صحيفة المثقف

خالد جواد شبيل: من وحي الأكروبول (2-2)

khalidjawad shbaylأينَ يا أطلالُ جُندُ الغالبِ – أين آمونُ وصوتُ الراهبِ؟

شاعر الكرنك أحمد فتحي     

ها نحن نغذّ الخُطى صُعُداً ولامَحيد ولا مِناص من الهمّة والمغالبة والنشاط! أشجّعها وتشجعني وشمس اليونان قوية وضرورية لإنضاج الكروم والزيتون، وعندما أتأمل هذا البلد العريق أخال كل شيء فيه خُلِق من عنب وزيتون حتى حِسان اليونان الجميلات!.. يداً بيد مع الشاعرة وئام ملا سلمان، وكُلّما انتابنا تعبٌ نستظل أشجارَ الزيتون التي طالما منحت أغصانَها أكاليلَ لأبطال اليونان الفائزين في ميادين الألعاب الأولمبية أو للمحاربين المنتصرين! بدأنا نرتفع على سفح الأكروبول وبدأت الأطلال تلوح هنا سجن سقراط وهنا المسرح، وكلما ارتفعنا بدت أثينا جميلة وادعة وبدا البحر يلوح بزرقته البعيدة الشاحبة شيئاً فشيّا..

والأكروبول أو الأكروبولس تعني المدينة العالية (وبولس التي دائما ماتكون لاحقة لأسماء المدن القديمة تعني مدينة مثل تريبولي أو طرابلس...) والحقيقة كان الأغريق يعمدون لبناء حصون في المرتفعات مشرفة على المواني القديمة لأسباب دفاعية فلكل مدينة أكروبوليسها لكن إذا ذكرت مُعَرّفة " الأكروبول" فالمقصود بها أكروبوليس أثينا. يعتقد أن التل هذا كان مقطوناً حتى الألفية الثالثة قبل الميلاد، لكن المباني التي مازالت شامخة فيه مثل البارثينون والبوبيلايا والأرخثيون ومعبد أثينا (نايك) ترجع الى القرن الخامس قبل الميلاد.

وكلما وقفت أمام طلل بال تنتابك الخواطر وتذهب بك بعيداً بعيدا وكم تتمنى لو تنطق هذه الأحجار لتُريَنا أين شجرة أكاديموس، وأين الأروقة والرواقيون، وأين ألمشاؤون، وأين حُوكِم سقراط "مفسد الشباب"؟ وهل تجرّع السُّم طواعية من كأس أم لدغه ثعبان قاتل؟ وتتكر الأين حتى تتذكر البيت العميق للشاعر الرومانسي أحمد فتحي أعلاه الذي هو الآخر يبدأ بها...

" الفكر اليوناني هو مرحلة الطفولة في نمو الفكر الإنساني" مأروع وما أصدق وما أعمق قولة كارل ماركس هذه! الطفولة هي سؤال جريء يؤدي إلى سؤال عن الخلق وعن مجيء الإنسان، عن الولادة والحياة والموت، هي تصورات لخيال خصب جميل .. وما الفلسفة وفن الجدل إلا سؤال؟!

كان أول مشهد هام هو مسرح ديونيسوس العظيم ورغم تآكله إلا أنه مازال محتفظاً بملامحه وأقسامه الثلاثة، قسم الإعداد والاكسسوار ثم الحلبة ومدرجات الجهور المتفرج، كان المسرح اليوناني يعتمد على الملابس العريضة التي تكبر حجم الممثل الذي لا يعتمد على حركات الوجه بل يغطيه بأقنعة وإنما على الحركة والصوت التي تشاهد ويسمع من قبل الجمهور، وكذلك اعتمد على فن الإلقاء والقدرة الخطابية وإنشاد الشعر والغناء والموسيقى وهي عناصر هامة للمسرح الملحمي! ويُعد المسرح الإغريقى هو والد المسرح العالمي بحق..

 1089-amai1

مسرح ديونيسوس/ الأكروبول

 وتبد في الصورة الشاعرة وئام ملا سلمان

كان الازدحام على أشده حيث لم تتسع مدرجات الصعود للمجاميع السياحية التي تتجمع حول الأدلاء، أضطررت أن أخرج عن الممر، كانت الصخور مرمرية (كاربونات الكالسيوم الصقيلة) ملساء واصلت الصعود هنيهة ثم انرلقت قدمي وكدت أنكفأ على وجهي لولا يدٌ قوية أمسكت بيدي ورفعتني رفعاً، ولولا هذا الرجل الكهل القوي الذي أقال عثرتي لاصبحت كسيرا!

هذا هو معبد بارثينون وهو أكبر البنايات وأظهرها في الصور التي تصور الأكربول، من الصعب وصف كل البنايات التي أصابها الكثير من التصدع بسبب الحروب وأكثر حرب أصابتها هي الحرب التي حمي وطيسها بين المهاجمين الفينيسيين والعثمانيين عام 1684 واستمرت لخمسة عشر عاماً فقد استخدِم البارثينون مخزناً للعتاد (البارود) لذا قصف بالمدفعية ذات الكرات الثقيلة .. وما زالت الإصلاحات سائرة لإصلاح ما خرّبته الحروب وما أفسده الدهر! لم يكن بوسعنا الوقوف على كل المباني فشمس الظهيرة قوية والازدحام شديد ومغادرة المكان تصبح ضرورة وهكذا آثرنا العافية ونزلنا بسلام!

 1089-jawad2

بلوغ الأكروبول

أجمل ما يمكن مشاهدته هو استخدام الحافلات السياحية المجهزة بتسجيل يشرح الأماكن باللغات الحية ومنها العربية، وبأسعار معقولة، والأسعار تعتمد على الخطوط السياحية المختار، اخترنا الخط الأحمر والأزرق ليومين، وهكذا زرنا المواقع الهامة وخاصة الميناء والبرلمان في سينداغو، وحديقة البرلمان الجميلة.. أما الميناء فهو جميل للغاية وأحسبه هو ميناء مثالي بمصدات طبيعية تمنع التيارات الموجية العالية.. ولمّا كان التسجيل العربي موكلاً لسيدة مصرية حطّمت أضلع اللغة تحطيما، فضلت سماع الموسيقى اليونانية الجميلة..

كنا قد تجولنا مشياً على الأقدام وخاصة في شارع أثينا من ساحة أومونيا فالأسواق، ثم إلى ساحة مينستراكي الشهيرة، حيث المطاعم والمشارب والمقاهي.. أما شارع فينزيلو المفضي الى سينداغو ففيه المكتبة الوطنية والجامعة والأكاديمية وهي بنايات مستوحاة من العمارة الأغريقية..

اليونانيون اجتماعيون حين التكلم معهم ويبدون أكثر انفتاحاً حين يعرفون أنك سائح وليس لاجيء وبذلك كان سؤالي الذي وجّه للمتعلمين والمتعلمات (اليونانيات أكثر انفتاحاً من الرجال) هو: لو قدم لكم نصّا باللغة الإغريقية القديمة لأرسطو أو من الألياذة كم ستفهمون منه؟ كلً من سألت أجاب بجواب واحد: لا نكاد نفهم شيئاً وبعض قال لا نفهم شيئاً رغم استطاعتنا تهجي النص!!ثم يقولون يفهمها الذين اختصوا باللغة اليونانية القديمة التي مرّت بعدة مراحل أهمها العصر الهيليني القرن الرابع قبل الميلاد وعصر البلاطمة! ما هو نصيبكم من الفلسفة والميثولوجيا الأغريقية؟ تفاوت الجواب بعضهم يقول نعم لدينا إلمام بهذا بشكل بسيط من خلا الترجمة إلى اليونانية الحديثة التي درسناها في المدارس وبعضهم قال نعم نعرف الشيء الكثير! و عندما سألت ببراءة -لا تخلو من خبث بسيط – محاولا معرفة نصيبهم من المثولوجيا: من هي ميدوزا Medusa؟ كان الجواب في "معظم" الحلات صحيحاً، هي امرأة مجنحة قبيحة الوجه لها نابا افعى شعرها من الأفاعي، عيناها واسعتان إذا التقتا بعيني إنسان تجمد بالحال وتحول إلى حجر! فتمنيتها لذاك الشاعر القديم الذي قال:

ما أطيبَ العيش  لو أن الفتى حجرٌ – تنبو الحوادثُ عنه وهو ملمومُ

أجمل ما في اليونان مقاهي الأرصفة وتناول الفطور فيها ومشاهدة الناس في الصباح  كل أمسك بفطيرة جبن وكوب قهوة وراح يقضم بها في طريقه إلى العمل، وأمسيات اليونان تشبه الى حد بعيد أمسيات بغداد النواسية حيث حليب السباع مع فستق وجبن أبيض وزيتون وأشياء أخرى..وأتعس ما في اليونان هو بائعات الهوى اللاتي في معظمهن غير يونانيات يجبن الشوارع ليل نهار! وعندما سألت عن السبب عرفت أن البغاء في اليونان مرخص على خلاف معظم دول الاتحاد الأوربي!!

ولا أنسى ذلك الصباح حين استيقضنا على أصوات نسائية عراقية وسورية ومن دول اخرى، أطللنا من الشرفة حيث ينتظرون دورهم للدخول الى مكتب كنسي يوزع عليهم أسبوعياً بعض المال والطعام والملابس المستعملة، للتخفيف عنهم!!

 

رام كم هنغ 10 ت1 /اكتوبر2016 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم