صحيفة المثقف

كمال الهردي: قهوة الصباح.. قهوة روحية بيضاء

kamal alhardiارتبط كوب القهوة الصباحي - المترع بالقهوة الداكنة اللون والمرة المذاق - بفكرة المخلص من سلطان بقايا الكرى ودفء السرير ورفع الحافزية البدنية للقيام بالمهام الحركية اليومية. بيد أن القهوة التي يهمنا احتساء رشفات منها كل صباح لا علاقة لها باللون الداكن ولا بالطعم المـُر.

قهوتنا قهوة روحية لها بياض اللبن الصُراح، وحلاوة العسل المصفى الذي لا شوف فيه ! الرشفة الأولى من ذلك الكوب توقظ ما خلد من ضمائرنا في سبات المادية التي ما أنفكت تفت في عضد المروءة لتجعل منها كياناً منخوراً حتى النخاع !

المروءة التي نترجمها بلغة العصر إلى (القيم الإنسانية الر اقية) التي لا يختلف على جوهريتها وياقوتيتها كافة الناس من كل المشارب والنخل والملل. فالناس منذ فجر التاريخ وعبر الحقب التاريخية المتعاقبة اتفقوا بإجماع فطري - لا يرقى إليه شك - بأن اليد البيضاء هي تلك التي تمتد للضعفاء وتمسح دموع الأشقياء.

تروي لنا إحدى حكايات التاريخ العربي أن رجلاً -  ذا مروءة - سمع مناشدة من محكوم عليه بالإعدام -  لا يعرفه - يطلب ممن تحلقوا حوله بأن يضمنه أحدهم حتى مغيب الشمس ليذهب خلال ذلك الوقت لقضاء حاجة له قبل أن يفارق الحياة.

وقتذاك لم يعر المتجمهرون طلبه اهتمام لأنه إن لم يعد قبل مغيب الشمس فستضرب عنق الضامن نظير ضمانته. عندها تقدم صاحب المروءة وضمنه في مجازفة تكاد تكون أشبه بمقامر يلعب على رهان فرصة نجاحة واحد على المليار! إذ أن فعل كذلك يمكن أن يكون بمثابة وضع الرأس على الكف ! وقبل مغيب الشمس كان المحكوم قد عاد. وحين سئل الضامن عن سر مجازفته، أجاب قائلاً : فعلت ما فعلت كي لا يقال أن المروءة قد ضاعت بين الناس ! وهذه هي الرشفة الأولى - رشفة المروءة - من كوب قهوتنا الصباحية.

أما الرشفة الثانية فنحتسيها - من تلك القهوة الصباحية الروحية - لتخمد ما تهيج وتأجج في أحراش أنفسنا من نيران الضغائن، فننطلق مع نسمات الصباح الأولى بقلوب صافية وأذهان نقية لا تحمل إلا الخير للغير. نتعهد بواطننا بالتنقية والترقية كما نتعهد ظواهرنا بالأردية الأنيقة والعطور الباريسية والكريمات الألمانية ! اصقل قلبك على الدوام، ونقه من الشوائب والعلائق حتى يصير في بريقه كمصباح ! اعتني بالمظهر والمخبر حتى تصير إنسان شفاف يصدق فيه أبيات السهروردي :

رق الزجاج وراقت الخمرُ     فتشابها فتشاكل الأمر

    فكأنما قدحٌ ولا خمرُ      وكأنما خمرٌ ولا قدحُ

وأما الرشفة الثالثة فتوقظ فينا قيمة الإنصاف، فالعدل قيمة إنسانية، وناموس كوني تربع على عرش القيم، إذ لا توجد قيمة أخرى تعلوه مقاماً ولا تفوقة قدراً سوى قيمة الرحمة. وبتلك الرشفات الثلاث يغدو المرء كائناً تتجلى فيه شمائل الإنسان الكامل الذي لا غشاوة على عينيه، ولا ران على قلبه، ولا وقر في أذنية.

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم