صحيفة المثقف

فاروق مواسي: صلة اللفظ بمدلوله

faroq mawasiهي ظاهرة تنبه إليها علماء اللغة كابن جنّي (ت. 1002)م  في كتابه (الخصائص)  في باب "تصاقب الألفاظ  لتصاقب المعاني" ج2، 145- 152، وفي باب " إمساس الألفاظ أشباه المعاني"، ص 152 ، فثمة نماذج كثيرة أوردها ابن جِنّيْ، فيذكر مثلاً أن العرب توهموا في صوت الجُندُب استطالة ومدًا فقالوا (صرّ) وفي صوت البازي تكرارًا- (صرصر)، وذكر أن وزن فعَلان يدل على اضطراب، "فقابلوا بتوالي حركات المثال توالي حركات الأفعال".

يقول ابن جني "إن مقابلة الألفاظ بما يشاكل أصواتها من الأحداث باب عظيم واسع"- ص 157، فهو يعطي نماذج منها مثلاً- ما هو للتفريق بين النضح والنضخ، فيقول "فجعلوا الحاء لرقتها، للماء الضعيف، والخاء لغلظها لماء أقوى منه – "فيهما عينان نضاختان"- الرحمن، 66.

في هذا الباب ونحوه نلاحظ في اللغة (الأونوموتوبيا= onomatopoeia )- أي محاكاة المعنى للصوت في أصوات الحيوانات وعناصر الطبيعة كدويّ الرعد وزقزقة العصفور أو سقسقته وقضقضة البرد، وهذه أوردها البحتري في قصيدته عن الذئب:

يقضقض عصلاً في أسرتها الردى *** كقضقضة المقرور أرعشه البرد

ثمة نماذج كثيرة في لغتنا فيها موسيقا اللفظة.

نجد نماذج تعبيرية في القرآن الكريم، وهو كتاب اللغة الأول والأعلى.

ففي الذكر الحكيم وردت الآية- {يأيها الذين آمنوا إذا قيل لكم انفِروا في سبيل الله اثّاقلتم إلى الأرض..}- التوبةـ 38 نلاحظ هذا الثقل في نطق كلمة (اثّاقلتم)، فعند الجهاد أو النفرة تجد المتخاذلين يتباطئون، وكأنهم يحملون حملاً ثقيلاً، فلو قيل (تثاقلتم) لكان اللفظ  أخف وطئًا.

ثم إننا نلاحظ أن لفظة (يصطرخون)- سورة فاطر، 37،  وكأنها "غلظ الصراخ المختلط المتجاوب من كل مكان، المنبعث من حناجر مكتظة بالأصوات الخشنة...".

ثم نقرأ  {وإن منكم لمن ليُبَطِّئنَّ...}- النساء، 72،  فهنا ترتسم صورة الإبطاء في جرس اللفظة، كما نلاحظ صعوبة جملة (أنُلْزمُكُموها) في قوله تعالى {أنلزمكموها وأنتم لها كارهون..}- هود، 28، فالجملة تبين جو الإكراه، وكأنك تكره نطق الفعل والفاعل والمفعول به تمامًا ككره القوم لرحمة الله.

وإذا سمعت {وما هو بمزحزحه من العذاب أن يعَمَّر...} صورت لك كلمة (مزحزحه) صورة متحركة ، وكذلك {فكبكِبوا فيها هم والغاوون} يحدث جرسها صوت الحركة التي تتم بها.

ومن الألفاظ التي اشتقها القرآن ليوم القيامة (الصاخّة، الطامّة)  وكأننا نسمع الدوي أو الطنين في كل منهما. (سيد قطب "التصوير الفني في القرآن" ص 74، وقد أفدت هذه النماذج منه، وتصرفت في التعليل).

يتصل هذا مع ما رآه بعض اللغويين في القيمة التعبيرية للحروف، وبالطبع فإن الأمر يطّرد، وليس بالضرورة أن يكون قانونًا، فإليك بعض ما ورد في كتب اللغة:

*الراء في أول الفعل تدل على الحركة: راح، رجع، رجف، رحل،  ردم، رفس، ركب، ركل، ردم، رفس، رفع، رقص...

*  الغين تدل على الغموض والاستتار: غاب، غار، غاص، غبر (بمعنى مضى)، غبش، غدر، غرب، غش، غشّى، غفر، غمر، غمس، غمض، غمّ...

* الفاء تدل على الفصل والفتح: فاح، فتح، فتّ، فجّر، فجر (الصبح)، فرج، فرد، فرم، فسر، فشا، فصل، فلج (شقّ)....

* النون تدل على الظهور: نبت، نبح، نبر، نبس، نبش، نبض، نبع، نبغ، نشر، نفر، نما...

من الكتب المدهشة في هذا الباب كتاب حسن عباس (خصائص الحروف العربية ومعانيها)- منشورات اتحاد الكتاب العرب، دمشق- 1998.

إنه يقف على كل حرف في بداية الكلمة أو في وسطها أو في نهايتها فيجد هذا الاطراد في ظواهر لغوية يحصيها. فمثلاً يقول إن الضاد في البداية يكثر فيها معنى الرقة أو النضارة أو الضعف، نحو ضؤل، ضاق، ضحل، ضل، ضمر...إلخ بينما هي في نهاية الفعل يكثر فيها الشدة والضخامة والامتلاء، نحو  حض، رض، ركض، عض، قرض، خاض،...إلخ

أخلص إلى القول إن لغتنا حاشدة بموسيقية اللفظة وبتماثلها مع معناها، وهذه من خصائص العربية.

والحديث في هذا الموضوع يطول.

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم