صحيفة المثقف

جمال العتابي: ذات صباح

jamal alatabi لم يتجاوز خالد السلمان الثلاثين ربيعاً من عمره، قادم من ريف الناصرية بعد أن وجد نفسه وحيداً من بين أربعة أشقاء إختطفتهم الديكتاتورية وغيبتهم في (أرض السواد) الواسعة، تمكن من الإفلات من كلاب الحراسة المسعورة، نحو العاصمة يجرّب شجاعته في غرفة ضيقة تطل على شارع فسيح يضج بحركة الباحثين عن العمل قبل طلوع الشمس، ويواصل دراسته مساءً ليختبر عقله ، ويسترد إنسانيته المفقودة بين الليل والنهار في أضيق وأوسع مساحة، في المخيلة التي تحتاج الوجدان ورهافة الحس، يلتقط الأشياء فيحللها، ويعيد تركيبها من جديد على نحو مغاير للأصل، أوبما يشبه الحلم.

الصورة الجديدة لكفاح خالد نجل ذاك المعلم الذي علّمه مسك الفرشاة أول مرّة ليرسم نهر الغرّاف تظلله أشجار الصفصاف والنخيل، بإنحناءة تشبه حاجب صبية مقوس.

لم تعد الصورة تبارح مخيلته وهو يغادر غرفته بعد تردد، لكنه يريد أن يزيح ثقل كابوس عانى من وطأته طوال الليل ...إحساس ثقيل بالموت ، سماء مثقلة بغبار بارود السيارات الملغمة يقدمها (الأشاوس) هدايا للعراقيين كل يوم.

كان عليه الإنتظار قليلاً ليداوي تردده الذي ما برح أن غادره ليتجه نحو الشارع، حيث الموكب الجنائزي بإنتظاره، وعربات الموتى تتقدم نحو المقابر.

 

2

الـ B B C مساء ً

ينقل مراسل إذاعة BBC هذه الأثناء من بغداد خبراً موجزا مفاده : ان سيارة ملغمة يقودها إنتحاري إنفجرت في غرب بغداد ، ويضيف مراسل الإذعة (المحايدة جداً) ان السيارة إستهدفت مطعما يرتاده رجال الشرطة . إنتهى الخبر!!!

ببساطة يتحدث المراسل عن القتل الجماعي لبشر من المارّة في أسواق تكتظ صباحا بالنساء والأطفال والمرضى والمتسولين والباعة. أشلاء لأجساد ، لحوم تتناثر تهرسها العجلات الهاربة من التوحش، دماء تصبغ الإسفلت باللون الأحمر الممزوج بالمياه الآسنة ومياه مطافىء النار.

المستمع المرعوب عن بعد عليه أن يصدق ما تنقله الإذاعات الملغومة هي الأخرى.

تذكرت خالد السلمان الذي كان يقرأ على مسامعي ذات صباح بعضا من قصائد محمد الماغوط ، والسياف العربي لنزار قباني ، شعرت بالخوف عليه ، حين تمكنت من الوصول للحيطان التي ضمته ، وجدت كومة من لحم ، إلا ان الشيء الوحيد الذي ظل حيا ، وجهه المبتسم ، ونظارة سوداء لم تخفِ إتساع دورة وجهه.

 

جمال العتابي

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم