صحيفة المثقف

جمال العتّابي: (أبو حالوب)..عاشق للحياة وجمالياتها

jamal alatabiفي اللحظة التي تجتاز فيها البوابة الزجاجية الثانية لـ (الروضة)، لا بد أن يأخذك بصرك نحو أول مائدة تحتل الركن الأول من رواق فسيح لهذا المقهى الشهيرة في دمشق الشام، تطلّ على شارع مورق جميل يدعى (العابد) الذي يفضي الى منطقة الصالحية، هنا في صدر المقهى يترصد أبو حالوب القادم والمغادرللمقهى، ومقهى الروضة بين ثلاث مقاهٍ في الشام، يشكل العراقيون نسبة كبيرة من روادها، وشهدت سنوات الهجرة المفتوحة في كل العهود إقبالا لهم لقضاء ساعات طويلة فيها يتلقون أخبار الأهل والوطن هناك بعد أن تركوا أغلال ماضيهم، مثلما يقتلون وقت البطالة والحيرة والترقب على عتباتها، يغرقون صمتهم في زجاجات الشاي وأكواب القهوة، أنت لاتستطيع الإفلات أبداً من نظرات أبو حالوب، حتى وأنت تدخل المقهى للمرة الأولى، ثمة جسور سرية تربطك بهذا الكائن الرابض في (العرين) يوزع نظراته في كل الإتجاهات، وكأنه يمتلك أسرار القادمين والمغادرين، ولديه إجابات عن الأسئلة كلها، حتى المبهمة أو الغامضة منها، هو عارف بهؤلاء، وبالغرض الذي جاؤا من أجله وأماكن إقامتهم، ومواعيد حركتهم،وحين يسعف طلباً لأحدهم، تلمح في عينيه شعاع الرضى والإقبال، وتشعر فجأة بموجة ضياء تغمر كيانه .

تنتفخ جيوب ملابسه بعشرات من قصاصات الأوراق التي تضمّ مئات العناوين والأسماء، هو حريص أشد الحرص على حفظها ومراجعتها بين الحين والآخر، حتى تلك التي تهرأت أطرافها أوتمزقت، توحي لك أنها تعود لسنوات مضت، أرشيف يجد فيه راحة للضمير، وكأنه كتاب يحرره من قيود العالم المعذب الذي يعيش فيه . أبو حالوب لايبارح هذا المكان منذ عقود من الزمن، إلا لبعض من الوقت للقيلولة، يعود بعدها مزهواًوبشعور في غاية الإنتشاء، يتملكه فرح طاغٍ، بهذا الإنضباط العالي والإلتزام الذي فرضه على نفسه وسخّر له كل وقته، لهذا الواجب الذي كُلف به من قبل الملائكة، لأدائه بإتقان ودقة وتفانٍ، هوشعور خاص يغمر به روحه ونفسه الطفولية، فوفّرله الآف الصداقات مع رواد المقهى،  يلمح وجهه عبر الصور المرتحلة والآتية وأضحى ظاهرة شاخصة وعلامة عراقية بإمتياز من أبرز علامات أرض الشام .

أبو حالوب ضمن هذا السياق، إنسان عاشق كبير للحياة، يقاوم إنسلاخ الحب عن الدنيا لتصبح معقلاً فضاً، وأغلالاً وجحيما، على الرغم من واقع الغربة الذي سبق به الجميع، وصُدم به منذ صباه بعد غياب طويل عن الوطن، يسكنه طفل وديع يقارب الستة عقود من التغرب، ووجع أهله المشتتين في بقاع العالم، تؤرقه الشام منذ أعوام وهي المجبولة بحرائق الإرهاب والعذاب، لم يخفِ آماله التي تسكن أحلامه بالإعلان عنها بهذه الممارسة الفريدة الممتعة، المصاحبة لمظاهر طبيعته الهادئة،هي ملاذه الوحيد، ورغبته في الوجود، وحماسه للحياة، ودعاباته اللذيذة، ومماحكاته البريئة والطريفة، يتندربتفاصيلها الثقيلة، وصرامة ضغوطها وشروطها القاسية، إن صوره تملأ العين دفعة واحدة،تقطع أربعين أو خمسين عاماً في ثوانٍ لتسقط على بقعة من خيمته لتملأها ضوءاً، لاتغيب إشراقته ولاتذبل أزهار الحياة فيها فيظل يرقب الخطى، كل الخطى التي يراها حذرة وقلقة .

أبو حالوب لا يشعر بالضياع والفراغ المؤلم، وكأن الدنيا من حوله خاملة وبليدة، ربما يعرّف إختصاصيو علم النفس هذه الشخصية على انها عاطفية، تتعامل مع الحياة بعاطفة أكثر من تعاملها بالعقل، وفي حالة التضارب بينهما يتغلب حكم العاطفة على العقل، لذلك يطغي الود والأماني الخيرة على سلوكه العام،لم تنل منه الليالي ولا تلك المفازات القصية، ووحشة الوطن .وصاحب الشخصية العاطفية شديد الحساسية ومرهف الشعور لما يجري حوله، وهو يحمّل نفسه مجالاً أوسع من التحسس بموقفه الحياتي وعلاقاته مع الناس والمحيط، لهذا فإن إنفعالاته العاطفية لاتنحصر في القضايا الشخصية، بل تمتد الى القضايا العامة والإنسانية بشكل عام، وهو ما منحه قدرة في إبتكار وصنع الصداقات ذات النزوع الأليف بعفوية العراقي وبراعته، يعرف بالضبط ماذا يفعل للتعبير عن صدق روحه .

نحن أمام تجربة لها خصوصيتها، فأبو حالوب قطب لتساؤلات عديدة، يجمع حوله مجالاً واسعا ومكثفاً من حقول تتعايش حوله، كأنه يتنفس شظايا حرائق العراق، ويمشي فوق ألغامه، وهو يلتقط شظايا حياته .

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم