صحيفة المثقف

صدام فهد الاسدي: المرأة في شعر حسين مردان

sadam alasadiالمقدمة: حسين مردان شاعر ٌ عراقي من شعراء العصر الحديث اسهم في رفد القصيدة العربية وتجديدها بموهبته المتميزة كان شاعرا ً طموحا ً ومغامرا ً في شعره وكرس قدرا ً كبيرا ً من خطاباته الشعرية من اجل المرأة يخوض في قضية تجسيد المرأة ووصفها وصفا ً دقيقا ً سبقه الشاعر نزار قباني في العصر الحديث .

تهدف هذه الدراسة الى توضيح مكانة المرأة في شعره واستكناه الخطاب الشعري فضلا ً عن تمييز النموذج الانثوي وتصنيفه من حيث القدسية والرقي ودوره في تكوين النص الشعري المتميز بفعاليته الجمالية والثقافية وجاءت الدراسة في مبحثين:

المبحث الاول نشأة الشاعر وثقافته ودفاعه عن المرأة والزمن الذي عاش فيه

المبحث الثاني  المرأة في شعر حسين مردان

ثم النتائج التي توصلنا اليها في ختام بحثي هذا

 

التمهيد

على حد قول الدكتور علي جواد الطاهر في كتابه من يفرك الصدى (حيسين مردان شاعر وشاعر معدود مشهور في العراق وجرئ ومجدد وهو الى ذلك محبوب حلو المعشر نقي السريرة يضحك اذا ضحك حتى من كل قلبه 1 (من يفرك الصدأ) رسم الشاعر حسين مردان لوحات مختلفة عن المرأة وقد جاءت معظم تلك الصور مستمدة من جمال الطبيعة في زهوها والوانها ونلاحظ للعيان ان طغيان المساحة اللونية لتلك الصور تثبت ذلك وقد وزع الشاعر المرأة الى ام والى حبيبة والى عاشقة في الوطن وقد تعددت اسماء حبيباته ويسميها بعدة تسميات كما جاء في متن هذا البحث كما نلاحظ ان القصيدة التي يكتبها مردان عبارة عن خطاب شعري موجه للحبيبة المقدسة والمرأة الضائعة ويتناقض فيها كثيرا ً وان اتجاه الشاعر ليس جديدا ً عن المرأة فبدايته المبكرة قد مثلت فيها المرأة محورا ً رئيسا ً وبقدرته الشعرية اتخذ الشاعر مردان موقفه تجاه المرأة فلم يعد الحب منصبا على انثى هي الوطن بل اضحى منصبا ً على الانثى والوطن في آن واحد والنص عنده ليس عملا ً تجريديا ً بل يتنبق من تجربته الذاتية .

وله عدة اراء وحوارات خاصة في المرأة واقوال يبالغ بها احيانا ً ولا ينصفه الاخرون عند سماعها كما في قوله:

(لن احترم العالم وفي الارض طفل واحد منكسر العينين)

فكيف انقل الغزل بثقله الذي عاشه على صفحات صامتة

و لكن خير ما تمتلك السطور ان تقول – ان الممتازين حين يرحلون يخلفون وراءهم اشياء لا يمحوها الزمن – وما دام هو الذي يقول:

لعنة جئت للحياة وامضي   مثلما جئت لعنة للقبور (1)

و لا استطيع ان اترك مقدمتي فارغة من الدموع الا ان انقل خبرا من حسين مردان في مهرجان المربد الاول في البصرة، عندما قال:

(انظر الشعراء مثل النخيل، اذا ما اجتمعوا صاروا بستان، اما اذا شتل واحد هنا واخر هناك امسوا كالصبير) .

لقد كان موت حسين مردان نكتة وقد يصبح الموت اقسى النكات ...

 

نشأة الشاعر  (2)

ولد في الحلة عام 1927م ونشأ في بعقوبة ثم هاجر منها الى بغداد، قضى رحلة 45 عاما حافلة بالخفقان .. هجر المدرسة في العشرين من عمره .. تبدأ خطوته الاولى المتاهة في بغداد ومقهى حسن عجمي وهناك يلتقي بالجواهري والجبوري والحنفي حيث نقطة التجمع الادبي .

انتقل مع زملائه بلند الحيدري ورشيد ياسين الى مقهى البلدية وهناك التقى مع السياب وعبد الرزاق عبد الواحد، تحول الشعراء بعدها الى مقهى الصباح في باب المعظم سنة 1948م واشتغل مصححا ومحرراً في جريدة الاهالي  وفي عام 1949م اصدر الشاعر ديوانه، قصائد عارية وقبل ثورة 1958م اصدر مجموعته (طراز خاص) .

اشتغل محررا وسكرتيرا لمجلة صوت الجمهورية عام 1958م الى عام 1962م ثم أكمل الرحلة في مجلة الف باء، اشرف على صفحات ادبية عديدة منها صفحة جريدة البلاد وجريدة الاخبار والمستقبل وبعدها استلم عضوية الهيئة الادارية للشباب عام 1969م، كان ينشر كتاباته النثرية في مجلة الف باء تحت عنوان (محطات سفر) .

اصدر مجموعة نثرية كاملة بعنوان (الازهار تورق داخل الصاعقة)، آخر منصب شغله معاون المدير العام للمؤسسة العامة للإذاعة والتلفزيون، سجن عام 1950م بعد ان قدم متهما على ديوانه (قصائد عارية)، اخر ما كتبه، على ظهر صورة اهداها الى صديقه عبد المجيد الونداوي توفي في 4/10/1972م .. نتيجة نوبة قلبية مفاجأة ...

لقب بودلير العراق والخليفة لشعر الغزل العباسي .

له مجموعات شعرية عديدة وهي:

1- قصائد عارية .   2-  طراز خاص (منشورات دار المكتبة العصرية – بيروت) .

3-الارجوحة هادئة الحبال .  4- عزيزتي فلانة .    5- صور مرعبة .   6- رجال الضباب .

7- العالم تنور . 8- له ديوان لم ينشر تضمن قصائده من عام (67 – 70) والذي اودعه لدار الاداب في بيروت للطبع ثم سحبه قبل وفاته ولم يطبع لحد الان .

9- اللحن الاسود .   10- رسالة من شاعر الى رسام (نثر) .   11- الربيع والجوع .

12- فولاذ وعصافير وامرأة .   13- نشيد الانشاد .

 

المبحث الثاني: المرأة في شعر حسين مردان

اولا ً: المرأة المقدسة

الكثير من قصائد حسين مردان يتضمن انموذجا للمرأة المقدسة اي المرأة التي نظر اليها نظرة قدسية فقد جاء في مقدمة ديوانه (اللحن الاسود) في الاهداء الذي طبعه سنة 1950 الى التي احتضنتني ذات مرة  وتمتمت وهي تضغط على شفتي بأصابعها الابيض الطويل وبشهوة وقسوة ليتك تدري كم احبك ايها السكير المجنون  الى تلك المرأة العزيزة اهدي هذا اللحن الاسود) 2 .

وقال: (آمنت بالحب الذي في خافقي      وكفرت بالحسن الذي لا يرحم

جن الجنون فكل عرق ازرق         في صدرك الفضي يحرقه الدم

عيناك تبدي لي الجفا لكنما           شفتاك تدعوني فينتفض الفم

بيضاء يا لون الدموع وفي يدي       ما زال من كفيك عطر مسكر

هذا الذبول بمقلتيك يثيرني         ويكاد يفقدني الصواب فأهتف

هذه القصيدة ينتقل من قافية الراء الى قافية الفاء كما ينظر القارئ ويريد ان يصور حالة المرأة وقداستها ويؤكد قوله:

يا ضبية الارز المقدس والهوا        كبد محرقة وجسم يرجف

احببت ال صبية لكنني        لم اهو مثلك والغرام تطرف)

وينتقل الى قافية العين في نفس القصيدة قوله:

ادركت اني قد خدعت             فلم اعد اخشى عناق الاثم او اتورع

فبصقت في وجه الفضيلة هاتفا ً           وجه الرذيلة بالسماء مقنع

ومضيت اغتصب اللذائذ عنوة             حمراء تعول كالجنون وتفزع)

 

ثانيا ً: المرأة المجهولة

جاء في قصيدته عذراء يكتب في خط يده  مهداة الى فتاة مجهولة لعلها تزوجت بعد تلك المغامرة الجريئة ومن يدري فربما كان ذلك الغلام الذي رأيته معها هو ولدي ...  73صويقول في تلك القصيدة:

يومان مرا مذ عرفتك والتقت         عيني بعينك في هواى وهيام

يومان مرا يا غريبة واللظى        ابدا ً يزمجر في دمي وعظامي

والحب مثل الطفل ان لم تروه        بالنار لا ينمو مع الايام) ص73

 

ثالثا ً المرأة العاصية

جاء في اعماله الشعرية ص78 (اظلم انواع العذاب انتقال من العصب الى الرآس) ص78 قائلا ً:

انت مسكينة لقد خدروها        بحديث الخيال والاوهام

لن تعود الحياة يوما ً الينا       بعد ان يعبث البلى بالعظام

انا جرثومة الساد. تربت         في مهاوي الزنا وظل الحرام

 

رابعا ً المرأة الصارخة

يقول في اعماله الشعرية ص77: (اسهل عندي ان اهدم جبلا ً بأظفاري .. من اقول للمرأة التي احبها ارحميني) ويقول في تلك القصيدة:

فتقدمت كوحش جائع         ترعد الشهوة في اعصابيه

فأذا ما استلسمت مرغمة         وتفرجت عليها عاريه

صرخت ويحك لا تتركني         فلقد حركت في احشائيه

 

خامسا ً المرأة القديمة

جاء في اعماله الشعرية ص79 لقاءا ً عابرا مع امرأة في منعطف النهر ويقول بلسانه (مغامرة قديمة هل تذكرين لقاءنا يوما بمنعطف النهر والموج يروي قصة:

خرساء تنطق بالعبر         ترنوا الى الافق البعيد ونشتكي هول العبر

فدنوت منك بجرأة                   ودنوت مني في حذر

حتى اذا استسلمت لي                وشربت من دمك الشرر

ونهضت خجلى تمسحين                     القش من فوق الشعر

هلا رأيت بأعيني                         شبح الجريمة والخطر

انا لا اخاف من السماء                     ولست اؤمن بالقدر

مهما عشقت فلا يدوم                 العشق في قلبي شهر)

 

سادسا ً المرأة المسافرة

يقول في اعماله الشعرية ص23  الى التي بصقت في احشائها اول قطرة من دمي قائلا ً في القصيدة نفسها:

سافرت ومرت بقلبي الف ذكرى         غضيضة الالوان شعرها نهدها الصغير

المندى وارتعاشات صدرها الريان       ردفها رقصها المثير ليال لم يزل عطر نارها في جنان ...)

الى ان يقول: يوم كنا وصدرها لصق صدري       وذراعي يلفها بفتور

سافرت بحة سيبقى صداها       بدمائي ويلتظي في شعوري) ص25

 

سابعا ً المرأة الام

جاء في عنوان قصيدته ثدي امي رأيتها عارية فوددت لو عدت طفلا مرة ثانية  قائلا ً فيها:

قد رضعت الفجور من ثدي امي             وترعرعت في ظلام الرذيلة

فتعلمت كل شيء ولكن لم ازل               جاهلا معاني الفضيلة

فدعيني اعيش وحدي غريبا              بين احلام قلبي المستحيلة)

 

ثامنا ً المرأة الساجدة يقول  لن احب الا المرأة التي تحتقر جميع الرجال وتسجد تحت قدمي  قائلا:

ما الطهر ما الشرف الرفيع ما التقى         غير اختلافات الزمان الاقدم

في الاصل للطين المدنس ننتمي            وتهتكي وهبي لكل متيم

ما يشتهي من جسمك المتضرم) ص27

كان شاعرا واديبا له اسهاماته في تجديد القصيدة العربية وصاحب جرأة الهمته موهبة بارزة من خلال كتاباته وله الآراء العظيمة في الحياة والاخلاص في الفن والادب والسياسة ..

كان انسانا شريفا وكادح ادب بحق، حمل طموحه في كل شيء واختاره مغامرة الحياة بصدق وقد احبه الصديق وكل الناس .. انه قد عثر على الشعر في نفسه صدفة، فهو موجود في كيانه كوجود الدم في اي كائن دون ان يعبأ به او يراه ثم تخدشه الحياة صدفة فيحرق في دمه بدهشة ثم يلمسه ليعيده الى جسمه مرة ثانية .

ان شعره يعلمنا ان الوسائل لا الغايات هي التي قتلته وخاصة الغايات سهلة المنال مثل المرأة مثلا بغيا او صديقة او عشيقة .

لقد اصطنع حوارا بين الموت والمرأة في داخل نفسه ولم ينقطع الى اخر لحظة من لحظات حياته ولم ينته حتى بعد مماته .. ان حسين مردان رجل قاحل كالعدم .

و ان الوسيلة مستحيلة والخلاص مستحيل في عالم تحكمه الالهة ويحكمه اطفال صغار يجرحون الكبرياء والعملقة ومع ذلك يجب عدم الخضوع .

(لأنني اشعر اني سأموت ان لم اواصل الانفجار ولم اتوقف عن الحركة مطلقا واعصابي في حالة توهج ابدي)

ان الفن لم يستطع ان يكتشف المليون وجه المدفون في باطنه فقد قرر التحول الى الجانب المظلم من القمر ولا بد من اختراع لالتقاط الصور المجسمة لتململ الظل في المحاق النفسي وتسجيل الخداع ان حسين وحده فوق  الصبار قطعت حنجرته ووضعها على المائدة لتغني للناس، ولكنهم شربوا رطوبة قلبه وتركوه لحر الصيف وهو يحمل خط الاستواء في احشائه واشتاق الى الزمهرير ولكن لم يصل الندى الى قاع الجحيم

تفاصيل حبيبات حسين مردان سلبا وايجابا

 

ان حسين مردان صاحب الاقوال التي وضعت للمرأة خارطتها الاصيلة ..

(نحن الرجال لن نجد السعادة ما دام ذلك الوباء القذر يكمن تحت جلد النساء)

و في الزمن الذي فقدت فيه الالفاظ وضوحها توقف حسين مردان عن كتابة الشعر لينصرف الى النقد والنثر الادبي . واذا كانت من سمات الشعراء الذين عرفوا كيف يصمتون في الوقت المناسب . وما يزيد من اهميته ان واحد ممن اثر في الادب العراقي منذ الاربعينات واسهم في الريادة وعالج بعض جوانب تجربته الشعرية في التنظير والاشارة الوظيئة وممن عالج امور العالم نثرا فيما كتب عن السياسة والحياة في مقالات نقدية متواصلة ..

انه لم يتحدث بإسهاب ومباشرة عن تجربته الشعرية كما تحدث البياتي ونزار قباني، لكنه تحدث عن الشعر والمفردات ضمن طقوس المقدمات التي ازدانت بها بعض دواوين الشعر لتغطي جانبا من الاضاءة عن التجربة . ففي ديوانه (ارجوحة هادئة الحبال) قال: (اريد ان اقول ان بعض الكلمات الفصحى قد فقدت حيويتها وخمدت فيها الحركة فهي اشبه بكرات زجاجية، من زجاج كثيف لا ينبعث منه اي شعاع وحرارة في الوقت الذي نجد بعض الكلمات العامية تحتفظ في داخلها بكمية كبيرة من التدفق اللوني واللهب المشرق والموسيقى الجادة، لذلك ادخلت بعض الكلمات العامية مثل: قديفة – شيف – نفنوف . في قصائدي لاني اعتقد ان هناك عددا غير قليل من الكلمات العامية الحية يجب ان تدخل في اللغة العظمى) (4)

لقد عرف الكلمة بانها الكائن الذي يورق في القلب ويورق داخل الصاعقة .. وهذا الطفل المدلل الذي نداريه كما حدقات العيون ... كانت اسفاره خصبة وملأى بالكلمات وكان سؤاله الدائم (الاسفار هل تجعلنا نكبر ؟) ... كان مردان يحلم حياته اعظم من ان يعيشها لذا فهو يحملها صليبا دائما معه وبالكلمات وضع هذا الصليب على شغاف قلبه فارهقه ثقله وبالكلمات سافر بعيدا عميقا داخل الجسد وداخل النفس البشرية وعاش في الذاكرة وسيبقى طويلا وعبر حياة ملأى باكداس الهموم والجهد والمعاناة .. وقف مردان بالرفض للتزويق وعاش في العاصفة ما بين عام 1927 – 1972 وعندما توقف نبضه قضى حياة مدروسة ومكرسة لحب الناس والشعب ومن اجل هذا الحب صار مردان طرازا  خاصا في ذلك كله وفي الكلمة والسلوك والرجولة والشاعرية بعد هذا كيف يحق الدخول الى طقوس ولادة وموت هذا الشاعر ... سأعتذر من نبضات القارئ وادخل في موضوعي المتبقي ...

لقد كان الغزل عنده بوابة لا بديل لها ومن نبضاته في مجموعته قصائد عارية جرب حسين مردان المرأة البغي بعد ان فشل في تجربة المرأة الحبيبة وان النجاة يجدها في ما يعانيه عند هذه المرأة البغي وقد قادته رغم مقدرتها الى شاطيء وحل العفن فتمرد عليها وهو يبحث عن شاطئ النجاة(12)

(ضقت بالأرض والسماء فثوري

يا براكين نقمتي وشروري

**********

و اخنقي كل فجوة من خلايا

عقلي الفذ بالغناء المرير

***********

ما حياتي ولم اجد في حياتي

غير حزن يذيب صم الصخور

************

لعنة جئت للحياة وامضي

مثلما جئت لعنة للقبور

مسني الحب فأنقلبت ملاكا

مفعم الروح بالرضا والحبور

و جفتني التي عشقت فماتت

جذوة الخير والمنى في ضميري)(13)

هكذا يتعمق في صورة الجفاء اليائسة التي عشقت في ذاته وماتت مع جذوة الخير والاماني في اعماق نفسه ...

ستة ابيات تقدم هويته الروحية وصدقه اليومي فلم يضق بالارض ويطلب من البراكين التي تسيطر على لفحته وشروره ان تثور من خلايا عقله المتفتح بالحزن ان تختفي الفجوات وما هي حياته التي لا يلتقي معها به الا الحزن الذي يذيب الصخور ويزيد التشاؤم حزنا في لعنته وولادته الى الحياة والذهاب الى عالم الموت ورغم ان لمسات الحب الطاهر التي مسته فانلقب ملاكا بروح مفعمة ورضا واقتناع ولكن ما عاشت جذوة الحب عنده ..

فهذه نقاط التناقضات عند حسين وكأنه يريد ان يقول، اريد وما اريد واختار وما اختار !

1- في ديوان العالم تنور يحاول الاقتراب من المرأة البعيدة عن محطات ثغره ويظهر عندها محطات اختلافه مع العالم الذي ولد فيه هتلر ..

(سأبتعد عن هذا العالم ..

الذي مصيره البوار

فاذا لم تحرق الشمس الارض

فسوف تحرقه قنابل الكوبلت)(14)

فهو يهرب من عالم التجار والاقطاع وصراعات المادة ويجد نفسه مغتربا وعندما يلتفت الى جروحه يعبر عن سخطه لهذه الانانية ...

ليس في العالم من يعمل لاجلي ص346

من يبكي لعذابي

اذن لتنقطع كل الحبال التي تشده للسماء

فالتراب وحده الذي يفهمه(15)

2- في مجموعته صور مرعبة يجد نفسه فيلسوفا اكثر منه شاعرا وان سبيله التجربة لا القراءة .

(اني انظم في اليوم قصيدة واكتب فصلا من مسرحية واقرأ كتابا واسمع الى حديث عشرين صديقا واجيب على خمسين سؤالا واشرب نصف قنينة من الخمر وادخن مائة لفافة ومع ذلك فالفراغ يسحق وجودي)

هل لنا ان نسأل هل احب حسين مردان، هل خضع للحب هو الذي يقول:

(في اليوم الذي سأخضع فيه للحب سأبصق على عظمتي)(16)

و هو الذي عرف الحب بالضعف:

(لا اريد ان اكون ضعيفا في الوقت الذي اريد ان اصبح الها)(17)

لقد تمرد حسين مردان على الحب ورسم له صورة بشعة في نظر الاخرين واراد ان يعري مجتمعا محنطاً بعلاقات وقناعات برجوازية وان يحطم الزيف ولم يكفه الايمان بالعبقرية في وجود الاسلوب الذي يتحدى به التحديات ومحاولات القتل التي جابهته بها الرجعية والبرجوازية  وبالرغم الانا التي تضطهده احيانا ورغم انه لا يرى حوله غير رؤوس الضفادع فهو لا يستطيع الابتعاد عن الناس لأنه يموت بهذا الابتعاد ويبث الثورة في قصيدته رجل الضباب .

 

ان نساءه وعاهراته فقيرات يغرقن في بؤس فقرهن ويتسترن وراء الطلاء الرخيص مثل بقية الناس ..

(فاستهزئي يا ابنة ادم كلنا    ص46

في الاصل للطين المدنس ننتمي

و تهتكي وهبي لكل ميتم

ما يشتهي من جسمك المتضرم

و تخدري بالموبقات فليس في

هذا الوجود سوى الشقاء المؤلم)ص69

و يقف مدافعا عن النسوة اللائي دفع بهن الواقع الطبقي الى هذا الوضع ..

سموك عاهرة ولو عقلوا لما

نادوك الا بالملاك المجهد

يستحقرونك يا بغي وانهم

لأشد منك حقارة فتمردي

ثم اراد ان يفهم الناس ماهية الرذيلة فلها ستار براق يخلب كل من كانت تجاربه في الحياة قليلة واطلاعه على الرذيلة اطلاع محدود .

انزل الله هذه الفاكهة في لحظة من جنون الشاعر ولم تنس الشاعر وتذكره به ابدا بالنهاية المحتومة فيصير الموت اشد قسوة ..

ففي غد سيسقط الجدار

و يهبط الظل على عالمك المضيء

فتحفر الايام فوق صدرك المليء  ص125

بالنار واللؤلؤ والتراب

شعارها العتيق

لن يصدح الشباب فوق غصنك الوريق

ففي غد سيهفت الحريق

1- ومن الربيع والجوع ينقل اعترافه بحب المرأة .. وقد اكتشف ان الجنس والمرأة لا يمكن ان يكونا الا جزءا من القضية في احسن الاحوال، والحرب التي ينبغي ان يشنها من اجل تحرر نفسه وتحرر المرأة والشعب واقتلاع كل جذور الفساد

2-  المرأة التي تشبه التين.

وصفة فمها قائلا شهي كجفة تين اذا اهتجته فاندلق

يطفو عليها العبير فتكسر من شوقها الحدق

فتمتد ولهانه . لتغرق في شطه الارق (228)

اليس حسين الجراح التي فتحتها في اعماقه المرأة . ان الثورة تسري في دمه ويختلط دم المرأة ودم الطغاة تحت ضربات مبضعه .

فالطغاة والمرأة عند حسين سواء، كلاهما يجرح عظمته وهو يأبى ان يحني رأسه ويتمرد، وان التي تجبره الانحناء لها لم تلد ان ايمانه بالحب والحب مصدر عذابه لكن (العظمة عنده اعلى اشكال القتال، القتال على كل الجبهات وفي مختلف الميادين)

كانت المرأة انشودتي الاولى ص382

و انشودتي الثانية كانت الشهرة

اما انشودتي الثالثة

فهي انشودة الكفاح ..

3- الوباء القذر قال في اعماله الشعرية ص 189 (نحن الرجال لن نجد   السعادة مادام ذالك الوباء القذر يكمن تحت جلود النساء) قائلا في القصيدة وتلملمت شفة يمزقها الجنون

وتصاعد  اشبق الغبي الى العيون

وترنمت قدم وغمغم مبسم

وتجمعت قبل يؤرثها دم

وانصاب صوت اهيف يتكسر (190)

3-عظمة الحب عذابه بأشكال القتال ... .

فالمرأة عنده لغم وهو يعرف كيف يفجر هذا اللغم في الداخل فليس الحب سوى طعم واحد ولكل امرأة اسلوب في الحب واللذة الكبرى ليست في الحب نفسه ولكن في الاسلوب ..

هذا هو الحب جرح غائر ويد

خبيرة وصراع يحلك العصبا ..ص16

4- حسين شاعر حسي وغريزي فالمرأة عنده جسد ثائر مترع بالشهوة ممتليء بالرغبة وما على الرجل الا ان يجتلبه .

ثالثا: انواع شعره في الغزل ...

أ‌- الباب الحسي الجمالي

حاجبها وتر .. وجنتها ثمر

و عنقها نهر

يجري به الحليب والخضر  ص111

بلابل تنشد في الليل على التلال

احب ان امسكه ص111

اعضه

اضمه ليهدأ الخبال

و الحب ان لم تلتصق مرة

سالوفة مجهولة المولد

ان المحب الذي لم يتمكن من الوصول الى العنقود فمن الخير له ان يقطع شجرة الحب من قلبه ذلك ان الشهوة اذا لم تجد جسدا تأكله فهي تأكل جسم صاحبها .

و قد تنتظر ويطول الانتظار لكنها لن تأتي فأتي الموت هذا القرين اللعين للمرأة فيموت المحب والحب والاحلام واحزان المساء .

ب‌- الوصفي الداخلي:

و انا واحزاني واحلام السماء ص204

سنظل ننتظر اللقاء

و نعد ساعات الشتاء

حتى نعود

و اذا نموت

و اذا نموت انا واحلامي واحزان السماء

فلقد تعود ولا ترى ..

غير الصدى(24)

هذا التيه والابحار والسفر الطويل للبحث عن الامل الداخلي الذي يعيش في الاعماق .. ان ثمة بحرا من التيه يغرق فيه الشاعر .. تتألف عناصره، المرأة البعيدة المنال . فهو حائر تائه يسير بلا مصير ..

الى اين لا ادري

اسير بلا هدى

احدق في كل الوجوه واضحك

و ارنو الى ظلي بعين بليدة

يغلفها لون من اليأس مهلك

الى اين لا ادري

اسير لعلني

ارى شبحا مثلي عن السم يبحث

امزق صدري .. بالدخان واكفر

و ابصق حولي في عناء كأنني

اقول لحظي منك يا حظ اسخر

الى اين

و انهدت خطاي ولم اعد

ارى عبر وجه بالخداع مخصب

و خال صغير فوق خد مجعد

و خصلة شعر فوق جفن معذب

هنا..

خلف ذاك الباب فوق وسادة

مطرزة الاطراف تغفو عشيقتي ص226

في قصيدته هلاهل نحو الشمس كان يحب امرأة جميلة كقنديل من ماس وكان جسمها القهوائي لا يخرج من رأسه ابدا فهي دم قلبه، ينام وذراعاها على جفنه ووجنتها على فمه ولكن ما ان تفجرت ثورة 14 تموز عام 1958م حتى اصبح لا يجد الوقت لمناجاة حبيبته الحلوة ..

سأترك الحب الى حين

الى ان نجد العسل لكل طفل

و عندئذ سأعود

الى حبيبتي الجميلة كقنديل من ماس

و الى جسمها القهوائي

هم يعتقدون ان الكتابة عن الحب لا قيمة لها بالنسبة الى واقع مرير وان التحدث عن النار هو الذي يخدم قضية الانسان المعاصر .. والحب في رأيه افضل من التحدث عن النار والكفاح . الوطن لا يقل عنها اهمية ولا ينفصل عنها ولولا الشعور بالذات لما وجد الحافز للتضحية والحب اهم الدوافع الانسانية واكثرها استفزازا للعمل .

و ان شعر مردان في قصائد عارية واللحن الاسود وشعره النثري قد يكون متأثرا (بافاعي الفردوس) وفي النثر بالمنثور اللبناني ومترجمات بودلير فهو يظل دائما علما عليه في العراق .

د- المفردات الشعبية في غزله

وبالرغم رهافة حسه واعتماده على ذوقه الخاص ومجافاته لعلم الاصوات اللغوية كثيرا ما يخطئ الطريق وخاصة في ما اراده في استعمال بعض الالفاظ العامية كما اسلفت مثل: قديفة – شيف – نفنوف، ويظهر ذلك من خلال استعمالها والمكان الذي احبها فيه . ومن قصيدة (فم حبيبتي تين):

و شيف من البرتقال تشيب على ثلجهي الحرق

و من قصيدته السمراء الصغيرة:

بسيول ضحكاتها الطليقة

و بلون وجنتها الانيقة

فبكل منعطف حديقة

اصباغها من ذيل نفنوف خفيف ص241

فهو يتمتع بذوق عال وحساسية اصيلة غريزية في انتقاء الكلمات، ففي قصيدته (العذراء والقرد)

و يخض اسفلها الحنين

فتعود تمسح بارتخاء

فخذا يرنحه العياء

لتشب فيه الكهرباء   208

و يقول في قصيدة (هكذا يغني الدم)

ان الفحولة زند     تهفو اليه الخصور

و كل انثى ستنزو      اذا تعالى الزئير

فهذه الحساسية ظاهرة في مقدرته على ترجمة نشيد الانشاد عن العهد القديم .

و- البحث عن الكلمات التي تدله المرأة وتفرح قلبها وتنطق بوصفها:

(اه لو استطيع ان اخلق كلمات جديدة كلمات في اقصى درجات الرقة بحيث تليق بوصفك) (الازهار، ص28)

و لكن هذه المرأة التي بحث عنها هي التي قتلته فقد كان بحاجة الى راعية طيبة القلب لا تتركه وحيدا في الصحراء .. طيبة القلب وبدلا من ذلك دفعت به الى المسلخ .

ز- القصص الجنسية الاجتماعية وتأثره بعمر بن ابي ربيعة ففي قصيدته (الحصوة):

و اقتربت خطوة     كأنها غنوة 229

تصدر عن مغارها الغزوة

فلم ازل اصب في طريقها النشوة

و اسكب اللطف على نوابض الجفوة

حتى اذا مالت بها الشهوة

و انغلقت في قلبها الحصوة

و لم تعد منيعة الصهوة

جاءت وفي سيقانها دعوة

تقول لو تفرشني عنوة

و تمتطي الهرة بالقوة

تململ الحيوان في الهوة

يطلب لحم المرأة الحلوة

فنرى هذه القصة التي يرددها في المغارة والكلمات السهلة والتجربة المنسجمة الصادقة والقدرة المتناهية والكلمات المباشرة في وصف المرأة . (فخذك السمين – ردفك الثقيل):

فكل شيء فيك يا سيدتي جميل

في منتهى الجمال

فشعرك الغزير

بيدر ريش اسود تنام في مفرقه الطيوب

و ثغرك الصغير

علبة (حلقوم) على شفاهنا تذوب

و جيدك النضير

شباك عاج حوله قلوبنا تلوب

و رصعة في خدك الاسيل

يا لخدك الاسيل

بحيرة تطفح بالضحك وبالدلال

يشرب من شاطئها الحمام

حلاوة الهديل(123)

 

ح- التكرار في القصيدة ..

انه عنصر اساسي لأنه يحدث نوعا من التداعي الذهني عند القارئ وينبه الى الحوار الخفي الذي تدور عليه القصيدة ولا تخلو كل قصائده من التركيز على عبارة تؤكد فكرة القصيدة ولا توجد قصيدة لدى حسين مردان وخاصة القصائد المكتوبة بطريقة الشعر الجديد تكاد تخلو من التكرار .

رابعا: من هي المرأة التي تغنى بها ؟

في رسالة ذات بعد واحد يجسد حسين مردان ما يمكن تسميته البعد الثالث في حياته وهذه الرسالة موجهة بكل ما في اعماقه من حرقة والم الى المرأة التي تغنى بها اكثر من عشرين عاما . (بعد كلام كثير اقول يا سيدتي ان قلبي يتضخم حتى ليخيل لي ان جسمي كله اصبح قلبا، فمنذ سنين طويلة وانا الوك اسمك الجميل، اداعبه .. اعضه ثم اعود فأفرز حروفه واضعها فوق لساني وفجأة ازدريه   واتغذى به كي ارجعه بعد ذلك الى شفتي قطعة لبان لا تجف لانه كل ما استطعت الحصول عليه في الحياة بل ان اسمك يا سيدتي هو حياتي اخطه على الورق وانشره على المائدة وارشه فوق وجوه كل الناس وفي الليل اضعه بجانبي ليغني لي عن العشق وعطر الزهور الغريبة حول حزامك الحريري وهو يتحول ويمتد في احلامي الى بستان مكهرب بالموسيقى والغناء وعندما يضربني الزمان بسهمه الوذ بما فيه من حرقة لحنان وعذوبة النداء الذي لا يخيب) .. انه حاول ان يفلت من خيوط الحب الذهبية بالارتماء فوق عدد لا يحصى من الاسماء المتخمة بالاغراء الا ان الابتسامة التي تستقبله بها منذ عشرين عاما لم تتبدل، وفي مرضه ما قبل الاخير يكشف حسين وملامح الموت في قلبها الضحوك . فقد قيل لها ان يذوب في المستشفى وانه قد يموت فجأة ومع ذلك لم يخطر بعقلها الصغير ان تسأل عنه مجرد سؤال . (اي جحود ان تنسى المرأة الشاعر الذي صاغ قطرات دمه اغنيات لعينيها) .. فيودعها غير اسف الا على الايام التي ضاعت في اللعب مع السراب ولم يجد سوى العودة الى الفقراء، انهم اصحاب الثقة والحب الحقيقي .

 

خامسا: تحليل لبعض قصائد مردان:

الحديث عن قصائد طاووس الغربة والمنفى والصدق في مدائن الحلم الاخرى .. يستبدل سيزيف صخرته بجمجمة شاعر ..

هل تسمعين .. 157

في الشرفة الخضراء عصفور صغير

يشدو بأغنية مقدسة الرنين

هل تسمعين ..(157)

لقد بدأ بحالة الانتباه المفاجأة من خلال شرفة هذه الاميرة التي يتسلقها العصفور الرمز الذي يغني اغنية العشق المقدس ..

اني احب الصيف واللهب اللعين

و بخار انفاس يقطعها الحنين

اني احبك اهة هل تفهمين ؟()

هكذا يربط بين اصداء التعب وانفاس الحيران وهو يصف هذه الانفاس المتقطعة بالبخار .. ثم يعترف بكل صدق بهذا الحب والشهوة .. ويكمل في سماع همسها ...

انا لست باردة الجبين

و تململت شفة يمزقها الجنون

و تصاعد الشبق الغبي الى العيون

و ترنمت قدم وغمغم مبسم

و تجمعت قبل يؤرقها دم(33)

ما هذه التنقلات بين عالم الفرح والحزن وهذا الترنيم للجماد وغمغمة للمبسم وحيوية القبل المؤرقة بالدم ثم ينساب الصوت الاهيف فتكسر وكما سبق الشاعر بان الغصن الاهيف والطول الاهيف وهو يضع هذه المفردة للصوت واضاف له صفة التكسر وان فيه من الاشواق ذات اللون الاحمر ..

و انساب صوت اهيف يتكسر

فيه من الاشواق لون احمر

اني اتيت مع الصباح

نشوى ترنحني الرياح

لاشم رائحة الاقاح

من عنقك البض السمين

اهلا بزنبقتي الصغيرة

اهلا باحلام الظهيرة(190)

و يستدرك حالة الترنم مع عاصفة الريح ومن خلالها يشم العطر الاقاحي ... ثم يرحب بهذه الاميرة التي تأتي مع احلام الظهيرة . ثم يستطرق الاعجاب اكثر ...

هل تشعرين ..

حتى حديقة بيتنا حتى السياج

يهتز من فرح ويحلم بابتهاج

و باهتياج ..

بعشيقتين صغيرتين نهداهما عسل وعاج

و الان هلا تسمحين

قومي اطرحي هذا الشعار

فقد انقضى نصف النهار

قومي انظري هذا اللظى المتفجر

فيثور صدر اشقر

لم يستمع يوما لهمهمة الرجال

ابدا .. ولم يرشف صداه سوى الخيال ..(190)

هنا وقفات التأمل البارزة .. بالمقارنة بين الالوان وتعاقب النهار وشدة اللظى المتفجر من الصدر الاشقر ... وهو يبين حالة هذه الاميرة التي لم تستسلم لرغبة ما .. وهو يعترف بالخيال وهذا اخر ما يحلم به .. ويرهن في اخر القصيدة بان تتقدم له .. ليفرش صدره الحرير .. وهذا هو الصراع ونزيف التعب .. حتى يموت القلق والحرمان ..

فتقدمي فهنا فراش من حرير

نحن الحرير على الحرير

هل تدركين

هيا فما احلى الصراع

هيا لنغرق بالعرق

حتى اذا ارتعش النخاع

فسوف ينطفئ القلق ...(191)

عندما يمثل شاعرنا الكبير السياب في قصيدة النهر والموت ... فهناك النهر هو الحياة جارية جريان هذا النهر . وهو ينظر الى الموت الجزء الثاني من كينونة الانسان . اما الشاعر حسين مردان فهو يتخذ من الحب الطرف الثاني .. ولكن كيف يبتدأ عنفوان القصيدة بهذا السطر الواحد:

(انا لا استطيع ان انسى الموت الا بين احضان امرأة جميلة)

نعم فقد كانت المرأة موضوعه الخالد الدائم ولو عمنا لحظات هادئة مع قصيدته ..

وراء سور الليل في صمت

من عالم الصمت

يصرخ بي صوتي

يصرخ بي عبر المدى صوتي

كأنه موتي

الفجر لن يطلع لن يأتي

و انت يا انت

يا فوهة الثغور يا اختي

في الشوق والموت

يا ضربة الكبريت للزيت

النور لن يشرق من الميت

لن تطلع النار من الميت

و فجرنا لا تفزعي

الفجر لن يأتي ..(197)

اظن ان هذا السور المطوق والليل العاصف في صمت الحياة يصرخ الصوت مناديا عبر المسافة . انه بشارة الموت .. وبانتظار الوليد .. الفجر ..

و من قصيدته التائية (المطهر) ابتدأ بشرح بعض ابياتها بقوله: (ان الحب هو الشيء الوحيد الذي ينقذ الرجال من عفونتهم) .. احلى واروع ما في الشاعر حسين مردان هو الواقعية في المباشرة والتقريرية في ابداء رأيه دون خوف فهو يرصد واقع الحياة ويرى رائحة العفونة في الرجال ..

انت يا فرحة الربيع بصدري

و انفجار الشعاع في نظراتي

انا لولاك لم اكن غير جسم

ذابل الجسم متعب الخلجات

يبصق العمر في دروب الخطايا

قطرات تفيض باللعنات

فعلى كل نابض منه ذكرى

قبلات محمومة الهمسات(198)

يبدأ بالمخاطبة المباشرة وكأنه يقف امام هذه الاميرة التي هي فرحة الربيع بصدره وهذا الصدر هو العشب والاخضرار وانفجار الشعاع في ليلة الميلاد في كل نظرة من نظراته .. فهي الشعاع والنور الكبير .. ثم انا .. وهذه الانا الذاتية التي يتناول بها عوامله النفسية بالاعتراف انه لولاها لما كان غير جسم ذابل اللحم متعب الانفاس ولن يكفأ العمر الا بصقات محمولة اللعنات .. ولكن لماذا الانفجار في وسط القصيدة بعد الاستسلام بالحقيقة والبوح بالأثر المباشر لنقرأ:

هكذا كنت يا فلانة وحشا

شرس القلب فاجر الرغبات

يعلك الموت جانبيه فينزو

يتفل السم في بقايا الرفات

و يريق العظام لونا غريبا

فوق صدر مدنس الرعشات

فارسلي عينك العزيزة نحوي

تغرس الورد في صحاري حياتي

و ترش الضياء بين خلايا

جسد ذاب في يد الموبقات(198)

لماذا تحولت الى وحش فاجر وشرس تفجر في رغباتها ... وتعلك الموت وتبصق السم على جثته ورفاته وتحول العظام الى اشكال غريبة ... ثم يطلب منها ان ترسل عينها لغرس الورد في صحراء حياته ... وترش الورد لخلايا جسده .. حيرة حقا في تسعة ابيات يبدأ ويتوسط في الهجوم ثم ينتهي بالتأمل...

لماذا يكتب حسين القصيدة وبعد ان يحصر عنوانها الكامل في سطر واحد مثل (الحب بذرة لا تنبت الا في تربة من نار ولا تورق الا اذا سقيت بالدم الابيض)

اعوذ بالشيطان من نظرة   تغوص في قلبي كالمبرد

من شفاه لو سرت نارها   يوما الى ثغري ولم تبرد

و من قوام لين الملتوى   وحاجب كالشفق الاسود

يا انت يا ارجوحة لم تزل   هادئة الحبال ولم تصعد

متى يبث الفجر اضواءه   وانت كالفجر على ساعدي

يرعش كتفيك صدى قبلة   محرقة كصخرة الموقد

و يزفر الشوق على حلمة   مترعة باللهب المرعد

فينثني ساقك انشوطة    تشنق ظهر الشاعر الملحد

و الحب ان لم نلتصق مرة   سالوفة مجهولة المولد

غبية من تقضي ايامها   وحيدة في ظلمة المرقد

لكننا والارض محدودة   سنلتقي يوما بلا موعد(206)

حقا لأنها لسالوفة جميلة جدا .. تبدأ بالتعويذ من الشيطان والتعجب من النظرة الغائصة كالمبرد الحاد الى القلب ومن الشفة عندما تسري الى الثغر المتلهف ومن القوام اللين والحاجب مثل الشفق الاسود ... ثم يخاطب هذه المرأة العجيبة وانها ارجوحة هادئة الحبال ... ثم يسأل متى يرسل الفجر اضواءه على ساعده ومتى ترتعش القبلة في الوداع على اكتاف حبيبته  ويزفر الشوق على الكلمة المترعة باللهب . ثم يصف الساق الذي في انثنائه يشنق ظهر الشاعر الملحد وهو يعترف هنا بالحاده من اجلها ثم يضع الحل بان الحب اذا لم يلتصق الحبيبان ما نفعه ..

فهو مجهول وسالوفة ضائعة .. ثم يعمم ان المرأة غبية اذا بقيت وحيدة في رقدتها بعيدة عن حرية الحب .. ويدخل الى باب الامل ويجيب على توقع التفاؤل .. ان الارض محدودة الجهات ولابد من اللقاء بدون وعد ...

و كما اعتاد ان يكتب سطره الاول في افتتاحية كل قصيدة يقول في قصيدته الغالية: (ان المرأة لغم من البارود واصابع الرجل وحدها هي التي تستطيع ان تفجر ذلك البارود) والليل جاء فتكومت تحت الغطاء ...

عذراء يصبغها الحياء

راحت تدلك بارتخاء

قمرين في صدر بديع

و برأس اصبعها الرفيع

مفتاح جرس الكهرباء

فتثاءب القرد الصغير

فمضت قصور في الخيال

رجلا قوي الساعدين(42)

يحتلها في ساعتين

فتقوم في قبلاته

و تذوب في لمساته

و يخض اسفلها الحنين

فتعود تمسح بارتخاء

فخذا يرنحه العياء

لتشب فيه الكهرباء(208)

في اعتقادي ان هذه القصيدة الفاحشة التي يظنها القارئ والتي يحكي بها قصة هذه المرأة العذراء مع القرد المتوحش الذي هو الرجل .. لا توجد في مفرداتها اية صعوبة قصيدة الطابوحة:

لم تنهض الطيور

و الليل ما زال هنا

يوزع الندى على الزهور

فتصعد العطور

غمامة تنزل فوق نهدك الوليد

و لم نزل في منتهى السرور

نرقب كيف يبزغ الصباح

من ساقك المتين121

يقف هذه المقدمة السريعة في بلوغ درجة صمت الطيور التي زار ظلمتها الليل وهو يوزع الندى على الزهور التي تصعد عندها رائحة العطر مثل الغمامة على نهدها الوليد .. ولم تزل بالرغم من هذه الحالة في عالم السرور ننتظر وبتفاؤل ببزوغ هذا الصباح من اين يتجه الى المرأة حتى يملأ الكؤوس ثانية

و نملأ الكؤوس من جديد

بالصبر والخمور

ليستقر الشوق في الصدور

و يهدأ الصباح

للموج فوق خصرك النحيل

و الليل ما زال على الزهور

ينفض عن غليونه النعاس

فيصمت الرنين في النحاس

ونحن من حولك يا نافورة العبير

يذبحنا الحبور

فنمضغ التبغ بلا شعور

لكنني وحدي انا حزين

وحدي انا الحزين

يلهث في عروقي الحنين

بغفوة على نهار فخذك السمين

و جرعة من ريقك الثمين(122)

لقد بدأ يملاْ الكأس بشيئين هما الصبر والخمر حتى يثبت هذا الشوق في الصدر ويهدأ الصباح فوق خصرها النحيل وما زال الظلام مطوقا هذه الزهور حتى ينفض من غليونه النحاس وثم يستدرك حالة الجمال في صوت الرنين الساكت في النعاس ويشير الى صورة التجمع من حول نافورة العبير فالحبور هو القاتل ونمضغ التبغ بدون شعور وهو لوحده ملك هذا الحزن اللاهث في عروقه الحنين وهو يبحث عن غنوة فوق فخذها السمين

و انت في نفنوفك الانيق

طابوحة ترش في وجوهنا البريق

و عندما ادخل كل ردفك الثقيل

يا لردفك الثقيل

في مقلتي يجرحها رطل من الفضة والحرير

عندها اود لو اساله

ياانت يا اعز من روحي

و يا احلى من النور الى الضرير

كيف ترى يحملك السرير

و قبل ان تستيقظ الطيور

و قبل ان يرتحل الليل عن الزهور

و قبل ان اموت

اريد ان اصرخ فوق غابة السكون

فكل شيء فيك يا سيدتي جميل

في منتهى الجمال

فشعرك الغزير

بيدر ريش اسود تنام في مفرقه الطيوب

و ثغرك الصغير

علبة(حلقوم) على شفاهنا تذوب

و جيدك النضير

شباك عاج حوله قلوبنا تذوب

و رصعة في خدك الاسيل

يا لخدك الاسيل

بحيرة تطفح بالضحك وبالدلال

يشرب من شاطئها الحمام

حلاوة الهديل(122)

 

 

 

 

 

خلاصة البحث

تهيمن الانثى في خطاب الشاعر حسين مردان فقدمها بشكل تقليدي وقدمها رمزا ً او معادلا فنيا للأرض والوطن وقدمها ايضا ً ضمن هذه التشكيلات

1- شكل المرأة:

ان حسين مردان رسم للمرأة اشكالا كثيرة في قصائده ونثرياته لا يستطيع ان ينغمر في حب واحدة دون عشيرة من النساء فهو الرجل الذي حكمت عليه الالهة بالوحدة ولكن .. ما هو شكل المرأة المطلوب

1- ذات وجنة مستديرة كقرص الجبن .

2- ذات سمرة معجونة بالحليب ترش الجاذبية لمسافات بعيدة .

3- ذات جسد ثائر مترع بالشهوة وممتليء بالرغبة .

4- امرأة حاجبها وتر ووجنتها ثمر وعنقها نهر يجري به الحليب والخضر.

5- المرأة قنديل من ماس ذات جسم قهوائي .

6- لم تصبغ اظافرها بعد وما زال الحليب يفوح من ثغرها .

7- المرأة لم يلمس ثغرها الانيق غير كلمة الحرية .

8- المرأة التي اذا نظرت نظرة واحدة تقتل الف شيطان في قلبه

9- المرأة التي خصلة شعرها الذي يعبده لو لامست فمه لحولت الفرات الى اغنية تحمل كل طفولة العالم .

10- امرأة نهلستية الشفتين تذر النار دين على الجرح .

2- طبيعة المرأة النفسية:

لقد عاش المرأة بكل حالاتها النفسية وقد عرف هويتها بما يلي:

1- المرأة لا تحب الا الرجل المرأة .

2- المرأة تطلق رصاصتها الاولى دائما نحو كبرياء الرجل .

3- المرأة اللعوب التي تبحث عن البديل لتعويض الفراغ.

4- المرأة البغي تستطيع ان تنجيه مما يعانيه ولكنها تقوده الى شاطيء عفن يتمرد منه .

5- نساؤه وعاهراته فقيرات يغرقن في بؤس عهرهن ويتسترن وراء الطلاء الرخيص مثل بقية الناس قوله:

سموك عاهرة ولو عقلوا لما    نادوك الا بالملاك المجهد

3- الصورة العامة للمرأة:

لقد يصعب ويصعب ويصعب ان تحدد صورة عامة للمرأة عند حسين مردان فهو في السطر الواحد تجده ضياعا كاملا ومتاهة لا منفذ لها، ولكن استطيع ان احدد بمقدار فهمي السريع المرأة التي يريدها (امرأة جميلة، طيبة القلب، لم يلمس ثغرها الانيق غير كلمة الحرية، تقاسمه التعب وتفهمه ويفهمها، صاحبة الحضن الدافي والجسد الثائر)

4- اكتشاف اسم واحدة من حبيباته:

لا اظن بان احدا يستطيع اكتشاف اسما واحدا من اسماء حبيباته فهو الذي اعترف بذلك:

(انا الوك اسمك الجميل

اداعبه .. اعضه ثم اعود

فافرز حروفه واضعها فوق لساني

فجأة ازدرده واتغذى به لكي ارجعه بعد ذلك

الى شفتي قطعة لبان لا تجف، بل ان اسمك يا سيدتي هو حياتي ..

اني اخطه على الورق وانثره على المائدة وارشه فوق وجوه كل الناس)

لقد تغنى وخاطب وكنى ولكنه لم يعرض اسما واحدا من اسماء حبيباته بل بقيت اسماؤها مجهولة ولذلك سمى ديوانه .. عزيزتي فلانه .. وقد تكرر عنده هذا المجهول الرمز الذي لم يبح به دائما حتى موته .

5- طبيعته النفسية:

لا استطيع ان احدد لدرجة الكمال طبيعة هذا الشاعر النفسية لانه شاعر تائه عاش الضياع وعاش الضياع فيه فهو تناقض في يومه بل ساعته ولحظته والملل غذاؤه الدائم .

1- ان يعد الحب نوعا من الضعف (لا اريد ان اكون ضعيفا في الوقت الذي اريد ان اصبح الها) .

2-  الاعتراف والتناقض: (في اليوم الذي سأخضع فيه للحب سأبصق على عظمتي) والتي يحبها اختطفها وهي تهبط من سيارة تكسي .

3-  يفخر بعبقريته وقوة اكتشافه .

4- الحب لا يدوم في قلبه شهر كما يقول ويعترف (انا لا اخاف من السماء ولست اؤمن بالقدر مهما عشقت فلا يدوم العشق في قلبي شهر)

5-  التناقض بالاعتراف والاستسلام (لا استطيع ان انسى الموت الا بين احضان امرأة جميلة) ثم الايمان بالحب وان الحب مصدر عذابه.

6- العظمة عنده اعلى اشكال القتال على كل الجبهات وفي مختلف الميادين .

7- الحب الذي يريد ان يكون كما هو في الطبيعة وليس كما يبدو من خلال التقاليد والمثل الاجتماعية .

8-  انه شاعر جنسي يشق الاعماق ويصور الانفعالات والخلجات والمشاعر الدقيقة .

9- يحتاج الى امرأة طيبة القلب لا تتركه وحيدا في القفار وانها لم تكن هكذا بل دفعت به الى المسلخ .

6- حبيبات حسين مردان:

1- الحبيبة البغدادية (يا لعينيها التي تلمع في قرارة الكأس، صديقتي البغدادية)

2- (كريستال بائعة التذاكر، ص98، الازهار) .

3- القطة النمساوية بائعة التذاكر، فهي حبيبة السفر التي راها مع بعض الشبان

(اهيف املس الخدين) ترقص مع بعض الشبان .

4- الحبيبة التي سماها الجنية اللعوب والسلحفاة الفضية واللبوة المفترسة .

5- التي احبها واختطفها الموت وهي تهبط من سيارة تكسي .

6- المرأة البغي .

7- المرأة الحبيبة التي تغنى بها اكثر من عشرين عاما .

8- العاهرات الفقيرات

9- امرأة صغيرة استقرت في احشائه كالنملة ولم تصبغ اظافرها .

10- المرأة المائة فقد احب اكثر من مائة امرأة (الازهار، ص56) .

 

الاستاذ الدكتور صدام فهد الاسدي

كلية التربية للعلوم الانسانية

.........................

الهوامش

- مثبته في المتن

مصادر البحث

الاعمال الشعرية

1- من يفرك الصدأ ؟ او حسين مردان . دعلي جواد الطاهر دار الشؤون الثقافية العامة 1988 بغداد .

2- الاعمال الكاملة حسين مردان ج2  د. عادل كتاب نصيف العزاوي بغداد 2010 دار الشؤون الثقافية العامة .

3- حسين مردان الدكتور عادل كتاب انصيف العزاوي  بغدد دار الشؤون الثقافية 2009

4- ويكون التجاوز محمد الجزائري سلسلة الكتب الحديثة دراسات نقدية معاصرة في الشعر العراقي سنة 1974

5- مجلة الآداب البيروتية عدد السادس سنة 1954

6- مجلة الاديب المعاصر العدد الرابع السنة الاولى اذار 1973

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم