صحيفة المثقف

يسري عبد الغني: الاجتهاد فى مواجهة التخلف

yousri abdulganiالاجتهاد هو المصدر الثالث من مصادر التشريع الإسلامي بعد القرآن الكريم، والسنة النبوية المطهرة .

ومما لا شك فيه أن النصوص الدينية محدودة ومتناهية، أما وقائع الحياة وأحداثها تأتي كل يوم بجديد، فهي إذن ليست بمحدودة ولا متناهية .

ولم يكن من المتصور أن تأتي النصوص التشريعية في القرآن المجيد، والسنة النبوية المكرمة بكل التشريعات التفصيلية لكل ما وقع وما يقع في الحياة المعاشة على مر العصور، لأن التشريعات المفصلة لعصر واحد تحتاج إلى العديد من المجلدات للنص عليها، ومن ثم فإن هذه النصوص قررت أصولاً عامة يحتاج إلى تطبيقها التفصيلي على وقائع الحياة الجزئية المفصلة إلى جهود متعددة في البحث عن الأصل العام الذي يجب أن يطبق فيها، والطريقة الصحيحة لتطبيقه .

كما أن التشريعات الجزئية في كتاب الله المطهر، وسنة رسوله الكريم (صلى الله عليه وسلم) لم تستوعب كل الجزئيات حتى في عصر الصحابة (رضوان الله عليهم)، ومن ثم فإن هذه التشريعات احتاجت هي الأخرى إلى جهود متوالية لفهم علة الحكم فيها، وحكمته، ثم قياس أمثالها عليها من الجزئيات المتجددة، كل ذلك بطريق صحيح بعيداً عن الاندفاع .

*

فإذا أخذنا وقائع عصر معين وأردنا تطبيق نصوص القرآن والسنة عليها، فسوف تقابلنا مثل هذه الأسئلة في كل واقعة : هل الحادثة مما ينطبق النصوص المفصلة، أو الأصول العامة عليها ؟ !

وإذا وجد أكثر من نص يحتمل ـ عقلياً ـ أن ينطبق على الواقعة فأي النصوص نطبقها؟، ولماذذا نختاره؟، وإذا تغيرت الظروف الاجتماعية أو الفردية، وفقدت بتغيرها شروط تطبيق النص، فهل لولي الأمر أن يوقف العمل بهذا النص مؤقتاً؟

وما مقياس فقدان الشروط أو بعضها ؟، وما صلة المصلحة العامة للعصر الذي يطبق فيه النص بمفاهيم هذا النص ودلالته؟

إن كل هذذه الأسئلة ـ وغيرها ـ تقتضي فكرة الاجتهاد العقلي عند تطبيق التشريع الإسلامي، والمعلوم لنا أن الرسول محمد (صلى الله عليه وسلم) أقر بها في حديث معاذ بن جبل (رضي الله عنه) المشهور، عندما أقر بأن يكون الاجتهاد العقلي هو ثالث مصادر التشريع بعد القرآن الكريم والسنة المطهرة .

وهكذا نرى أن فكرة الجهد العقلي أو الاجتهاد العقلي، ضرورة تشريعية في المسائل التي لم ترد فيها نصوص خاصة مفصلة، أو التي وردت فيها نصوص تحتاج عند التطبيق إلى تحري روح التشريع ومصالح الناس في كل عصر، وأيضاً في المسائل التي وردت فيها نصوص يحمل ظاهرها على التناقض أو الغموض في المعنى، أو تكون غير ثابته بصورة قطعية كما في بعض نصوص السنة، وليس التراث الفقهي في مجال الفقه والتشريع على مر العصور إلا الجهود المتتالية في هذا السبيل .

*

إننا إذا سلمنا بضرورة الجهود العقلية المتتابعة في مجال التشريع فإن هذا يستلزم منا فكرة (المنهج)، لأن هذا المنهج هو الطريقة المتبعة أو التي من المحتم والضروري أن تتبع، ولا يمكن أن نتصور جهوداً عقلية دون طريقة متبعة في التفكير، وإلا كانت جهوداً ضائعة، مشتته، مبددة، لا طائل منها، ولا تؤدي إلى غايتها، بل قد يكون ضررها أكثر من نفعها، لأن العقل البشري حين يفكر في شيء ما عليه أن يتحرى كيفية الوصول إلى هدفه عن طريق مقدمات تتبعها نتائج، وأسباب تستتبع مسببات .

وغني عن التوضيح أن مجال النظر العقلي تكثر فيه الفروض والاعتبارات، ويختلف المفكرون فيما بينهم في أخذهم ببعضها ورفض بعضها الآخر، فما يقبله أحدهم من الفروض والاعتبارات يرفضه آخر أو لا يخطر على باله أصلاً، ومن هنا تختلف مناهج التفكير وتختلف النتائج تبعاً لذلك .

*

ولكن الاختلاف في مجال النظر الفقهي محصور في نطاق بعض الجزئيات، مع الاتفاق مع الأسس الرئيسية العامة للتشريع التي تجمع عليها كل النصوص في تصريح وتفصيل يخرجها عن دائرة الاجتهاد أصلاً، ومن ثم لم يختلف الفقهاء أصلاً في وجوب الصلاة أو الصيام أو الزكاة أو حج البيت الحرام لمن استطاع إلى ذلك سبيلا، أو حرمة الربا والسرقة والغش ... إلخ ..، وإن اختلفوا في جزئيات تطبيقه في بعض المسائل الفرعية .

وفي الواقع إن هذا الاختلاف الناشئ عن الاجتهاد كان مجالاً خصباً ثرياً لإثراء الفكر التشريعي الإسلامي بين المسلمين في كل زمان ومكان، لأنه لم يتناول الثوابت أو الأسس الرئيسية المتفق عليها، كما أنه كان نتيجة طبيعية للاجتهاد العقلي الذي كان ضرورة تشريعية .

ويجب أن ننبه هنا إلى أن غالبية التيارات الفكرية في مجال التشريع قد أسهمت في تكوين هذا المصدر الثالث، وتنبهت إلى أهميته الكبيرة في مجال التطبيق الواقعي للنصوص، وإن اختلفت فيما بينها في المناهج وطرق البحث والتفكير، ومن ثم كان الاختلاف في بعض النتائج الجزئية .

ونحن نقول (غالبية) التيارات الفكرية، ولا نقول (كل) التيارات الفكرية، لأن هناك اتجاهاً فكرياً كان له رأي آخر يصوره قول المفكر الإسلامي / ابن رشد (520 هـ ـ 595 هـ) : " إن الطرق التي تلقيت منها الأحكام عن النبي (صلى الله عليه وسلم) بالجنس ثلاثة : إما لفظ، وإما فعل، وإما إقرار، فأما ما سكت عنه الشارع من الأحكام، فقال الجمهور : إن طرق الوقوف عليه هو القياس، وقال أهل الظاهر : القياس في الشرع باطل، وأما ما سكت عنه الشارع فلا حكم له، ودليل العقل يشهد بثبوته، وذلك أن الوقائع بين أشخاص الإناس غير متناهية، والنصوص والأفعال والإقرارات متناهية، ومحال أن يقابل ما لا يتناهى بما يتناهى . " [ابن رشد، بداية المجتهد، 1 / 2، طبعة بيروتية ].

ويعني ابن رشد بثبوت القياس أو أن دليل العقل يشهد بثبوته، يقصد به مطلق الاجتهاد العقلي، من باب إطلاق الجزء على الكل، لأن القياس أشهر وأحب طرق الاجتهاد العقلي، والإمام / الشافعي (رضي الله عنه ) يستخدم القياس كمرادف للاجتهاد تماماً، وليرجع من أراد إلى كتابيه : (الرسالة) و (الأم) .

وابن رشد الأندلسي في كتابه (بداية المجتهد) يتحدث عن مخالفة فرقة الظاهرية لجمهور علماء المسلمين، حيث أن هذه الفرقة ترفض الاجتهاد بكل طرقه، مع الاقتصار على ما يفهم من ظواهر النصوص، وهذا الاتجاه الظاهري وجد منذ القرن الثالث الهجري على يد داود بن علي المشهور بالظاهري (202 هـ ـ 270 هـ )، ثم ازدهر على يد ابن حزم الأندلسي (المتوفى سنة 456 هـ )، والذي ألف الكتب في تأييد هذا الاتجاه، ومن أشهر كتبه: (ملخص إبطال القياس والرأي والاستحسان والتقليد والتعليل )، و(المحلى)، و(الإحكام في أصول الأحكام ) .

*

لقد أثمرت بحوث علماء أصول التشريع الإسلامي طرقاً متعددة يسلكها المجتهد في اجتهاده، ويطبقها الفقهاء في بحثهم عن أحكام التشريع في الوقائع .

وعليه فمن الواجب على الباحث المسلم أن يعرف كل طريقة من طرق الاجتهاد، مع ملاحظة أن كل طريق منها قد تعددت فيه المفاهيم التي يستخدمها العلماء، مثلاً مصطلح أو مفهوم (الإجماع) له عدة مفاهيم تختلف باختلاف الأصولي أو الفقيه، فمفهومه عند الإمام / الشافعي (رضي الله عنه) مثلاً يخالف مفهومه عند الإمام / مالك بن أنس (رضي الله عنه) مع تقاربهما الزمني، ومفهومه عند الإمامين / الشافعي ومالك (رضي الله عنهما) قد يختلف عن مفهومه في القرن الثالث أو الرابع الهجريين .. وهكذا ..

ومن البديهي أن هذه السطور لا تتسع لتفصيل القول في كل طرق الاجتهاد على هذا النحو من تعقب مفاهيم كل طريق منها على مر العصور واختلاف الفقهاء، ومن ثم نأمل في أن يقدم لنا أهل العلم والبحث مفهوماً عاماً موجزاً لكل طريق اجتهادي يمثل الروح العامة التي يتفق عليها العلماء أو معظمهم على الأقل في كل طريق منها .

والله ولي التوفيق،،،

 

د- يسري عبد الغني عبد الله

باحث وخبير في التراث الثقافي

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم