صحيفة المثقف

نذير هارون الزبيدي: الفكر التكفيري بضاعة اسلامية ام صناعة اجنبية؟ (1-2)

nadhir haronalzobaydiمنذ صدر الإسلام تمكن بعض الحكّام من توظيف الدين لأهداف سياسية، مستخدمين ومستغلين شخصيات تلبست بمظاهر إسلامية، ليقدموا لهم الأسانيد الدينية والمبررات الشرعية للتسلط والتغلب على الأمة وتدعيم حكمهم، وان ناقضت تلك الاسانيد والمبررات القرآن او ناقضت بعضها بعضا او كان ما هو منقول ومتواتر عنهم منافيا لأحكام العقل والمنطق والفطرة السليمة، فأصبحت تلك الروايات- وبتعاقب الأزمان- المرجع والفيصل لذوي العقول المنساقة ورائهم، من المهووسين بتعظيم الاشخاص وتقديس الرموز الدينية وعبادة البشر.

فكان الثمن باهظاَ دفعته الامة دماَ طاهرا زكياَ لعظمائها من الأئمة الاطهار ومن قادتها الافذاذ ومن عامة ابنائها، منذ ذلك التاريخ وحتى وقتنا الحاضر .

ان اعظم ما ابتلي به المسلمون، هو الفكر التكفيري، وعلى امتداد تاريخهم، متخذًا منحى عنفيا تصاعديا مع تطور صناعة الأسلحة ودخول ايادٍ خبيثة عملت على أيقاظ واثارة الفتن وخلق التوتر والعداء والتعصب والنزاعات بين ابناء الدين الواحد، حتى وصل الى ما هو عليه اليوم، في ممارسته لأبشع طرق القتل واستخدامه اقسى اساليب الاجرام وافظع وسائل التخريب والدمار، وبشكل لم يسبق له مثيل.

ولا شك ان اي مشكلة تمر بعدة مراحل حتى تصل الى العقدة التي يصعب حلها والهوة التي يعسر تجاوزها، وظاهرة التكفير مشكلة اساسها فكر ضال مر بعدة مراحل، ولا يمكن علاجها علاجا نافعا الا من خلال دراسة جذور هذا الفكر وتحديد اسباب نشوئه ثم نموه واستفحاله وفي جميع مراحله.

 

موقف الاسلام من تكفير المسلم:

اتفقت الامة ان اصل الاسلام واول ما يؤمر به الخلق ؛ شهادة ان لا اله الا الله وان محمد رسول الله فبذلك يصير الكافر مسلما والعدو وليا والمباح دمه وماله معصوم الدم والمال، ثم ان كان ذلك من قلبه فقد دخل الايمان، وان قال بلسانه دون قلبه فهو في ظاهر الاسلام دون باطن الايمان (1).

وقد ثبت في الاحاديث الصحيحة التحذير الشديد من تكفير المسلم نذكر منها قول رسول الله (ص): " لا يرمي رجل رجلا بالفسوق، ولا يرميه بالكفر، الا ارتدت عليه ان لم يكن صاحبه كذلك "(2)، وقوله ايضا " من قذف مؤمنا بكفر فهو كقتله " (3) وقال ايضا " سباب المسلم فسوق وقتاله كفر " (4) وقال "المسلم اخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله"(5) وقال عليه الصلاة والسلام "كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه" (6) وقال: " ألا إن اللَّه حرَّم علَيْكُمْ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوالكُمْ، كَحُرْمَةِ يوْمكُمْ هذا، في بلدِكُمْ هذا، في شَهْرِكُم هذا ألاَ هل بلَّغْتُ؟ قَالُوا: نَعَمْ، قال: اللَّهُمَّ اشْهَدْ (ثَلاثاً) ويْلَكُمْ أَوْ: ويحكُمْ، انظُرُوا: لا ترْجِعُوا بَعْدِي كُفَّاراً يضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضِ" (7)

وليس معنى اننا نثبت حكم الاسلام لشخص او نحكم له بالأيمان الظاهر اننا نحكم له بدخول الجنة، بل الرجل يعطى حكم الاسلام لمعاملات الحياة الدنيا، فيرث من ابيه المسلم ويتزوج من المسلمين، ويدفن في مقابر المسلمين، وقد يكون ممن يبطن الكفر، ولكننا لم نؤمر بأن نشق عن قلوب الناس؛ وعليه فأن جمهور العلماء لا يكفر تارك الصلاة بالرغم انها عمود الدين، ولان ذلك اجماع المسلمين فأننا لا نعلم في عصر من الاعصر احدا من تاركي الصلاة ترك تغسيله والصلاة عليه ولا منع ميراث مورّثه مع كثرة تاركي الصلاة (8).

روى البخاري وغيره عن اسامة بن زيد انه قال: "بعثنا رسول الله صلى الله عليه واله وسلم إلى الحرقة من جهينة فصبّحنا القوم فهزمناهم ولحقت أنا ورجل من الأنصار رجلا منهم فلما غشيناه قال: لا إله إلا الله. فكف عنه الأنصاري فطعنته برمحي حتى قتلته. فلما قدمنا بلغ ذلك النبي، فقال لي يا أسامة أقتلته بعد ما قال لا إله إلا الله، قلت يا رسول الله إنما كان متعوذا، قال: هل لا شققت على قلبه فتعلم أنه قالها يتقي بها السيف. ماذا تعمل بلا إله إلا الله إذا جاءت يوم القيامة - فما زال يكررها - ماذا تعمل بلا إله إلا الله إذا جاءت يوم القيامة حتى تمنيت أني لم أكن أسلمت قبل ذلك اليوم" (9).

وفي رواية للبخاري ايضا ذكر أن المقداد بن عمرو الكندي حليف بني زهرة وكان ممن شهد بدرا مع النبي صلى الله عليه واله وسلم أنه قال: " يا رسول الله إني لقيت كافرا فاقتتلنا فضرب يدي بالسيف فقطعها ثم لاذ مني بشجرة وقال أسلمت لله. آقتله بعد أن قالها. قال رسول الله صلى الله عليه واله وسلم: لا تقتله قلت: يا رسول الله فإنه طرح إحدى يديّ ثم قال ذلك بعد ما قطعها آقتله. قال: لا تقتله فإن قتلته فإنه بمنزلتك قبل أن تقتله وأنت بمنزلته قبل أن يقول كلمته التي قال"(10).

ان الاسلام كبح كل محاولة لتكفير من تلفظ بالتوحيد وكَبَّلَ الداعين لذلك بأدلة قطعية لا مجال لأنكارها او تأويلها - ومنها الروايتين اعلاه وغيرهما الكثير- لكن رغم كل تلك الادلة القطعية، نجد ان اتباع الفكر التكفيري يُخرجون مذهب الامامية بأكمله من ملة الاسلام- ويتهمون اتباعه بالشرك ويزعمون انهم يسجدون لقبور أئمتهم- لا لشيء الا لان اتباع هذا المذهب يوالون اهل البيت عليهم السلام ويعدَّونهم افضل الخلق بعد رسول الله صلى الله عليه واله وسلم، ويعتبرون قبورهم من مقدساتهم، وأعز عليهم من أنفسهم.

وحتى لو افترضنا ان أفرادا من المذهب الشيعي يسجدون لقبور أئمتهم سواء كانوا جاهلين او قاصدين الامر، فهل يعد ذلك مبررا لتكفير طائفة اسلامية بأكملها واستباحة قتلها؟

يقول الكاتب احمد فريد وهو من شيوخ السلفية في مصر في كتابه العذر بالجهل والرد على بدعة التكفير: "هذه عقيدتنا لو وقع الفرد من هؤلاء الذين يصلون معنا ويصومون معنا، لو وقع في الكفر نحن لا نكفره، فهو يدخل المسجد ويكون في المسجد قبر فيأتيه ويطلب منه ما يطلب من الله تعالى .. اقول مع هذه الدلالات كلها لا نستطيع ان كفر هؤلاء المسلمين لأنه لم تقم الحجة عليهم "(11).

وقد روى عبد الله بن ابي اوفى قال:" لما قدم معاذ من الشام، سجد للنبي صلى الله عليه واله وسلم فقال ما هذا يا معاذ قال اتيت الشام فوافيتهم يسجدون لأساقفتهم وبطارقتهم فوددت في نفسي ان افعل ذلك لك. فقال رسول الله (ص) لو كنت امرا احدا ان يسجد لغير الله لأمرت المرأة ان تسجد لزوجها؛ والذي نفس محمد بيده لا تؤدي المرأة حق ربها حتى تؤدي حق زوجها"(12). اذاً من سجد لغير الله – وفق مفهوم الرواية - جاهلا بأن السجود عبادة ينبغي ان لا تكون لغير الله عز وجل لا يكفر، هذا بالإضافة الى ان الرسول (ص) لم يتهم معاذ بالشرك لما قام به من سجود لغير الله، وانما انتقل الى موضوع اخر - قرنه بما قام به معاذ- وهو حق الزوج على الزوجة .

وقد وردت في القرآن الكريم لفظة السجود بمختلف اشكالها (92) مرة الا ان ما اتفق عليه علماء المسلمين ان انواع السجود هي:

اولا: سجود الصلاة على اختلافها من صلاة مفروضة - يومية و غيرها – الى الصلوات المندوبة الليلية والنهارية، او التي تؤدى في مناسبات شتى.

 

ثانيا: سجود السهو لمن سهى في صلاته .

ثالثا: سجود التلاوة، والذي يُعد سنة مؤكدة في الآيات التي بها سجدة.

رابعا: سجود الشكر، اذ يستحب أن يسجد المسلم سجدة الشكر إذا حدثت له نعمة أو صرف عنه أمر سيء بقدرة الله تعالى، وقد روي عن النبي صلى الله عليه واله وسلم انه كان إذا أتاه أمر يسره أو بشر به، خر ساجدا لله تعالى، وقد ذكر الله تعالى هذا النوع من السجود و وردت له شواهد كثيرة في القرآن الكريم، ومنها حادثة سجود الملائكة لادم في قوله تعالى (فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ اَجْمَعُونَ)(13) وقوله تعالى (وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ) (14) و في حادثة سجود نبي الله يعقوب (ع) وبنيه لنبي الله يوسف (ع) في قوله تعالى (وَرَفَعَ اَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً)(15) فالسجود الوارد في الآيات المذكورة لا يعني عبادة المخلوق، بل هو في حقيقته سجود شكر وتعظيم لله تعالى على نعمه ومواهبه العظيمة، وتنفيذا لأمره، وهذا ما اتفقت عليه جميع المذاهب الاسلامية.

وحين ابتدع العباسيون عادة تقبيل الارض بين يدي الخليفة، لم نسمع احدا من المسلمين كفَّر بني العباس لفرضهم تلك الظاهرة، رغم انتشارها في عصرهم،حيث ذكر ابن كثير الدمشقي في كتابه البداية والنهاية نقلا عن علي بن حرب قال:" دخلت على المعتز فما رأيت خليفة أحسن وجها منه، فلما رأيته سجدت فقال: يا شيخ تسجد لغير الله ؟ فقلت: حدثنا أبو عاصم الضحاك بن مخلد النبيل، حدثنا بكار بن عبد العزيز بن أبي بكرة، عن أبيه، عن جده أن رسول الله صلى الله عليه واله وسلم كان إذا رأى ما يفرح به أو بشر بما يسره سجد شكرا لله عز وجل"(16).

 

قاتل النفس البريئة وموقف الاسلام منه:

إن من أخطر المسائل التي حذر منها القران الكريم وفي عدة مواضع هي قضية قتل وإهدار أنفس الأبرياء عمدا ودون ادنى ذنب، مسلمين كانوا او غيرهم، ومن هذه الآيات (وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا ءَاخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا) (17) والآية الاخرى (وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنصُوراً) (18) وغيرها من الآيات الاخرى.

وكل الذنوب قد يُرجَى معها العفو والصفح إلاّ الشرك، ومظالم العباد . ولا رَيبَ أنَّ سَفْكَ دماء المسلمين وهَتْكَ حرماتهم لَمِنْ أعظم المظالم في حق العباد وأن الله عز وجل لم يجعلْ عقوبةً بعد عقوبةِ الشرك بالله أشدَّ من عقوبة قتل المؤمن عمداً اذ يقول: (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً) (19)، وعن ابن عباس " أنَّ رجلاً أتاه فقال: أرأيتَ رجلاً قتل رجلاً متعمداً ؟ قال: جزاؤه جهنم خالداً فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعدّ له عذاباً عظيماً، قال: أُنزِلتْ في آخر ما نزل، ما نسخها شيءٌ حتى قُبضَ رسولُ الله رسول الله صلى الله عليه اله وسلم، قال: أرأيتَ إنْ تاب وآمن وعمل صالحاً ثم اهتدى ؟ قال: وأنى له التوبة، وقد سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه اله وسلم يقول: ثكلتْهُ أُمُه رجلٌ قتلَ رجلاً متعمداً يجيء يومَ القيامة آخذاً قاتله بيمينه أو بيساره وآخذاً رأسه بيمينه أو شماله تشخبُ أوداجه دماً في قبل العرش يقول: يا رب سَلْ عبدك فيم قتلني ؟ "(20)

وفي حديث اخر، قرن النَّبيَّ صلى الله عليه واله وسلم بين قتل المؤمن والشرك بالله تعالى، وجعلهما مشتركين في استبعاد الغفران اذ يقول: "كلُّ ذنبٍ عسى اللهُ أنْ يغفره إلاّ الرجلُ يقتلُ المؤمنَ متعمداً أو الرجل يموتُ كافراً " (21). وعنه ايضا (ص) قال: " لهدم الكعبة حجراً حجراً أهون من قتل المسلم " (22) وقال: " لزوال الدنيا أهون عند الله من قتل امرئ مسلم بغير حق ولو أن أهل السماء والأرض اجتمعوا على قتل مسلم لأكبهم الله جميعاً في النار"(23) وقال: " من صلى صلاتنا واستقبل قبلتنا فذلك المسلم الذي له ذمة الله وذمة رسوله، فلا تخفروا الله في ذمته" (24) وقال عليه افضل الصلاة والسلام: "مَن حمل علينا السلاح فليس منا"(25).

 

الجذور التاريخية والفكرية لظاهرة التكفير:

ان نمو ظاهرة التكفير- التي برزت واستفحلت في فترة المد الوهابي في بلاد نجد والحجاز- هي في حقيقتها امتداد للصراع السياسي الذي شهدته حُقب معيّنة من التاريخ الإسلامي ولا يمكن فصلها عن الظروف السياسية المعقدة التي سادت صدر الإسلام؛ لا بل لسنا مبالغين اذا قلنا اننا نستطيع تلمس البوادر الأولى والشرارة الباعثة لظاهرة التكفير، على عهد النبي محمد صلى الله عليه واله وسلم، من خلال قراءتنا لما ورد في الروايتين اللتين نقلهما البخاري عن أبي سعيد والتي يقول في الاولى منهما: "بينما النبي (ص) يقسّم، جاء عبد الله بن ذي الخويصرة التميمي، فقال: اعدل يا رسول الله، فقال: ويحك! ومن يعدل ان لم اعدل قال عمر بن الخطاب: يا رسول الله ائذن لي فأضرب عنقه، قال: دعه، فان له اصحاباً يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية" (26). اما الرواية الثانية فقال فيها: "بعث عليٌّ وهو باليمن بذهيبة إلى النبي صلى الله عليه اله وسلم، فقسمها بين أربعة، فقال رجل: يا رسول الله اتقي الله قال: ويلك ألست أحق أهل الأرض ان يتقي الله، ثم ولى الرجل، فقال خالد بن الوليد يا رسول الله، ألا أضرب عنقه؟ فقال: لا،لعله أن يكون يصلي فقال خالد: وكم من مصل يقول بلسانه ما ليس في قلبه. فقال صلى الله عليه واله وسلم:اني لم أؤمر أن أنقب عن قلوب الناس ولا أشق بطونهم"(27) .

هاتان الروايتان تأشران الى قضيتين مهمتين الأولى منهما تبين لنا البواكير الاولى لنشوء ظاهرة التكفير في الاسلام، وذلك من خلال الحكم بكفر الشخصين المعترضين على قسمة الرسول - ضمناً وتلميحاً، لا تصريحاً - من قبل عمر بن الخطاب وخالد بن الوليد، فطلبهما قطع رأسيي المعترضين، يعني انهما حكما عليهما بالكفر دون اذن من رسول الله صلى الله عليه واله وسلم، او موافقته، علما انهما – اي المعترضان- مسلمان، والا لما حضرا القسمة، وبقرينة قول خالد: "وكم من مصل يقول بلسانه ما ليس في قلبه"، و رد الرسول (ص) بالقول "اني لم أؤمر أن أنقب عن قلوب الناس ولا أشق بطونهم".

اما القضية الثانية فهي ما جاء من الوصف الدقيق لأصحاب الفكر التكفيري على لسان الرسول (ص) بقوله: " فان له اصحاباً يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية" وهذا ما سنتناوله بشيء من التفصيل في السطور القادمة .

 

اول الاعمال الارهابية في تاريخ الاسلام:

شهد عصر صدر الإسلام حادثتين مروعتين تم ارتكابهما باسم الدين، ويمكن عدهما اول الاعمال الارهابية في التاريخ الاسلامي، نظرا لاتفاقهما مع ما يصطلح عليه اليوم بـ (العمل الارهابي)، وتتطابقان وتنسجمان تماما مع ما ورد في محتوى مفهوم الارهاب شكلا ومضمونا. فالإرهاب هو: "كل نشاط اجرامي موجه الى جهة معينة يستهدف انشاء حالة من الرعب"(28) او هو: "استخدام غير شرعي للقوة او العنف او التهديد باستخدامهما بقصد تحقيق اهداف سياسية"(29).

 

الحادثة الاولى: قتل الصحابي مالك بن نويرة:

ان حادثة مقتل الصحابي مالك بن نويرة وقومه تُعد اول جريمة تكفيرية ارتكبت باسم الاسلام، فهي كانت الاولى من نوعها في التاريخ الاسلامي لقطع الرؤوس والابادة الجماعية والتمثيل بالجثث، والحجر الاساس لتصفية الخصوم لأهداف سياسية ثم وضع المبررات والذرائع لشرعنة تلك الاعمال باسم الدين، ولو قارّنا ما فعله خالد بمالك وقومه من قتل وتمثيل بالجثث وطبخ رأس مالك والزنى بزوجته،وبين ما يفعله اليوم مجرمي داعش وقبلهم القاعدة نجد تطابقا واضحا في الفكر والمنهج .

بدأت الحادثة بتوجيه الخليفة أبي بكر خالد بن الوليد إلى قتال مانعي الزكاة، مالك بن نويرة اليربوعي، وقومه وكانت وصية أبي بكر للجيش قبل توجهه، أن يؤذَّنوا إذا نزلوا منزلًا فإن أذن القوم كفوا عنهم وإن لم يؤذنوا فقاتلوهم وإن أجابوكم إلى داعية الإسلام فاسألوهم عن الزكاة فإن أقروا فاقبلوا منهم وإن أبوا فقاتلوهم فسار إليهم خالد، ثم ضرب عسكره بأرض بني تميم، وبث السرايا في البلاد يمنة ويسرة، وبعد أن قال لهم جنود خالد إنا المسلمون . رد عليهم قوم مالك ونحن المسلمون، قالوا: فإن كنتم المسلمين كما تقولون فضعوا السلاح، فوضع قوم مالك السلاح ثم صلى هؤلاء وأولئك، فلما انتهت الصلاة باغتوهم وكتفوهم وأخذوهم إلى خالد بن الوليد فسارع أبو قتادة الأنصاري وعبد الله بن عمر فدافعوا عن مالك وقومه وشهدوا لهم بالإسلام وأداء الصلاة، إلا أن خالداً لم يصغ إلى شهادتهما، ولا إلى دفاع مالك عن نفسه ضد اتهامه بالكفر، حتى أن مالكا طلب من خالد أن يرسله إلى أبي بكر ليحكم بأمرهم، ولكن دون جدوى، وكان لخالد ما أراد من قتلهم، وقد أوعز بالمهمة إلى ضرار بن الأزور(30).

وقد ذكر المؤرخون ايضا ان مالكا لما التقى بخالد قال: إني مسلم، فقال خالد: يا ضرار اضرب عنقه، وكان عبد الله بن عمر وأبو قتادة الأنصاري ممن حاولا عبثا منع خالدا من قتله وثنيه عن ذلك، ولكنه كره كلامهما، ونزل على زوجته في الليلة التي قتل فيها زوجها والتي روي أنها كانت من أجمل نساء العرب، ثم أنه طبخ برأس مالك طعام تلك الليلة، وقد غضب أبو قتادة لدرجة أنه عاهد الله أن لا يشهد مع خالد حرباً بعدها (31).

وحين عاد خالد الى المدينة المنورة ودخل المسجد قام إليه عمر بن الخطاب فأنتزع الأسهم من عمامته فحطمها وقال:‏ أرياء قتلت أمرأ مسلماً، ثم نزوت على امرأته، والله لأرجمنك بالجنادل وخالد لا يكلمه ولا يظن ألا إن رأي ابي بكر فيه كرأي عمر، حتى دخل على أبي بكر فاعتذر إليه فعذره وتجاوز عما كان منه في ذلك، وودى مالك بن نويرة، فخرج من عنده وعمر جالس في المسجد، فقال خالد‏:‏ هلم إلي: يا ابن أم شملة، فلم يرد عليه وعرف أن ابا بكر قد رضي عنه‏، وغضب عمر غضباً شديداً لدرجة أنه قال لأبى بكر إنه زنى فأرجمه، فرفض أبو بكر، فقال عمر: إنه قتل مسلماً فأقتله، فرفض أبو بكر ثانية قائلاً:تأول فأخطأ (32) . فقال عمر يا ابا بكر كيف يُقاتل الناس وقد قال رسول الله اُمرت ان اُقاتل الناس حتى يقولوا: لا اله الا الله ؛ فمن قالها عصم مني ماله ونفسه (33). فرد ابو بكر: يا عمر ارفع لسانك عن خالد ما كنت لأغمد سيفا سله الله عليهم (34).

لم يقتنع عمرا (باجتهاد) خالد وتأويله، ولا بصفح أبي بكر عنه، لذا فإنه عندما تسلم الخلافة، كان من قراراته الأولى عزل خالد عن قيادة جيش المسلمين الذي كان حينها في غمرة انشغاله بقتال الروم في الشام، ودع عنك تلك التبريرات المصطنعة القائلة بأن عزل الخليفة لخالد كان يعود لخشيته افتتان المسلمين بانتصاراته الباهرة على حساب شعورهم بصنع الله سبحانه وتعالى لتلك الانتصارات ! (35) وحسبنا من هذه الاقوال جميعا ان نقف منها على الثابت الذي لا نزاع فيه: ان وجوب القتل لم يكن صريحا قاطعا في امر مالك بن نويرة، وان مالكا كان احق بأرساله الى الخليفة، وان خالد تزوج امرأة مالك وتعلق بها. (36)

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم