صحيفة المثقف

بقلم بكر السباتين: نظرية الكم ومبدأ عدم اليقين ما بين المنطق والوهم

bakir sabatinلماذا عجز هيزنبرج عن دحض مبدأ السببية الذي يتحكم بواقعنا؟

ما أشبه المادة بالسلوك البشري فيما يتعلق بالتجربة ومعطيات الحل فيها، فالتجربة توفر معطيات لسلسلة متعاقبة من التجارب المركبة للاقتراب من نقطة الهدف مع استحالة الخروج من حيز عدم اليقين.. ولكن هذا إذا ما أربك مبدأ السببية في الظواهر النانومترية التي تتأثر بأصغر مكونات الذرة ذات المحددات المبهمة، فإنها الأقدر على تحليل الظواهر الميتفزقية والاجتماعية.

لذلك تستمر الحاجة إلى المعرفة.. والتجريب.. والحصول على نتائج متغيرة، سواء كان ذلك على صعيد المادة بمكوناتها الذرية أو الحياة التي يعيشها الإنسان بعقله وحواسه.

والسؤال المحير هو ما دامت السببية مبدأ لا ينسجم مع قانون عدم اليقين!؟ فكيف نفسر ارتباك أحدهما بوجود الآخر؟ وهل لذلك علاقة بضحالة المعرفة عند الإنسان وعدم كفاءة أدوات القياس التي يستخدمها!؟

وللإجابة على ذلك ينبغي أن ندرك في أن الجدلية المادية نفسها تعتمد في نفي السببية على فيزياء الكم، حيث تختبئ الحقيقة في نظر بعض مفكريها (خلافاً لما ذهب إليه أهم مكتشفي هذه الفيزياء الثورية: بلانك، وإلبرت أينشتاين) وراء علاقة الاحتمالات بالتجربة على تحديد سلوكيات الفوتون الذي يجمع بين الطبيعتين الموجية والجسيمية، فكلما توفرت المعطيات الأدق تقترب الحقيقة من حيز المشاهدة دون أن تتصالب مع نقطة الهدف لتظل في حيز عدم اليقين دون محددات تترجمها العين المجردة.

وفي هندسة النانو ميتر استطاع العلماء السيطرة على الذرة وتحريكها لكنهم في إطار مكونات الذرة نفسها كان مبدأ عدم اليقين يستحوذ على نتائج التجارب لذلك كانت المحاولات تسعى لتقريب النتائج إلى منطقة الهدف.

ومبدأ عدم التأكد، أو عدم اليقين معناه أن علم الفيزياء لا يستطيع أن يفعل أكثر من أن تكون لديه تنبؤات إحصائية فقط. فالعالم الذي يدرس النشاط الإشعاعي للذرات مثلا، يمكنه أن يتنبأ فقط بأن من كل ألف مليون ذرة راديوم مليونان فقط سوف يصدران أشعة جاما في اليوم التالي، لكنه لا يستطيع معرفة أي ذرة من مجموع ذرات الراديوم سوف تفعل ذلك. ويمكننا القول أنه كلما زادت عدد الذرات كلما قل عدم التأكد وكلما نقص عدد الذرات كلما زاد عدم التأكد. وكانت هذه النظرية مـُقلقة للعلماء في وقتها لدرجة أن عالماً كبيراً مثل أينشتاين قد رفضها أول الأمر. وهو الذي قال "إن عقلي لا يستطيع أن يتصور أن الله يلعب النرد بهذا الكون" متناسياً إدراكه الشخصي. ومع ذلك لم يجد العلماء أمامهم إلا قبول هذه النظرية التي اهتدى إليها هايزنبرج والتي وضحت للإنسان خاصية هامة من خواص هذا الكون.

وهناك قانون فيزيائي لا نريد الخوض فيه في سياق هذا المقال لكفاية الطرح التالي والقائل بأن عدم التأكد الحاصل هو نتيجة أيضا لعملية القياس نفسها، والتي تؤثر فيها أجهزة القياس على الكميات المقاسة، بما فيها الضوء المستخدم نفسه. فعلى هذا المستوي الصغير، عند التعامل مع ذرات وجزيئات وجسيمات أولية نقوم بتصويب فوتونات لقياس سرعة الجسيم بدقة معينة، ثم نصوب فوتوناً آخر لقياس موضع الجسيم، ونظراً لأن الفوتون له طاقة تقوم بدفع الجسيم عند الإصطدام به فيتغير موضعه، وبالتالي فإننا لا نستطيع تحديد موقعه بدقة ولا تحديد سرعته بدقة.

ولكن عدم اليقين يرتبط نسبياً بقدرة الإنسان وأدواته، لأن حيز عدم اليقين يحتوى على نقطة اليقين التي يتبط إيجادها بوسائل القياس وتقنياتها المرتبطة بقدرة الإنسان، لذلك عدم اليقين هو مأزق بشري وليس نفي لنقطة اليقين في حيز عدم اليقين.

فهل تدحض التجربة السببية إذا علمنا بأن الأسباب تتراكم أحياناً من مصادر لم تصلها المعرفة لتؤدي إلى مخرجات لها محدداتها المعرفية وخصائصها الذاتية. وهذا سيتوافق مع ما ذهب إليه

البروفسور جان بايل وهو عالم الرياضيات الكندي حيث قال:

« والعوامل غير الفيزيائية هذه و حسب التعريف السائد، تكون فيما وراء البحث والاستقصاء. إذاً لا يحقُّ لنا علمياً الإدعاء بأنَّ فقدان العوامل الفيزيائية في عملٍ ما، ينفي وجود أي عوامل أخرى».

 

 

حتى لو أمعنا النظر فيما ذهب إليه هيزنبرج عن عدم التأكد، أو عدم اليقين أو اللاحتمية، والتي تبحث في دلالة إستحالة تحديد موقع الإلكترون وكمية حركته في آن واحد تحديدًا دقيقًا أي الإنسان ليس قادرا على معرفة كل شيء بدقة 100%. و لا يمكنه قياس كل شيء بدقة 100% ، و استخلص بعض الماديين الجدليين من المبدأ أنَّ علم قياس المعرفة وليد علم الوجود و هذا يعني حذف و إبعاد نظرية العلية و هذا غير مسلم به، فإن كانت نتيجة المبدأ عدم إمكان قياس موقع الإكترون بدقة فغاية ما فيه قصور الجانب البشري و عدم معرفته بالقوانين الحقيقية التي تحكم الذرات و الجسيمات لأن عدم توقع حدوث شيء لا يعني نفيه تماماً؟!

لأنه كما قال برونشيفكز:

«إن حساب الاحتمال مؤسَّس على الحتميّة »

من هنا فإن أن عدم اعتبار أصل السببية يؤدي الى عدم الاستدلال، لأن الإثبات والدليل عامل مهم من عوامل قبول النتائج، واذا لم يرتبط الإثبات بالنتائج، فلا يؤدي الإثبات الى نتيجة .

لذلك ينبغي أن ندرك بأن قانون السببيّة قانون فلسفي أيضا ، ولا يمكن إثبات و نفي القوانين الفلسفية إلا بالأصول الفلسفية لذا لا يمكن للعلم التجريبي نقض هذا القانون ، كما لا يمكن للعلوم الاستغناء عنه، و لذلك يجب على العلوم أن تتقبل قانون السببية على اعتباره أحد الأصول السائدة وهذا ينسجم مع ما قاله أبو فيزياء الكم، پلانك: في أن «كلُّ فرضية تتخذ شكل قانون قطعي يجب أن تؤكد على وجوب أصل العليّة»

أن مبدأ اللاحتمية إن كان حتمياً فهو مبطل لنفسه و إن كان غير حتمي فلا نستعمله فى المسائل التى تتطلب اليقين ،و مبدأ اللاحتمية غاية ما فيه أنه فرض و الفرضيات لا تفيد اليقين و الفرضيات و النظريات العلمية تتغير باستمرار في الفيزياء و بالتالي ليست ثابتة و يمكن أن تظهر نظريات تنسف نظريات أخرى كليا و الثابت هو الواقع التجريبي و ليس الفرضيات .

بعض العلماء ذهبوا إلى رفض مبدأ اللاحتمية أو الشك فيه و إن كان بعضهم قد رحب بمبدأ اللاحتمية في بداية الأمر، ومن أهمهم: أينشتاين، بودولسكي، روزن ، الذين يُعرَفون اختصارًا ب(EPR) في بحث لهم صدر عام 1935م .

ولنستعرض في ذات السياق آراء بعض العلماء الذين تمسكوا بالسببية كقاعدة للبحث في الظواهر الفيزيائية.

ولنبدأ باينشتاين وهو من مؤسسي فيزياء الكم مع بلانك حيث وقف ليعلن رفضه للاحتمية الكمومية التي تنشأ عن احتمالية القياسات ، قائلا : « أن الإله لا يلعب النرد" كانت هذه العبارة الشهيرة بمثابة رفض قاطع لفكرة أن تكون للطبيعة أصالة احتمالية ، مرجحا فكرة أن هناك نقص في المعلومات المتوفرة لدينا يؤدي إلى تلك الطبيعة الاحتمالية للنتائج وعليه فنظرية الكم ناقصة ينبغي اكمالها عن طريق تعويض النقص.

أما ديراك فقد قال: « لا بد من اكتشاف ميكانيكا كم نسبي جديد لا توجد فيه هذه اللانهائيات إطلاقًا. ولعلّ ميكانيكا الكمّ الجديد سيتّصف بالحتميّة على النحو الذي أراده أينشتاين. وسيتم إدخال هذه الحتميّة على حساب التخلّي عن مفاهيم ومسلمات أخرى يؤمن بها علماء الفيزياء الآن وليس ممكنًا إدراك خطئها الآن ».

وأخيراً ما قاله برتراند رسل : « قد يبدو كأني، في الوقت الراهن، مذنب بعدم توافُق حين أقوم بدحض الحتميّة أولاً ثمَّ دحض حريّة الإرادة ثانيًا. إن البحث عن القوانين السببية، هو حسبما رأينا، جوهر العلم ولذلك فإنَّ رجل العلم يجب عليه، من ناحية عمليّة بحتة، أن يفترض دائمًا بأنَّ الحتميّة تمثّل افتراضًا عمليًّا » .

كنت شخصياً قد بحثت بمخطوطة كتابي " البعد الثاني والعالم الموازي ما بين السببية وعدم اليقين" في عدم اليقين وسرعة الضوء من خلال علاقة الزمن كبعد رابع بعدم قدرة العين المجردة في التثبت من مواقع النجوم وتحديدها من خلال تفسيرات نسبية أينشتاين، على اعتبار (بحسب نظرية الحسن ابن الهيثم) بأن الأجسام تعكس الضوء إلى عيوننا فنراها، فإن بعض النجوم التي نراها هي عبارة عن ظاهرة تلاشي لأشعة النجوم غير الموجودة منذ ملايين السنين، فيما هناك نجوم جديدة الولادة لا نراها بالعين المجردة لأن الأشعة المنعكسة عن سطحها لم تصل عيوننا بعد. والبحث الذي كتبته بعنوان" البعد الثاني والعالم الموازي ما بين السببية وعدم اليقين" يفترض السؤال التالي: فيما لو تحرك جسم من النقطة (أ ) إلى النقطة (ب) بسرعة أكبر من سرعة الضوء بدرجات، إذا اعتبرنا المسافة بين النقطتين أصغر بضعفين وعدة دراجات، ما بين كل نقطة إلى عين المراقب، فإن العين ستدرك وفق مبدأ عدم اليقين، بأن الجسم لم يتحرك أي ظل ساكناً، بينما هو بالفعل كان قد قطع المسافة من النقطة (أ) إلى (ب) ذهاباً وإياباً قبل أن تصل حزم الأشعة التي تترجم حركتي الذهاب والإياب من خلال صدورها عن الجسم المتحرك إلى العين.

أي أن عدم اليقين لا ينفي حقيقة بأن النجوم التي نراها بالعين المجردة هي غير موجودة بالفعل مع العلم بأن الذي نراه هو مجرد أشعة تتلاشى عبر الكون لتسقط في عين المتلفي المجردة لنجوم ميتة، إضافة إلى أن الكون الأحدب لا يهيئ لنا صوراً للنجوم في أماكنها الصحيحة.. وفي التجربة التي تتضمنها مسودة كتابي فإن عدم اليقين في سكون الجسم لا ينفي حقيقة أنه تحرك.. أما عن مبدأ السببية وعلاقته مع كل ذلك فإنه هو القادر من بين الوسائل الممكنة على تعليل هذا الالتباس بين العين المجردة ومبدأ عدم اليقين ومحددات المكان وفق الأبعاد الإقليدية المغيبة بسبب قلة الحيلة لدى عين المراقب.

وأخيراً نتفق مع ما ذهب إليه العلماء في سياق هذا البحث في أن الفوتون غير موجود في الواقع وفق محددات العين المباشرة، بل هو مجرد وهم، والوهم بحد ذاته حيز فرضي موجود في عقل الإنسان، ومبدأ اللادقة لهايزنبيرغ المبني على سلوك الفوتون الجسيمي التائه في منطقة الوهم، أو عدم اليقين، لا ينفي وجوده، ولا يدحض مبدأ السببية التي من خلالها يمكن تعليل ظاهرة عدم اليقين من خلال ربط الظواهر ذات العلاقة ببعضها. وهي القادرة على إثبات علاقة عدم الدقة بعدم خبرة الإنسان وافتقاراته لأدوات القياس السليمة،. والسببية في محصلة الأمر حينما ترتبك في تفسير الظواهر الناجمة عن المكونات الأصغر في الذرة، فهي الأنسب لتفسير الظواهر الميتفزقية والاجتماعية.

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم