صحيفة المثقف

عبد الجبار العبيدي: مدينة بغداد في التاريخ

abduljabar alobaydiوصلتني اخيرا رسالة من الاخ الدكتور عامر الجبوري مرسلة له من المهندس فهمي سعيد بعنوان بغداد المدورة..؟

أثرت التعليق عليها برسالة سبق وان كتبتها متحريا عن بغداد المدورة الجميلة التي بناها المنصور العباسي سنة 145 للهجرة.والرسالة في وجهة نظر مختلفة عن التاريخ الاساسي للمدينة، حيث ذكر البعض انها بنيت في جانب الرصافة واستغرق بناؤها 6 سنوات بمساحة قطرها 2500 م ومحيطها ب8000 متر وتعليقا على الرسالة اعيد نشر المقالة السابقة مزودة بمعلومات مهمة اخرى. 

يغداد ام الدنيا وسيدة البلاد كما سماها المؤرحون القدماء، أصل كلمة بغداد اعجمية، والعرب تختلف في لفظها، اذ لم يكن اصلها من كلامهم . ولا اشتقاقها من لغاتهم، فهي تعني بستان بالفارسية . وجاءت التسمية من باغ اسم البستان وداد اسم صاحب البستان.ولها اسماء كثيرة حسب لهجات العرب مثل بغداد وبغذان وغيرها كثير .

 بنيت في عهد الخليفة المنصور العباسي سنة (145 هجرية)، وسماها المنصور مدينة السلام في الجانب الغربي من الكرخ، أما الزوراء فهي مدينة المنصور الخاصة داخل مدينة بغداد المدورة. وعندما سئل الخليفة المنصور عن سبب تسميتها بهذا الاسم، قال: لان الله هو السلام والمدن كلها له. وهي مدينة مدورة جميلة فيها اسواق عامرة يقصدها القاصي والداني، شمسها ساطعة وهوائها عليل، ظلت عاصمة العباسيين لمائة عام تقريبا ختى نقلت الى سامراء على عهد المتوكل العباسي (ت232للهجرة).

هي مدينة محصنة يحيط بها نهر دجلة ومجموعة الجداول التي حفرت حولها، تأتيهاالميرة من كل جهة، من الشام والجزيرة والهند والصين عن طريق ثغرها الباسم البصرة الفيحاء .

وصل اليها العرب على عهد الخليفة عمر بن الخطاب(رض). فتحها القائد العربي المثنى بن حارثة الشيباني سنة 13 للهجرة.وكان اول من مصرها هو الخليفة العباسي المنصور، وجعلها مصرا عربياً، حين بدأ ببنائها سنة 145 وأكمل بنائها سنة 149للهجرة، وأنفق في بنائها عشرون مليون دينار ذهبي .وبنى فيها قصره المنيف، وفي وسطها بنيت القبة الخضراء تعلو قصرها ولها اربعة ابواب هي:

باب خراسان من الشرق مخصصة لمن يدخلها من جهة خراسان. 1- 2 - باب البصرة، مخصصة لمن يدخلها من الجنوب الغربي. 3- باب الكوفة لمن يدخلها من الجنوب الشرقي من منطقة الاحواز .

4- باب المغرب مخصصة لمن يدخلها من الشام والجزيرة.

بقيت المدينة عامرة وقبتها الخضراء شامخة حتى سقطت سنة 329 للهجرة على ايدي البويهيين الفرس، ثم انتقلت الى ايدي السلاجقة الاتراك سنة 434 للهجرةلكنها ظلت لخلافة العباسيين حتى السقوط الاخير عام656 للهجرة على ايدي المغول حين قتل الخليفة العباسي المستعصم فيها وبنهايته انتهت خلافة العباسيين.

وقيل في توصيفها انه لايموت فيها خليفة حتف انفه ابدا، حتى قيل فيها شعراجميلا نقتطف منه ما يلي :

بغداد تطول بها الاعمار، ان غذاءها   مريءُ وبعض الارض أمرأ من بعضِ

قضى ربها ان لايموت خليفة بها،      أن شاء في خلقه يقضي

ومن العجيب ان كل خلفاء بني العباس ماتوا بعيدين عنها، فالمنصور مات في الحجاز، والمهدي بماسبذان، والهادي بعيسباد، والرشيد بطوس، والامين في شرقها، والمأمون في بالمصيصة احدى نواحي الشام، والمعتصم والواثق والمتوكل والمنتصر بسامراء وغيرهم كثير خارجها.

تغنى بها الشعراء، فهي جنة الارض ومدينة السلام، ومجمع الرافدين، وغرة البلاد، وعبن العراق، ودار الخلافة، ومجمع المحاسن والطيبات، ومعدن الظرائف واللطائف، وفيها ارباب الغايات من كل فن،

قال فيها الشعراء شعرا كثيرًا:

بغداد يا دار الملوك ويا مجتنى الغنى    صنوف المنى يا مستقر المنابر

ويا جنة الدنيا ويا مجتنى الغنى    ومنبسط الامال عند المتاجر

سلام على بغداد من كل منزل    وحق لها مني السلام المضاعف

والله ما فارقتها رغبة مني لها    وأني بشطي جانبيها لعارف

 ولكنها ضاقت علي برحبها    ولم تكن الارزاق فيها تساعف

 ان اول مرة ذكرت فيها مدينة السلام على الدينار العباسي كانت في خلافة المأمون العباسي سنة 198 للهجرة.واستمر النقد يعمل فيها حتى سقوطها على يد المغول سنة (656 للهجرة-1258 للميلاد).

بنى فيها المنصور ثلاثة جسور هي جسر بغداد الذي يحاذي سوق الثلاثاء،، وجسر باب الطاق، وجسر دار العزية . ازدهرت فيها مهنة الطب، ومن اشهر اطبائها بختشيوع اليوناني رئيس مهنة الطب العربي المعروف انذاك .ثم ظهرت مهنة الصيدلة في عهد المامون بعد انشاء دار الترجمة المسمى بدار الحكمة وهو المنجز الحضاري الذي خلد اسم الخليفة المأمون تاريخيا.

ساد فيها الامن وحفظت من الاعتداءات والسرقات وقد شيد فيها المحاكم القانونية لمحاكمة المخالفين، وكان للقانون فيها أثر. كتب المنصور لأبنه المهدي وصية يقول فيها:"يا بني : وأنظر هذه المدينة وأياك ان تستبدل بها غيرها، وقد جمعت لك فيها من الاموال ما ان كسر الخراج عليك عشر سنين كفاك لأرزاق الجند ونفقات الذرية ومصلحة الثغور، فأحتفظ بها، فانك ما لا تزال عزيزا ما دام بيت مالك عامراً.. أناظروا الى أصحابها اليوم .. كيف يتعاملون مع المال العام ...؟

وبسقوطها على يد المغول تحول تاريخها اليهم، الذي لم يدم طويلا حتى تنازعتها الاطماع والصراعات الفارسية العثمانية التي انتهت بدحر الفرس عنها ومجيء العثمانيين اليها واستقرارهم فيها، حين اصبحت جزء من الدولة العثمانية حتى سقطت على ايدي البريطانيين سنة 1918 وبقوا فيها حتى تحررت منهم عام 1921 بعد ثورة العشرين العربية الخالدة..؟.

وفي العهد العثماني تدهورت الحالة الاجتماعية والاقتصادية فيها، لكنها انتعشت لفترة قصيرة على عهد الوالي العثماني مدحت باشا فبنيت فيها بعض المدارس، كمدرسة الصنائع ومدرسة الاعداد العسكري والمدارس الابتدائية والمتوسطة والثانوية وظلت تدرس اللغة العربية بجانب اللغة العثمانية فيها.

والملاحظ ان منذ ذلك الوقت كا ن التدريس فيها مختلطا للبنين والبنات معا ولم تعرف الطائفية والعنصرية ابدا.وكان البغداديون متحابون متجانسون ومتصاهرون ولم يعرفوا فرقة اجتماعيةأو طائفية اوعنصرية أو مذهبية فيها الا في عصرها الحديث، عصر حكم الاغراب الحاقدين عليها وعلى أهلها الشرفاء الذين ما أنفكوا يدافعون عنها وسيبقون حتى ينتزعونها منهم، فهي مدينة ما أستهانت لغير أهلها، ولا مدت يدا لحاكم غاصب، ابداً، انها مدينة الحرية والكرامة وقيم العروبة الاصيلة . . وبحلول عصر الاستقلال الوطني عام 1925 تغيرت الاحوال وعاد الانتعاش الاجتماعي والاقتصادي والثقافي والسياسي اليها مرة اخرى، وخاصة بعد ان تم تتويج جلالة الملك المعظم فيصل الاول رحمه الله ملكا عليها، فساد الامان والاطمئنان والكفاية والعدل، واخذت الحياة تتصاعد في مدارج الرقي والتقدم فيها.وهي عاصمة العراق الابدية، فيها مجلسان هما، مجلس النواب المنتخب مباشرة من الشعب ومجلس الاعيان المعين من ذوي الخبرة والكفاءة والقيم المجتمعية الاصيلة، وعاش فيها العرب والاكراد والتركمان وكل الاقليات الاخرى دون تميز.

أستمرت الملكية فيهامن عام 1921 حتى عام 1958 حتى أنتهت بأنقلاب عسكري قادته حركة الضبابط العراقيين بقيادة الزعيم الركن عبد الكريم قاسم علم 1958 ثم ما لبثت الحركة الانقلابية ان تنازعتها الاهواء بين عبد الكريم قاسم وعبد السلام عارف حتى جاء انقلاب حزب البعث عام، 1963، بعدها جرت محاولة اخرى لحزب البعث عام 1968 ونجحت واستمر الحزب في سلطة الدولة حتى سقوطه عام 2003على يد الاحتلال المدعوم من معارضي حكمها اليوم .

فهل سيعي يوماً حكامها الجدد ليعيدوا لها تاريخها.. أتركوا السواد الفارسي منها وألبسوها خضرة أميرها ذاك الذي استشهد من أجلها...فهل أنتم فاعلون لطرد الأغراب منها...؟

 

د. عبد الجبار العبيدي

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم