صحيفة المثقف

بكر السباتين: زهرة الهايكو ونكهة الحياة.. صدور ديوان: بين ضفتين للشاعرة هدى حاجي

929-hudaلا بد ونحن غارقون في زحام المدن ويبابها من طلة خاطفة على حديقة النور، وربما وسط ما يكتنف الإنسان من ضغوطات حياتية، وفي عمق غابات الإسمنت والشرفات المتقابلة، يمكن للقارئ تنسم عبير أزاهير "الهايكو" مزروعة في أصص ملونة، توضع على الشرفات؛ كي يتأملها وهي تحاور زهرة النور، أو تتوارى في صمت المكان، فتتهادي على ألوانها فراشات الدهشة، ويغزل النحلُ من رحيقها القصيد.. تتبادل مع السنونو بهجة السفر والعودة بحكايات الفصول الأربعة وأسرار المعابد في قمم الجبال، والطيور التي تبني أعشاشها في قلوب الشعراء، لتلتهمها حدقات العيون المتربصة، أو ترتوي من ينابيع الروح وبحيرات الود لتلتقط من خدود اللحظة بريق دمعة تُبَرْعِمُها ، فيفوح شعرُ ""الهايكو""، وتتجلى الروح والنفس بطيبهِ المنعش

هذه النفحة جاءت من وحي المجموعة الشعرية الجديدة للشاعرة التونسية هدى حاجي الصادرة عن دار العين للنشر في القاهرة يونيو ٢٠١٦ تحت عنوان "بين ضفتين" والتي جاءت في قسمين:

الأول بعنوان "الهايكو"" بين ضفتين."

والثاني الذي ترجمه كاتب مقدمة المجموعة، نزار سرطاوي إلى الإنجليزية بعنوان:

.929-huda""الهايكو" بلسانيْن"

وقد استهلت الشاعرة مجموعتها بهذه الزهيرة الفواحة، قائلة:

"زهرة "الهايكو"

لا تحتاج التراب والماء

بريق دمعة يبرعمها"

ففي هذه النفحة المعطرة بأجمل الصور الشعرية، تختبئ كل الأزمات الحياتية في عمق اللحظة؛ لتمر الدهشة إلى عينيّ المتأمل فتنغلقان كعدسة التصوير، على صورة بهية تسجل في الذاكرة السطحية؛ كي يتزود هذا المُتْعَبُ (أو المتجلي) بطاقتها الإيجابية، في منطقة متوارية عن ضجيج الحياة، كأنها رحلة لحظية إلى سكون الطبيعة وأحضانها المحفوفة بالجمال والخيال، بعيداً عن زحام المدن.

 

    وكما قال الناقد والشاعر نزار سرطاوي في معرض تقديمه لهذه الباقة الشعرية:

" إنها "الهايكو"، هذه الزهرة التي لم يمضِ على تفتحها أمدٌ طويل، الزهرة التي يطلّ برعمها على الدنيا بلا تراب ولا ماء. فهي تستقي من بريق دمعة. ذلك أنّها تفيض من روح شاعرةٍ تتقصّى الضوء وتلتقط لمعاته حتى من بريق دمعة.

هذه هي قصيدة "الهايكو" بإيجازها وسرعتها وتكثيفها وبصورها الاستثنائية التي تستثير الوجدان، وبذلك الإحساس المفاجئ بالاستنارة الذي تستشعره القارئة أو القارئ وكأنَّ شعلةً قد أضاءت مكانًا خفيَّا في العتمة."

 

وقبل قطاف زهرة ""الهايكو"" المورقة بأجمل الصور الشعرية، والفواحة بطيب المعنى، لا بد من تسليط الضوء على هذا النوع من الشعر الذي انتشر عالمياً وأصبح له متذوقون وأنصار يستلهمونه وفق شروطه اليابانية أو يخبئون بين بتلاته أسئلة لا تستيقظ إلا لتختبئ من جديد؛ لكنها ستوقظ في القارئ الانتباه ولو بعد حين.

وفي هذا السياق، كيف نتفهّم تجربة هدى حاجي وتحليلها وفق شروط شعر ""الهايكو"" وقواعده اليابانية؟

 لأجل ذلك ينبغي الولوج إلى ًعالم هذا النوع من الشعر والتعرف به،

فما هو شعر "الهايكو"؟

 

     تعرفه الموسوعة الحرة على أنه “نوع من الشعر الياباني، يحاول شاعر "الهايكو"، من خلال ألفاظ بسيطة التعبير عن مشاعر جياشة أو أحاسيس عميقة. تتألف أشعار ("الهايكو") من بيت واحد فقط، مكون من سبعة عشر مقطعا صوتيا (باليابانية)، وتكتب عادة في ثلاثة أسطر (خمسة، سبعة ثم خمسة.

 

ومن الملاحظ أن التعريف ذكر أرقاماً تتعلق بعدد الأسطر والمقاطع وتوزيع الكلمات على أساس الرقم الفردي. وهي أيضاً ترتبط بالأعمار والمواسم حيث أن الأرقام الفردية عند اليابانيين تثير التفاؤل.

 

ويرجع تاريخ "الهايكو" الحديث الى عام 1892م بظهور قصائد الشاعر الياباني (سيكو شايكي ). وتعتبر الشاعرة اليابانية ” هيساجو سوجيتا” من أشهر شعراء "الهايكو" والتي اعتمدت القصيدة عندها في بناء "الهايكو" على أساس المشهد الأمامي و المشهد الخلفي. إذ تَتَملك الشاعر براءة الطفولة وهو يصف المشهد حسياً مستخدماً مفردات بسيطة وفطرية الدلالات وآنية من خلال عناصر مترابطة. كأن الشاعر في غيبوبة البوح لا يريد أن يغوص في أعماق البحيرة مكتفياً بمشهدها الخارجي البسيط.. فهو يصور المشهد حسياً ويبتعد بالمتلقي عن مطاردة الغاية في النص. إنها اختزال لمشاعر وأحاسيس الشاعر الانطباعية في سبعة عشر مقطعاً وفق التراكيب في اللغة اليابانية. وكما قال الدكتور باسم القاسم في دراسة له عن شعر "الهايكو":

"ما تفعله تقنية (سوجيتا) هو التخلص من هذه الممارسة واستبدالها بالـ (هارموني) بين مشهدين في لوحة واحدة أحداثهما متواكبة ومتوافقة زمانيا ومكانيا بالنسبة للهايكو إنها تجعل "الهايكو" يدخل في حالة من ( المحو) لذاته ولغته لا تريده أن يفتعل شيء من أحداث النص أو في أحداث النص كذلك ..ولكنها تقنية تحتاج إلى مهارة ودرجة تنقية للذهن عالية ..هي تماماً مثل أن تنسج وشائج تدمج الكائنات في حكمة وجود واحدة" .

 

 

 

ولمزيد من الفهم لهذا النوع من الشعر، لاحظ هذه اللقطة اللحظية المفخخة في النص التالي للشاعر الياباني باشو:

“صفصاف أخضر (مشهد أمامي)

تتقاطر أغصانه على الطمي

أثناء الجزر”( مشهد خلفي)

هنا يتأمل الشاعر الطبيعة فتدهشه اللحظة ويصورها الطفل القابع في أعماقه على نحو مشهد أمامي لشجرة الصفصاف التي حركت دلالاتها مشاعره وهي تتحرك في المشهد الخلفي الذي يتمثل بالمد وهو يعكس صورتها بلونها الأخضر ليختطفها الجزر.

وفي سياق التعريف بهذا النوع من الشعر الذي يشبه اللقطة أو الومضة السريعة التي تشغل العقل في لحظات ثم تكيفه مع الفكرة المختزلة حتى يستحلب طعمها.. ولولا بعض الخصائص التي تميز شعر "الهايكو" وفق شروطه في الأدب الياباني لقلنا بأن الومضات التي انتشرت على مواقع التواصل الاجتماعي إذا ما كتبت في سطر واحد منثور فإنها تصنف من شعر "الهايكو" شكلا وليس مضموناً. فما هي خصائص هذا الشعر إذاً؟

وللتعرف على هذه الخصائص، سنأخذ “الومضة اللحظية” التالية كمثال للشاعرة اليابانية (كوباياشي إسّا):

“سُئل عمره

فرفع يده

ملابس الصيف”

ومن الملاحظ في هذا النص بأن شعر "الهايكو" يربط المشهد الحسي بدلالة موسمية (الصيف) إشارة إلى معالم الطقس الموجودة في بيئة اليابان الغنية؛ دلالة على المواسم الأربع.

فتجدون أيضاً الإشارة للحيوانات ( مثل السلحفاة التي ترمز إلى طول العمر)أو النباتات تعبيراً عن المشاركة مع البيئة التي ألهمت الشاعر، بناءاً على الحالة النفسية التي يكون فيها الشاعر وهو يطبق عينه على خاتمة مشهد لحظي، ليتأملها، ومن ثم يكتبها قبل أن تنمو في عقلة فتخرج عن شروط "الهايكو". واليابانيون يحررون أنفسهم من الأزمات باللجوء إلى الطبيعة من خلال التأمل وفق العقيدة البوذية (اليوغو). علماً بأن هناك عيد في اليابان يسمى (يوم الاحتفال بالربيع) في الحادي والعشرين من مارس، يقدم فيه الناس الشكر للطبيعة ويعربون عن حبهم للكائنات الحية. وفي منتصف سبتمبر (الخريف) يحتفل اليابانيون بتأمل القمر وهو في حالة البدر ويفتحون النوافذ أو يلجأون إلى الجبال لمشاهدته. وهذا يدل على العلاقة الروحية بين الشاعر الياباني بالمواسم والطبيعة.. ويمكن من هذا المدخل فهم علاقة "الهايكو" بالحالات النفسية و السياقات الاجتماعية و الثقافية التابعة لتلك المواقف من منظور ياباني على اعتبار أن عمق دلالة المفردة عند الياباني تختلف عنها لدى الشعوب الأخرى. كل هذا يُلخّص في صورة ذهنية مُركّزة و مبسّطة في إطار تجربة فردية لتلك اللحظة كما هو الحال في النص أعلاه.

وفي النص أعلاه حينما سئل الطفل عن عمره يخرج يده مشيراً إلى عمر الخمس سنوات وبالتالي قد يكون وقت الاحتفال به حسب مراسيم "شيتشي(سبع سنوات) – جو (خمس سنوات)- سان ( ثلاث سنوات)”و هي الأعمار التي يُحتفل فيها بصحة وسلامة الأطفال في اليابان. حيث يصطحب الآباء أبناءهم إلى المعبد القريب منهم للدعاء. ويستند اختيار سني العمر الفردية إلى الاعتقاد بأنها أرقام تدعو إلى التفاؤل، ويرسم الأطفال على أكياس الحلوى صورتين لطائري الكركي والسلحفاة واللذان يرمزان إلى طول العمر في اليابان.

أما “ملابس الصيف” فتدل على عادة إخراج ملابس الصيف و تخزين ملابس الشتاء، أي في الشهر الرابع من السنة. وكأن المؤشرات إلى المواسم والأشهر لا بد أن تتوفر في نصوص "الهايكو".

ولقطة "الهايكو" تشبه الصور التذكارية في موسم ما. ومن هنا يأتي الربط بين "الهايكو" ومواسم الأعياد. ويمكن التوصل إلى النتيجة التالية في أن أصالة شعر "الهايكو" تنبع من تقاليد الشعب الياباني وخصوصيته. لذلك فإن تقليد هذا النوع من الشعر من قبل شعراء لا ينتمون إلى شعوب شرق آسيا (كونهم يتمتعون بسمات متقاربة وتجمعهم تقاليد ذات أصول فكرية ودينية واحدة)؛ فإن إبداعاتهم ستكون تقليداً باهتا للشكل على حساب المضمون.. لأن المفردة والدلالة اليابانية لا تنسجم مضموناً مع شبيهاتها لدى الشعوب الأخرى ولو توافقتا بالشكل.

وتجدر الإشارة إلى أن معظم التجارب العربية في شعر "الهايكو" تذهب إلى استبدال الطبيعة بالإنسان، ما يدرجها في تصنيف آخر هو شعر "السِنْرْيو" والذي يعرفه سرطاوي في سياق تقديمه للمجموعة:

" السِنْرْيو (بتسكين النون والراء). فقصيدة السِنْرْيو، التي يرتبط اسمها بالشاعر الياباني سِنْرْيو كاراي (1718 – 1790)، تشترك مع قصيدة "الهايكو" في كافة الخصائص باستثناء الموضوع. إذ أنها تستبدل الطبيعة بالإنسان، فتتحدث في كثير من الأحيان عن جوانب الضعف الإنساني، وربما تميل إلى السخرية، بعكس "الهايكو"، التي تتميز بجديةً أكبر ".

فهل تحققت شروط "الهايكو" لدى الشاعرة التونسية هدى حاجي؟

تقول الشاعرة في إحدى قصائدها:

"غيوم سوداء(مشهد أمامي)

فراشة نائمة

برعم يحلم بالربيع"( مشهد خلفي)

فالغيوم السوداء العميقة أوحت بالمطر الذي طرق أحلام الفراشة ليستنهض الربيع، وهي لقطة قد توحي بالأمل.

***

"في آنية الكرستال(مشهد أمامي)

أضمومة الإكليل البري

تموت يانعة"(مشهد خلفي)

تقال فيمن يجزل العطاء  حتى الرمق الأخير، ففي المشهد الأمامي تنطبع صورة الإناء وفي قلبه ضمة الورد، التي تبعث بدورها في القلوب السعادة، رغم أن الحياة تتسلل خارجة من عودها الرطب.

***

"في المتحف(مشهد أمامي)

غزالة محنّطة

مازالت تعدو"(مشهد خلفي)

المتحف في هذا المشهد يوحي بأشداق الموت المتربص، والغزالة الميتة كأنها تقفز إلى المشهد الخلفي فتحرر المعنى ليركض في ذهن المتلقي حياً كالأمل.

***

"العالم ليس موحشاً(المشهد الأمامي)

أنصت للبراعم

همهمات تؤنسك"(المشهد الخلفي)

ففي المشهد الأمامي الربيعي غير الموحش تعلمك البراعمُ معنى الحياة.

***

وقد ترجم نزار سرطاوي مجموعة كبيرة للشاعرة إلى الإنجليزية، ضمت للديوان تحت عنوان:

"هايكو بلسانين" وقد لاقت أشعار هدى حاجي المترجمة قبولاً جيداً لدى كبار النقاد الأمريكيين، وإليكم ما أورده المترجم سرطاوي حول ذلك في خاتمة مقدمته للمجموعة قائلاً :

"في مطلع هذا العام 2016 اتصلت بي الشاعرة والناقدة الأميركية (يوتي مارغريت سين)، عضو مجلس إدارة وتحرير مجلة كاليفورنيا الفصلية California Quarterly التي تصدر عن جمعية الشعر في ولاية كاليفورنيا في الولايات المتحدة، وطلبت مني أن أرسل لها عددًا من القصائد التي ترجمْتُها إلى الانكليزية من الشعر العربي المعاصر، ليتم اختيار إحداها للعدد القادم من المجلة. وقد بادرتُ بإرسال قصائدَ لخمسةٍ من الشعراء والشاعرات من أقطار عربية مختلفة. وفيما بعدُ تلقيت رسالةً من محررة العدد، تعلمني فيها بقبول ثلاثةٍ من نصوص "الهايكو" لهدى حاجّي. أما باقي الشعراء فلم تأتِ على ذكرهم. (نشرت نصوص "الهايكو" المذكورة في المجلد 42، العدد الأول، 2016.) وهذه شهادةٌ ضمنية لهدى تأتي من مجلةٍ متخصصة بالشعر، وأيضًا من شاعرةٍ وناقدةٍ حصيفة مثل سين، تكتب "الهايكو"، وتتمسك بالكثير من تقاليده اليابانية الأصلية، بما فيها نموذج الـ 5-7-5 الذي أشرت إليه سابقّا. ورغم أن القصائد تفقد بعضًا من ألقها حين تُترجم إلى لغة أخرى، فإن قصائد هدى اجتازت هذا الحاجز الشائك بسلام. وهذا يشير صراحةً إلى ما تتمتع به نصوصها من قوةٍ وتأثير وما تتميز به من حِرفيةٍ تؤهلها للانتقال إلى الطبقة الأولى من شاعراتِ وشعراءِ "الهايكو" في العربية.

النصوص الثلاثة التي قبِلتْها مجلة كاليفورنيا الفصلية تستحق التأمل. لذا أوردها هنا رغم أنها تجيء في الفصل الأخير من هذه المجموعة، "هايكو بلسانين"، الذي يضمُّ عددًا من نصوص هدى كنت قد ترجمتها إلى الإنكليزية عام 2015 ونُشِرت في غير مجلة إلكترونية، ولاقت استحسانًا وترحيبًا من قِبَل القراء:

في المتحف

غزالة محنّطة

مازالت تعدو

~ ~ ~

ساعة الغروب

تكلّمني شجرة

بلغة الطير

~ ~ ~

منتصف يناير

شجرة تفاح عارية

في البرد القارس"

 

في الخاتمة لا بد من الإشارة إلى أن شعر "الهايكو" آخذ في الانتشار السريع ليشق طريقه في المشهد الثقافي العربي باقتدار، وأصبح لديه مريدوه من القراء، ما جعل الشعراء ينخرطون في أتون هذه التجربة القادمة من اليابان وقد أدرك شعراؤها مبكراً قيمة الوقت منذ قرون، ولعل بساطة "الهايكو" وقدرته على تحمل اللحظة التذكارية المبسطة في الشكل، والعميقة بالأسئلة؛ قد أغوت جيلاً جديداً من الشعراء الذين وجدوا ذواتهم في هذا اللون الجميل من الشعر المفخخ دون تكلف في المشاعر، فهي لقطة يأخذها العابرون معهم وقد تنكهت بالقيسوم والزعتر، في زحام المدن كي تضيء لهم شيئاً في الذاكرة مع تقاسيم الزرزور والدوري.

المراجع:

1- بكر السباتين- شعر “"الهايكو"” الياباني والصور التذكارية" في 29مايو 2016 / جريدة صوت العروبة

2- نزار سرطاوي- مقدمة الديوان

3- ديوان" بين ضفتين"

4- الموسوعة الحرة

 

 

 

 

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم