صحيفة المثقف

كمال الهردي: مدام بوفاري من روائع الأدب الفرنسي

kamal alhardi(وفي الساعة الرابعة صباحاً، بدأ شارل رحلته إلى برتو، متدثراً بمعطفه. ولم يكن قد تخلص تماماً من سلطان الكري ودفء السرير، فترك دابته تحمله في خطوات هادئة تؤرجحه، حتى إذا وقفت من تلقاء نفسها عند الحفر المحاطة بالأشواك - التي كان الفلاحون يحفرونها على حدود المزارع - استيقظ من اغفائه منتفضاً، وتذكر صاحب الساق المكسورة، فأخذ في استعراض كافة أنواع الكسور التي عرفها. وما لبث المطر أن كف عن السقوط، وأخذ النهار يدنو. وعلى غصون أشجار التفاح العارية، وقفت العصافير جامدة، وقد نفشت ريشها لريح الصباح الباردة. وكان الريف يمتد على مرمى البصر، ومجموعات الأشجار المحيطة بالمزارع تبدو كبقع بنفسجية داكنة على الفضاء الرمادي الشاسع الذي كان يختلط عند الأفق بظلمة السماء. وكان شارل يفتح عينيه بين الفينة والفينة، وما يلبث النعاس أن يغلبه، ويستسلم لسنة حالمة يختلط فيها حاضره بذكرياته، حتى لقد خال نفسه شخصيتين في وقت واحد: فهو طالب، وزوج معاً، وهو نائم على فراشه كما كان منذ هنيهة، ثم وهو يجوس في قاعة الجراحات كما كان يفعل أيام الدراسة، واختلطت في رأسه رائحة العقاقير بأريج الخضرة الندية. وحين بلغ ريف برتو لمح فتى صغيراً يجلس على العشب، عند حافة حفرة. وهتف الغلام إذ رآه : أأنت الطبيب ؟ فأجاب شارل: أجل. خلع الغلام نعليه وأمسك بهما بين يديه، وانطلق يعدو أمامه ليرشده إلى الطريق).

طلّ علينا الروائي العالمي جوستاف فلوبير (1821 - 1880) برائعته (مدام بوفاري) ليتناول - في إطار روائي - المجتمع الفرنسي في حقبة القرن التاسع عشر من زاوية حياة الترف والسرف التي كانت تعيشها الطبقة الراقية من المجتمع والمفرطة في حفلاتهم الصاخبة، وموائدهم الزاخرة، وشهواتهم الحادة التي لا شبع معها ولا ري. وكيف أن مدام بوفاري أصيبت بهوس ذلك الأسلوب من الحياة، والذي كان يرتبط في ذهنها بالرقي وحياة النبلاء. وما لبثت أن وقعت في شِراك الخيانة الزوجية لمرتين مما حدا بها إلى الانتحار...

المتذوق لقراءة السرد الروائي يجد في رواية (مدام بوفاري) متعة في قراءة الثلث الأول من الرواية، إذ سطر جوستاف هذا الجزء من روايته بعناية فائقة وبحرفية وبزخم وصفي بديع ودقيق، غير أن تلك الروعة تبدأ في الانحسار والانحدار في الثلثين الأخيرين نظرا" للإفراط في التصوير الوصفي على حساب المسار السردي الروائي العام. وعلى كل حال، فإن جمال الجزء الأول وروعته تطغى على التراجع الإبداعي في الجزءين الأخيرين من الرواية.

 

كمال الهردي - كاتب وروائي يمنى

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم