صحيفة المثقف

يسرى عبد الغني: العدل ومكانة الإنسان في الإسلام

yousri abdulganiيقوم العدل في المجتمع الإسلامي على أساس نظرة الإسلام للإنسان، فالإنسان في الإسلام يحظى بمكانة كبرى من ثلاث نواح: فقد كرمه الله عز وجل، واستخلفه في الأرض، وحمله الأمانة . [1]

وقد شرح بعض العلماء الأجلاء آية {ولقد كرمنا بني آدم} [سورة الإسراء: 70] بقولهم: هذه القاعدة هي التي أقيمت عليها حقوق الإنسان في هذا العصر، هذه الفكرة أساسية في الشريعة الإسلامية ودراساتها، وأن المصالح والمنافع والرخص والمباحات التي تضمنتها نصوص الشريعة لصالح الفرد والمجتمع، ووجهت إلى رعايتها وحمايتها، يسوغ أن تسمى بتعبيرات العصر حقوقًا للإنسان. [2]

ويلاحظ في الآيات القرآنية العديدة التي تمجد الإنسان وتعلي مرتبته فوق كل المخلوقات، تتناول الإنسان لذاته، لا لاعتقاده، ومن حيث هو تكوين بشري، وقبل أن يعتنق دينًا معينًا، وقبل أن يصبح أبيض أو أسود أو أصفر، وليس صحيحًا على الإطلاق أن تلك الحفاوة القرآنية من نصيب المسلمين دون غيرهم كما يتصور البعض، ذلك أن النصوص القرآنية شديدة الوضوح في هذه النقطة بالذات، فهي تارة تتحدث عن (الإنسان)، وتارة تتحدث عن (بني آدم) ومرات أخرى توجه الحديث إلى (الناس)، وهذا التعميم لن تخفى دلالته على أي عقل منصف مدرك للغة الخطاب في القرآن الكريم التي تستخدم موازين للتعبير غاية في الدقة، فتبين متى يكون الخطاب للإنسان، والناس عامة، ومتى يوجه الكلام إلى المؤمنين والمسلمين قبل غيرهم. [3]

إن الإنسان في نظر الإسلام هو مخلوق الله المختار، الذي نفخ فيه من روحه، وفضله على جميع المخلوقات، وليس للمسلم في هذه الزاوية أي أفضلية على غيره، وإنما هو إنسان شأن أي إنسان آخر . [4]

الإسلام يتعامل مع البشر جميعًا باعتبارهم أسرة واحدة، أصلها واحد، وربها واحد، كذلك يعتبر الإسلام أن خير الناس أنفعهم للناس، وخير خلق الله أنفعهم لعباده، ولا تمايز بينهم ولا تمييز إلا بمقدار ما يمكن أن يقدموه لأنفسهم وللآخرين من خير .

 

الإسلام يساوي بين الناس جميعًا

هذه النظرة السامية للإنسان، لمجرد كونه إنسانًا، وبغض النظر عن أية صفات أخرى فيه، تقود على الفور إلى تأكيد حقيقة ثابتة، وهي أن الإسلام يساوي بين الناس جميعًا، فالتفرقة بين الناس – فيما هو دنيوي ـ حسب اعتقادهم أو جنسهم أو لونهم ليست من منهج الإسلام، فالناس جميعًا، بنص القرآن الكريم، قد خلقوا من نفس واحدة {يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيرًا ونساء} [سورة النساء: 1]، {ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة إن الله سميع بصير} [سورة لقمان: 28] .

 

وكان الرسول (عليه الصلاة والسلام) يردد في دعائه في آخر الليل: اللهم إني أشهد أنك أنت الله، لا إله إلا أنت، وأن العباد كلهم أخوة . [رواه أبو داود في سننه] .

هذه المساواة بين الناس، التي أكدها الإسلام، لا تقتصر على كونها حقًا للإنسان، بل تتجاوز ذلك إلى إدخالها في إطار الواجب، فحقوق الإنسان في الإسلام تعتبر من الضرورات الواجبة، بحيث يأثم من يفرط فيها، فهي الأساس الذي يستحيل قيام الدين بدون أن نوفرها للإنسان. [5]

لقد كان الإسلام وسيظل إلى أبد الدهر رسالة عالمية تخاطب الناس جميعًا على أساس العدالة والمساواة، فلا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى والعمل الصالح، والناس سواسية عند الله تعالى، وإذا نظرنا إلى سلوك المسلمين في المجتمعات التي أقاموها في أنحاء العالم المختلفة، لوجدنا أن سيرتهم – وخاصة في عصور ازدهارهم – كانت نموذجًا للتعايش والتآلف والتسامح، ورفض أي نوع من أنواع التفرقة والتمييز والتعصب، بل أن المجتمع الإسلامي سمح بالتعدد والتنوع حتى في داخله، كما هو ثابت من تنوع الرؤى الفلسفية والاجتهادات حسب اختلاف الظروف البيئية والخلفية الحضارية، فلم يفرض نمطًا معينًا في التفكير، ولم يحجر على حق الإنسان في التكيف مع الأوضاع السائدة في منطقة معينة دون أخرى.

إن الناس جميعًا هم خلق الله سبحانه وتعالى، واختلافهم في الدين أمر من الأمور الطبيعية، بل هو من مقتضيات المشيئة الإلهية، وإنه من أوضح الأمور أن الدين الإسلامي الحنيف يدعو إلى أن تقوم العلاقات بين المسلمين وغيرهم على أسس إنسانية تحقق الخيرية والتعاون، و تثمر تحقيق المصالح المشتركة .

ولنضع في الاعتبار أنه ليس من مقاصد الإسلام الصراع بين الأديان، أو بين الحضارات والثقافات، وليس من قيمه أن يعادي المسلمون غير المسلمين، والنصوص القرآنية في ذلك المجال واضحة جلية لا تقبل التأويل أو الانحراف في التفسير، وعليه فإنه من الواجب علينا أن نعمل بكل ما نستطيع بهدف الحفاظ على الحقوق الإنسانية للآخرين ما داموا غير معتدين، فلا نفترض علاقة عداء بيننا وبينهم لمجرد مخالفتهم في دينهم، فديننا الإسلامي بسماحته ورحابته وإنسانيته، أكد حرية العقيدة للجميع، وحثنا على أن نحسن التعامل مع الآخرين، ما داموا ملتزمين بالعهود والمواثيق، فكلنا في حق الحياة سواء .

إن جوهر الإسلام وتعاليمه السامية يقضيان باحترام النفس الإنسانية، وبالحفاظ الدائم والمستمر على التضامن بين أبناء الأمة الواحدة، وتوحيد صفوفهم، والكف عن الأذى والضرر، عملاً بقول الرسول الكريم (عليه الصلاة والسلام): " لا ضرر ولا ضرار"، وكل هذا يشكل مبدأ من أهم مبادئ الإسلام الحنيف، دين العدل والرحمة والمساواة واحترام الآخر .

إن رسالة النبي محمد (عليه الصلاة والسلام) علمت المسلم أن غير المسلمين بالنسبة له ينقسمون إلى ثلاثة أقسام: إما قوم لا يعيشون معنا في بلادنا وإنما يعيشون في بلادهم ولا يسيئون إلينا، وإما قوم يسيئون إلينا بشتى ألوان الإساءة ويعلنون الحرب الظاهرة والخفية علينا وعلى أوطاننا، وإما قوم يعيشون معنا في بلادنا تظلنا سماء واحدة، وتقلنا أرض واحدة، وتجمعنا مصالح مشتركة، ونشرب من ماء واحد، هؤلاء تقول لنا شريعة الإسلام بالنسبة لهم: " لهم ما لنا، وعليهم ما علينا " . [6]

 

العدل قيمة مطلقة وليست نسبية:

العدل في الإسلام، قيمة مطلقة وليست نسبية، بمعنى أنها مفروضة على المسلم في كل الظروف، أي في مواجهة الأعداء كما هي مع الأهل و الحلفاء، ولذلك كتب أمير المؤمنين / عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) إلى أحد عماله يقول: " أما العدل فلا رخصة فيه من قريب أو بعيد، ولا في شدة ولا رخاء، والعدل وإن رُئي لينًا، فهو أقوى وأطفأ للجور، وأقمع للباطل من الجور " . [7]

إن العدل من حيث جوهره ليس قاعدة من قواعد الإسلام فحسب وإنما هو مثل أعلى من حقائق وقيم الإسلام الكريمة التي حض على تحقيقها وإشاعتها بين الناس في ثمان وعشرين آية من القرآن الكريم، فالعدل في عرف الإسلام فريضة واجبة، فرضها الله على جميع الناس دون استثناء، فالناس في شرع الإسلام متساوون جميعًا في الحقوق والواجبات، متساوون في تكوينهم وأصل خلقهم، فلم يخلق الله شعبًا أو جماعة من طين أشرف من الطين الذي خلق منه شعبًا آخر أو جماعة أخرى، وعليه فإن الإسلام هو صاحب الشريعة الوحيدة التي استطاعت أن تقر المساواة مبدأ نافذًا بين الناس جميعًا، وأحلت الانسجام بين القيمة وبين الواقع . [8]

 

قانون ابن تيمية الاجتماعي:

وضع شيخ الإسلام / ابن تيمية الحراني (رحمه الله) قانونًا اجتماعيًا مهمًا، أقامه على العدل وهو: إن الله يقيم الدولة العادلة وإن كانت كافرة، ولا يقيم الظالمة وإن كانت مسلمة . [9]

وإن: الدنيا تدوم مع العدل والكفر، ولا تدوم مع الظلم والإسلام . [10]

وأن: العدل نظام كل شيء، فإذا أقيم أمر الدنيا بعدل قامت، وإن لم يكن لصاحبها في الآخرة من خلاق، ومتى لم تقم بعدل لم تقم، وإن كان لصاحبها من الإيمان ما يجزى به في الآخرة . [11]

ولعل هذا ما جعل السلف الصالح من قبل ينحازون إلى الكافر العادل دون المسلم الجائر، وذلك بقولهم: " إن المسلم الجائر إسلامه له، وجوره علينا، في حين أن الكافر العادل كفره عليه، وعدله لنا " .[12]

التزام الحكام المسلمين بقواعد المساواة بين المسلمين وغيرهم:

إني، باعتباري باحثًا اجتماعيًا، فقد بهرني كثيرًا ما سجله التاريخ الإنساني للحكام المسلمين من التزامهم بقواعد المساواة والعدالة بين المسلمين وغير المسلمين، سواء فيما يتعلق بإجراءات التقاضي، أو فيما يتعلق بالأحكام الموضوعية للقانون .

وفيما يتعلق بإجراءات التقاضي، يروى أن خصومة بين الإمام / علي بن أبي طالب (رضي الله عنه) ويهودي رفعت إلى أمير المؤمنين / عمر بن الخطاب (رضي الله عنه)، فنادى عمر عليًا بقوله: قف يا أبا الحسن، فبدا الغضب على وجه علي، فقال عمر: أكرهت أن نسوي بينك وبين خصمك في مجلس القضاء؟ !، فقال له: لا، ولكني كرهت منك أن عظمتني في الخطاب فناديتني بكنيتي، ولم تصنع مع خصمي اليهودي ما صنعت معي !! .[13]

أما في ما يتعلق بالمساواة أمام الأحكام الموضوعية للقانون، فسوف يكتفي الباحث بالإشارة إلى القصة الشهيرة للصبي القبطي الذي شكا إلى أمير المؤمنين / عمر بن الخطاب (رضي الله عنه)، ما وقع عليه من اعتداء بالضرب من ابن حاكم مصر عمرو بن العاص (رضي الله عنه)، فأمر عمر بأن يقتص القبطي من ابن حاكم مصر، وهو يقول للقبطي: اضرب ابن الأكرمين .

إن الذي نذكره هنا فبل أن تعرف الدنيا شيء اسمه حقوق الإنسان، وها هو أمير المؤمنين الفاروق / عمر بن الخطاب يوجه اللوم إلى الصحابي الجليل / عمرو بن العاص بقوله: " لما استعبدتم الناس، وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا "، هذه العبارة الخالدة لم تعرفها المجتمعات الغربية إلا عندما قامت الثورة الفرنسية سنة 1789، وأصدرت إعلانها الخاص بحقوق الإنسان، والذي نص على أن الناس جميعًا يولدون أحرارًا، ومتساوين في الحقوق، وقبل أن يولد من فكروا في كتابة الإعلان العالمي في حقوق الإنسان الذي أصدرته هيئة الأمم المتحدة فيما بعد . [14]

والله تعالى ولي التوفيق

 

بقلم: د. يسري عبد الغني عبد الله

باحث وخبير في التراث الثقافي

 ................................ 

[1]- إدوار غالي الذهبي، معاملة غير المسلمين في المجتمع الإسلامي، الطبعة الأولى، القاهرة، 1993، ص 15 وما بعدها 

[2]- جاد الحق على جاد الحق، المنظور الإسلامي لحقوق الإنسان، صحيفة الأهرام القاهرية، عددها الصادر في 8 مارس 1994 

[3] - فهمي هويدي، مواطنون لا ذميون، الطبعة الأولى، دار الشروق، القاهرة، 1985، ص 81 

[4] - فهمي هويدي، الاشتباك الموهوم بين الإسلام والتعددية، مقال منشور في صحيفة الأهرام القاهرية، في عددها الصادر يوم18 من يونيو 1996 

[5] - محمد عماره، الإسلام وحقوق الإنسان: ضرورات لا حقوق، الكويت، 1985، ص ص 14 – 16 

[6]- محمد سيد طنطاوي، الإسلام والوحدة الوطنية، مقالة منشورة في صحيفة الأهرام القاهرية، في عددها الصادر يوم 28 / يوليو 1996 . 

[7]- فهمي هويدي، القطب الأعظم للدنيا، مقالة منشورة في صحيفة الأهرام القاهرية، في عددها الصادر يوم 4 من أغسطس 1992 

[8] - جاد الحق علي جاد الحق، الإسلام رسالة إنسانية أقامة العدل والمساواة، مقالة منشورة في صحيفة الأهرام القاهرية، في عددها الصادر يوم 5 من مارس 1994 . 

[9] - ابن تيمية، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الطبعة الثانية، المكتبة القيمة، القاهرة، 1401 هـ، ص ص ص 42 – 43 

[10] - ابن تيمية، الحسبة في الإسلام، دار عمر بن الخطاب، الأسكندرية، بدون تاريخ، ص 46 

[11] - ابن تيميه، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، مرجع سابق، ص 43 

[12] - عبد الرحمن الشرقاوي، الفقيه المعذب: ابن تيميه، العدد 44 من سلسلة كتاب اليوم، الصادر عن مؤسسة أخبار اليوم، القاهرة، 1985، ص 155 – وكذلك: فهمي هويدي، في الشريعة: العدل فبل الحد، مقالة منشورة في صحيفة الأهرام القاهرية، في عددها الصادر يوم 13 أبريل 1993 

[13] - عبد الرحمن الشرقاوي، الفاروق عمر، القاهرة، 1987 ص 23 و ص 270 

[14]- عبد العزيز حافظ دنيا، العدالة العمرية ومبادئ الإسلام، القاهرة، 1988، ص 45 ـ وكذلك: عباس محمود العقاد، عبقرية عمر، الطبعة الرابعة، دار المعارف، القاهرة، 1948، ص 68، وأيضًا: نظمي لوقا، عمر بن الخطاب: البطل والمثل والرجل،مكتبة غريب، القاهرة، 1987، ص 159

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم