صحيفة المثقف

وداد فرحان: لِمَ كُلّ هذا الزحام؟

wedad farhanنعيش عصر الزحام بكلّ معانيه، زحام في الوصول، في فهم الآخر.زحام في إختيار المفردات، في إختيار مصطلحات التعبير . زحام في فهم الذين يلوكون الكلمات ويضمرون بواطنا لا ترتبط جدلا بما يقولون.

إنه زحام قراءة الوجوه الانسانية التي تتشابه مع زحمة تنوّع البنايات والابراج الشاهقة.

زحام في قراءة الوجود والعدم، وفي قراءة الإيمان والإلحاد، وكيف يحكمها معا المنطق المؤسّساتي، والمخابراتي، والدبلوماسي الحرباوي المنمّق، الذي يضع أشباه الشخصيات جداراً من الخرسانة الصلدة محاولا منع وجه الإنسانية النقي المعبر من الظهور .

كلّ منّا يرى زحام الطريق، زحام السلالم، ومراكز التسوّق، وحتى زحام الساعات، التي نعتقد فيها أننا مع انفسنا تائهون بزحام الأخبار والتعليقات، في زحام التحليلات وقراءات المستقبل، زحام الفضائيات ورسائل البريد الألكتروني المفيدة منها والتي لا طعم لها ولا رائحة .

كلّ ما نراه، ومن نراه، في عجلة من أمره.

الكلّ يركض لاهثاً، ولكن، الى أين؟

 كلّنا مشغولون بالجري وراء سراب الأشياء، معتقدين أنّها لن تكون في متناولنا.

في خضم كلّ هذه العجلة، اختصرت التكنولوجيا العلاقات الإنسانية واختزلتها في جمل الكترونية قصيرة.

العاطفة هي الأخرى، في هذا الزحام، تحولت إلى مشاعر رقمية يحركها "الدوت كوم" والرسائل الألكترونية، حتى الكلمات أصبحت أنصافا، والحروف أشباه حروف.

هل نفهم رسائل الشباب الالكترونية إلى بعضهم البعض؟

 هل نستطيع حلّ رموزها؟

 أليسوا فقط من يحمل مفاتيح انغلاقاتها؟

 أطنان من الكتب والمجلات والصحف تطبع وتنشر يوميا، و"أطنان...!" من الكلام يذاع يوميا عبر الإذاعات وشاشات التلفزيون والعروض السينمائية والمنصّات المنصوبة في كلّ أصقاع الأرض لأغراض مختلفة.

ومع كلّ هذا الزحام تولد آلاف القصائد والقصص وعشرات الروايات، وتزدحم بولادتها المطابع وكميّات الورق.

زحام في الجرائد والمجلات التي تصدر يوميا، وزحام ملايين الدفاتر والكراسات والأقلام وأعداد أنواع الحواسيب الإلكترونية التي تطرح في الأسواق يوميا!

ما الجدوى من كل ذلك وما زال بيننا من لا يقيم أيّ توازن للمشاعر والعاطفة الإنسانية؟

 ما الجدوى من كلّ هذا فيما تتجه الأمور إلى خزن الأدب المكتوب اليوم في متحف الأمس، والتعامل معه على أساس أنّه من الإبداع الإنساني وكفى!

ويبقى دور هذا الإنتاج في صياغة الحياة الجديدة للناس غامضاً لا يعرف أحد كيفية التعامل معه، فتتوالد التفسيرات، وتعلن أحكام مبهمة ليست هي إلا كلمات ومصطلحات ميتة تتزاحم مع غيرها للبقاء فترة على السطح، ثمّ تبتلعها ريح النسيان.

ما الجدوى من كلّ هذا؟

 وما نراه جميلا بدأ بالتراجع إلى الوراء يحلّ بديلاً عنه القبيح والمعتم.

هل التقدّم إلى الأمام هو خطوة باتّجاه الماضي!؟

 ما الجدوى من المنازعات المؤسّساتية والفردية؟

 ما الجدوى من إعلان حقوق الإنسان عالمياً.. ومن سلطة منظمة الأمم المتحدة ومجلس أمنها وكتائبها وقبعاتها الزرقاء؟

 ما الجدوى، والملايين في أصقاع الأرض لا تزال تعاني من سياسات خرقاء لا تّتفق مع ألف باء ذلك الإعلان وأبجديته، ولا تزال الملايين تعيش تحت خطّ الفقر، وأطفال يموتون جوعا، ونساء يُقتلن أو يُرجمن حتى الموت بدواعي الشرف الرفيع، ولا تزال الشعوب مستباحة كراماتها بأمر من يعتقد انّه ظلّ الله على الأرض؟

 في هذا الزحام، تلوّن مفهوم الديمقراطية، وتغيّر، وأصبح يصاغ وفق الرغبات الخاصة، وليس وفق معانيها الأثيرة التي تحترم رأي الإنسان وحريّته سواء أكان أقلّية أو أغلبية!

في هذا الزحام، أعتى الدكتاتوريات بدأت تتغنّى ب"الديمقراطية"، بل إنّها أبدعت في صقل معناها، فبات لها ديموقراطياتها الخاصة، الرشيدة، الشريفة، العادلة وهلمّ جرا من مفردات الزحام السياسي المنمّقة.

أما صناديق الاقتراع التي خلقت بهدوء ليعبّر الناس فيها ومن خلالها عن رأيهم وقرارهم، أصبحت هي الأخرى وفي كثير من بقاع العالم النائم تُشترى وتُباع، ووسط الزحام تزوّر محتوياتها برغبة صولجان الحكم الأزلي!

هل نعيش في "الساعة الخامسة والعشرين" في هذا الزحام؟

 تحية للروائي الروماني العظيم كونستانتان جيورجيو الذي كتب روايته الوحيدة الأثيرة تلك، وسكت فما الجدوى من كلّ هذا الزحام!؟

 

وداد فرحان/ سيدني

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم