمكن نقلها ترياقاً يتأقلم به ضررها في وسطها الأصلي.

وفي شروط كهذه يقتبس المجتمع الإسلامي المعاصر أفكاره الحديثة (التقدمية) من الحضارة الغربية"انتهى الاقتباس.

في الحقيقة لا توجد هناك أفكار ميتة بل جامدة لا تقبل الآخر وترفض الاختلاف. الموروث مثلاً حي في ذاكرة المجموعة التي تبنته ذات يوم ولا تميته الآراء التي تقاطعه لمجرد أنها تختلف معه. كما أن هناك ما يصطلح على تسمية هذا الموروث بخزان الأفكار الجامدة التي لا تقبل التطور وفق المعطيات الجديدة.. فيما أيضاً توجد أفكار تتبع الموروث على عواهنه دون تمحيص في تبعية مطلقه؛ وهذا في نظري جمود آخر!.

الأفكار الحية هي التي تستمر لأنها تتطور مع المستجدات فالهواء الذي يمر في الحدائق المعبقة بأريج الياسمين سيعلق فيه من أثره.. وهو ذاته إذا ما مر على أسطح المياه العادمة بالطبع سيفسد فيما لو اتفقنا على ماهية المياه العادمة لنجد بأن الحكم عليها نسبي! ولا ريب بأن الفكر كذلك لا بد من أن يعلق فيه من طبائع المتغيرات كي يتفاعل في بيئة ينسجم فيها مع المعطيات المكانية والزمانية ليتلاءم هذا الفكر الناتج من عملية التفاعل مع الواقع بحكم منطق الأشياء؛ لذلك انتبه الفقه الإسلامي إلى ذلك ففرض على الفقهاء مبدأ القياس والاجتهاد ليناسب كل العصور. أيضا وعلى سبيل المثال لا الحصر؛ التجربة الشعرية عند المتنبي بدأت متألقة بالصورة الشعرية الحسية لتتفجر ينابيع المعنى ويتحول الشعر إلى أنهار ترتوي منها بساتين الثقافة فيينع فيها الزرع؛ لكن المحسنات في القصيدة الشعرية الحديثة صارت تؤدي الغرض بالومضات السريعة المليئة بالصور الشعرية المتداخلة التي لا تعير اهتماماً لأدوات التشبيه بل تكتفي بالصورة التمثيلية لكي ينبلج المعنى كزهرة البلسمان في اليباب.

وللعلم فلا يوجد هناك ثقافة مستوردة بل تحول العالم في عصر السرعة والتقنيات الحديثة إلى مشهد ثقافي واحد.. متمازج السمات.. فسيفسائي حتى ذابت الثقافات في بوتقة تنتمي إلى الإنسان بشتى أصوله ومنابته في أرض تحولت إلى قرية صغير جداً.. فمثلاً السرديات في الموروث الثقافي العربي لم تحتو على فن كتابة القصة القصيرة أو الرواية وفق شروطها المألوفة، وعما تضمنته حكايات ألف ليلة وليلة، وحكاية كليلة ودمنة لعبدالله بن المقفع؛ فلا تتجاوز شروط الحكاية المباشرة البسيطة. لكن المشهد الثقافي العربي الحديث فقد تطرق إلى هذا النوع المتجدد من الفنون خلال التثاقف المنفتح إلى التجارب العالمية المستحدثة.

إذاً فالقضية تكمن في أين يوجد المعلم!! ففي الرواية كان الروسي تولستوي من أكبر الرواد كذلك دستوفسكي وتشيخوف.. ثم رومنسية الفرنسي فولبير.. وأصحاب الواقعية السحرية مثل الكولمبي ماركيز، كلهم كانوا معلمين عالميين لهذا النمط من الفنون.. وعربياً تبوأ نجيب محفوظ مكانته كمعلم فذ لمتلقين عرب تحول كثير منهم إلى قامات عربية إبداعية.

إن النظريات الفكرية تنبت تحت شمس الحرية والمعرفة المفتوحة على الآخر. من هنا كان باستطاعة المفكر الأمريكي من أصول عربية(فلسطيني) البروفسور إدوارد سعيد أن يجترح مصطلحه الأصيل فيما يعرف بالكوليانية الذي اعتمده مفكرو الغرب في تحليلاتهم للمواقف المنسجمة معه.. فيما تثاقف الغرب مع الموروث العربي الصوفي لابن عربي والحلاج وجلال الدين الرومي ليتأثر بها عمالقة في الشعر العالمي كالإسباني لوركا والروسي بوشكين.

إن قضية استئصال الفكرة ومن ثم تبنيها غير واردة لأن الفكرة التي تنبع في ثقافة ما سترتدي ثوبها الموشح بجماليات أي ثقافة أخرى تختلف عن حاضنتها الأولى.. مثلما حدث لنظريات ابن خلدون حينما تبناها الفكر الغربي لردح من الزمان؛ وقد طورها التجريبيون في سياقات تطبيقية لتنبلج عنها أفكار جديدة فتحول ابن خلدون من العلامات البارزة في الثقافة الإنسانية ولم يمت فكره ولكنه أيضاً لم يتحول إلى شيء مقدس لا يمكن الاستغناء عن كثير من نظرياته في علم الاجتماع الذي يعتبر هو المؤسس له.

لقد انتهى عصر قولبة الأفكار وسوف يتعثر كل فكر لا يتثاقف مع الآخر بينما سيتجمد الفكر الذي يرفضه؛ أو يقمعه بقسوة! لكنه أيضاً سيتحول إلى موروث فلا يموت. ففي سياق ما يراه مالك بن نبي يتحول الفكر إلى قولبة شنيعة لأنه يرفض الآخر ولا يستوعب المتغيرات. إلا إذا كان هذا المفكر الكبير يدعو إلى استهضام المعرفة المتاحة من معين الآخر لإنتاج فكر متغير. وهذا ما اعتقده في قامة فكرية كالمفكر الجزائرى مالك بن نبي أحد رُوّاد النهضة الفكرية الإسلامية في القرن العشرين. ويُمكن اعتباره امتدَادًا لابن خلدون، ويعد من أكثر المفكرين المعاصرين الذين نبّهوا إلى ضرورة العناية بمشكلات الحضارة.

كانت جهود مالك بن نبي في بناء الفكر الإسلامي الحديث وفي دراسة المشكلات الحضارية عموما متميزة، سواء من حيث المواضيع التي تناولها أو من حيث المناهج التي اعتمدها في ذلك.

وكان بن نبى أول باحث يُحاول أن يُحدّد أبعاد المشكلة، ويحدد العناصر الأساسية في الإصلاح، ويبتعد في البحث عن العوارض، وكان كذلك أول من أودع منهجًا مُحدّدا في بحث مشكلة المسلمين على أساس من علم النفس والاجتماع وسنة التاريخ. وهذه مناهج في البحث استقاها من الفكر الفرنسي واستفاد منها لتفعيل أفكاره في المجتمع الجزائري الذي كان يرزح تحت نير الاستعمار الفرنسي. ورغم ذلك فكونه مفكراً عاش في فرنسا التي ناضل ضدها من أجل تحرير وطنه الجزائر؛ إلا أنه كان يفكر وفق معطيات الاستحواذ الفرنسي على الثقافة الجزائرية لمسح هويتها العربية الإسلامية، فتكونت لديه عزيمة المقاومة للاستلاب والذوبان في المشروع الفرنسي الاستعماري القائم على طمس هوية الآخر. والنتيجة كانت أفكاراً أقامها صاحبها على منطق ردة الفعل!! فكانت رؤيته الفكرية الثاقبة مليئة بالانتباه لذلك كان قاسياً في مسالة التعاطي مع الفكر الغربي رغم أنه استفاد من تجارب ذلك الفكر الناضج في تقنيات ووسائل البحث التي أعان في التصدي للقضايا الكبيرة التي تعامل معها فكرياً.

هذا المفكر الذي يعتبر وريثاً لأفكار ابن خلدون لا يتنكر للمعرفة التي أخذها من معين الفكر الفرنسي حيث قضى ردحاً من الزمان يعمل هناك وتعلم من مفكريها مناهج البحث القائم على التحليل النفسي.. فالوسائل قد تطبق كاملة ولكن هل نتقبل النتائج لو اختلفت مع معاييرنا!؟ هذه مسالة أخرى تتعلق بمدى ثقتنا بأنفسنا وقدرتنا على العوم بكل الخبرات الذاتية وما تنقح به من معرفتنا بالآخر..

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم