صحيفة المثقف

جمال العتّابي: شقاء الوطن والغربة في رواية (أنا ونامق سبنسر) لشاكرالأنباري

jamal alatabiموضوعات الحرب والانكسارات والخيبات والمنافي شكلت مرجعاً اساسياً، إزدهرت به الكتابة الروائية العراقية، ومادتها في هذا المنحى جاذبة لروايات عديدة صدرت بعد عام 2003، تسرد وتتنفس مناخاتها لتصبح جسدها ونبضها بإمتياز. ومن ثم لتنسب نفسها حضوراً في الابداع الروائي العراقي .

شاكر الانباري في روايته الاخيرة الصادرة عن دار الجمل عام 2014 (أنا ونامق وسبنسر) تحرك في هذا المحيط، وكتب روايته غير مبتعد عن هذا المناخ الطاغي الذي إتسمت الحياة به. وما انفك عنه . ملازماً لمساحة الرؤيا والتفكير التي تغلغلت في المشاعر والعقل في أغلب رواياته: إن لم نقل جميعها ..

يلتقط الانباري نماذجه البشرية بدراية وتجربة حقيقية معاشة، وتبرز من بينها الشخصيات المحورية الثلاث(الرواي، أنا) ونامق، ونادر اختاروا المنفى النائي (كوبنهاكن) بعد سلسلة من عذابات الوطن حينما كانت بغداد تنوراً حقيقياً. محا صور الثلوج والوحدة، وارتضوا العيش في بلد لا يرضى بأنصاف الحلول . فانتظموا في إيقاعه اليومي، يجمع هذه الشخصيات الثلاث تاريخاً مشتركاً إمتد الى عقود، بين بغداد وكردستان وطهران ومعسكر الأسر في كوجه مروي، ودمشق، نامق سبنسر نسبة الى شبه في الشكل مع الممثل بود سبنسر، ونادر راديو،الذي لم يفارقه المذياع طوال حياته . مثلما يعود الى رائحة مدينته الجنوبية البعيدة.

أبطال تراجيديون، كاملي السمات، يحملون الماضي بين خفاياهم، بالرغم من أن حاضرهم (المنفى) يسحق بكل قوة الأواصر التي تشكل العلاقات الإنسانية، يجمعهم حنين الى الماضي لا يجدوه عند الدنماركيين الذين يعيشون الحاضر (الحياة) بعمق، لا يستكينون الى الموت، الشخصيات الثلاث تنتمي الى ماضٍ يؤرقهم يعذب أيامهم ولياليهم، إلا ان هذا الماضي أفاد الانباري الى حد مدهش كأحد عوامل نجاح عمله الفني وكمفتاح الى عالم اخر. قدّمها كإشارات ذكية تدلنا على طبيعة الحركة الاجتماعية في الواقع العراقي،وبالرغم من انها اشارات ذاتية في مواضع متعددة من الرواية، الا انها تتحول الى علاقة تفاعل خصب يولد المزيد من الدلالات على عمق المأساة من جهة، وأهمية الصراع بين الموقفين الذاتي والعام من جهة أخرى.

البناء الروائي ينطلق من نقطة ملامسة الانتماء الى الحاضر الجديد . ويبقى الماضي المحور الدرامي للمأساة، ليس الماضي هنا فجيعة العراق فحسب بل هو مدن الحلم التي شيعتها الانكسارات والهزائم والخيبات الى مثواها الاخير. فليست بلدان اوربا جنة الله على الارض. انه مجرد وهم كما يقول نامق، الوهم يتطلب العيش هناك لتكتشف ان الجحيم هو ذاته جحيم الوحشة والغربة واللون والدين والسلوك وكل شيء.

نامق المتزوج من ربيعة الجزائرية ينظر مع الزوجة بأسى الى ابنتهم عشتار المصابة باللوكيميا . يترقبون بمرارة موتها المؤجل . (أنا) يكتشف ان (كاترين) الفاتنة، الشهية . في ربيعها السابع  عشر . إنها ابنة نادر، فتاة حائرة بين لغات عدة، أبوها عربي، أمها بولونية، تقطن في بيئة دانماركية . ضائعة بين اللغات، تلك الفوضى حولتها الى فتاة شبه خرساء . ثم يأخذها الاغتراب الى ضياع تام بين حانات الليل والشباب .. ونادر لم يتغير شكلاً ولا فكراً .

(الراوي ) المتكلم) . لا يستطيع رؤية إبنتيه جميلة ونجمة من زوجته البرازيلية المطلقة (ماري)، يجد نفسه مبهوراً في هذا الوسط الكوزموبولتي  الذي يحيطه، باحثاً عن عمل . لم يرد في أحلامه أو يخطر في ذهنه أنه سيتزوج ماري ويسافر معها الى ساو باولو في البرازيل ، وهو العراقي الحائر في حياته الذي لا يعرف اين يجد الامان..

مذ هرب نامق  نحو الجبال تاركاً الوطن وسط أتون  الحرب، يتنفس رائحة البارود منذ الصباح وحتى المساء . ويرى الجسد البشري وهو يقطع دون رحمة عبر القذائف والصواريخ والسلاح الابيض.

ليست الرمزية في (انا ونامق سبنسر) من الطراز الاسطوري في شيئ، ولا هي تركيز لواقعية الواقع، حتى ليبدو (غير واقعي) في مظهره . وانما تقرب الرواية من ان تكون معادلة حرفية للواقع المباشر. ويكاد حل المعادلة ان يكون بين يدي القارئ من السطور الاولى. فكان اختيار الكاتب موفقا في نقطة الانطلاق الفنية للاحداث كمدخل يمنح الاحداث دلالاتها العامة والخاصة وهي نقطة انطلاق موضوعية تماما. تشير الى جوهر المأساة، فقد تشابكت خيوط المؤامرة، وافرخت هذا الحريق الهائل، فلم طويل احد ضحاياه شقيقه (كمال) الذي ينتهي بتفجير هائل، وهي قصة موت لعشرات الالاف من البشر.

الراوي معجب بوصف نفسه انه شخص محشو بالذكريات .. فمن دونها، يحس كأن حياته تكرر نفسها . لكنه لم يستطع الوصول الى سر قدرة السنين على التغيير فالوطن أشبه بحلم غامض لا يمكن إمساكه، ذلك الحلم تلاشى، وفي رأسه خارطة مختلفة، واقعية وفجة، الدرس الذي تعلمه في حياته هو ان الزمن يقشر الاوهام بقسوة، تقشير متواصل، لا ينتهي الا بدخول القبر .

تتشعب المحاور في الرواية لتشكل بانوراما عريضة لجوانب الصراع بين انماط السلوك والقيم والثقافات بين الشرق والغرب، مجموعة من الارتباكات والتناقضات الحادة تعبر عنها الرواية وتقدمها كعوائق، تربك واقع المغتربين وحياتهم، وتحول دون التفكير في العودة المستحيلة للوطن . او الرضوخ لواقع جديد مختلف، إنها الطواحين التي يحرك دواليبها هواء معاكس ومضاد، فتهتز العلاقات، وتلوح اشارات لانهيارات وتداعيات لها في المفاهيم والاخلاق والقيم والجذور . لذا تبدو الرواية مدخلاً لرواية الشقاء، أو مدخلاً لعالم روائي لم يتكسر زمنه، أو تفكك سياقه السردي، إنما أرتجت رؤية شخوصه وابطاله .

وليس مصادفة أن يكون الأبطال على وزن (فاعل) في الرواية، (نامق) و(نادر) و(شاكر) الروائي الحاضر في داخل نصه، إن هذا الاختيار دليل على مكانة (الفاعل) في رسم وتحريك الاحداث، الفاعل في الحياة والشهادة على الاحداث،شهادة عن الزمن الذي تبعثر بين محطات كثيرة، وعن حروب اضاعته، ومعان إلتبست وصار العبث سيدها .

قيم وافكار ونظريات كونت جيلاً كاملاً، فكانت مفاجئة أن يصاب التكوين بما يشبه السكتة القلبية، إذ أحسن وهو في قمة الانغمار في فصائل المقاومة للديكتاتورية بداية ثمانينات القرن الماضي،ان يقرر الانسحاب مع رفيقه نامق الى الحدود الايرانية، انه الفراغ الوحشي الذي التهم الاثنين بلا تردد، انها المأساة التي تفجر في وعينا الحقيقة .

يقبل (أنا) فكرة العودة الى أرض العنف والدماء ثانية . لتعمّق شعوره بالغربة يقول : هذه ليست مدينتي،لم أعش طفولتي فيها . لا أعرف أصدقاء المدرسة فيها، هذه مدينة تعتقد أني مختلف، ولا أنتمي اليها .. (ص121 ) .

العودة الى الوطن يوفرها مراد قامشلي (الذئب الذي غير مسار حياتي) .. مراد إبن مدينة القامشلي السورية، يدير جريدة الخبر الاسبوعية التي تصدر في المنفى . يعرض على (أنا) العمل كمراسل للجريدة في بغداد، ليبدأ بتوثيق ملف (أرشيف العنف) منذ كلكامش ولحد الان .

هناك يوفر له صديقه سامر مكتباً يتحول الى مكان يلتقي بالصحفية سرى عشيقة سامر المتزوجة من مفيد،إنجذب اليها (أنا) منذ لحظة اللقاء الاول ليصفها أنها بيضاء البشرة، بشعر يميل الى الشقرة، وجسد أنثوي ناعم، بروح طفولية .  هذا الاعجاب يتحول الى عشق ولذة واندماج، وتوحد في جسد سرى التي أحبها بجنون لم يألفه سابقاً، أن سرى كانت المرأة الوحيدة التي وجد فيها (أنا) نفسه، وازداد قناعة بأنها المرأة التي أحبها قبل اكتشاف كيميائية جسدها، فلم يقاوم فتنة وجهها الشبيه بوجه الاميرة ديانا ولا اغراءات شفتيها الرقيقتين . إلا ان العلاقة إرتطمت بسحائب دكناء كدرت حياة الراوي ودفعت به الى التشرد من جديد،بعد ان إكتشف صديقه سامرطبيعة العلاقة مع سرى .  فإكتفى بطرده من المكتب، وخلف ذهابها فراغا هائلاً في روحه .. جعله يعيش في وحدة فريدة ..

في هذه الفصول التي شهدت توثيق ارشيف العنف في بغداد،يتبدل الصوت الحزين، وتتراجع اللغة النادبة، وتترك مكانها للغة تؤهات مشبعة بعطش الجسد وتمتزج بممارسات حب مع سرى المحرومة من الحب الحقيقي، تتراجع النبرة العالية امام مشاعر الحب . ويذهب الروائي في سرد هذه المشاعر بفصول كثيرة أخذت حيزاً غير قليل من الرواية .. بمعنى أخر أن سرى كانت احدى الشخصيات المحورية الاساسية في الرواية، مثلما كان نادر كذلك .. فيتبادر السؤال بالعودة الى عتبة العنوان عن معنى اختصاره بشخصيتي الراوي ونامق فقط .. وربما اجاب الراوي عن هذا التساؤل حين يصف موت صديقه نامق حزناً على عشتار، بالقول : موت صديقي نامق لم يكن حدثاً عابراً . أحسست وكأنني أقتطع ثلاثين سنة من حياتي وأرسلها الى القبر ذكرياتي جلّها تصب في إسمه، والقصص التي عشتها والمدن التي رأيتها كلها على علاقة بذلك الرجل الذي مات (ص189).

ان نهاية حياة نامق الى مصير تراجيدي حاد، توفر العناء في البحث عن اجابة لمعنى العنوان ..

لغة شاكر الانباري بلا غموض أو التباس .  أو تنظيرات .. لكنها لغة تبتعد عن المباشرة والخطابية والوعظ، وإن كنت أتطلع الى خاتمة للرواية في فصلها التاسع عشروتنتهي فيه، لتبدأ الرواية تنموبقوة في دواخلنا وتتجدد، معالم المكان ومعانيه تجد امتداداً له في الكتابه، بلغة حافلة بمفردات اليوم، وبتدفق حي، تتعدد مستوياتها، كأنها تعبير عن قلق روح راويها وهو يتلمس (أناه) في عالم تنتهي الانا فيه .

وإذ يعاني النص من مسألة الرثاءات، والانكفاء الى تفاصيل العيش يبدو معها الموت احتفاءً .

هذه النزعة سائدة في النص كتعبير عن شعور بالتمزق واليأس . وبلا جدوى القول في وقف الانهيار ونزيف الدم المراق بلا معنى ورحمة . إنها إنهيار الرؤية وتهاوي الجيل الاخير الذي فوجئ بالتاريخ يصعقه وهو في منتصف العمر، ومنتصف الطريق.

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم