صحيفة المثقف

جودت العاني: إستراتيجية التعامل الدولي.. التحولات والمتغيرات!!

المقدمة: هل تندلع الحرب العالمية الثالثة؟ ما هي محدداتها وضوابطها في عالم محتدم؟ 

يقول البعض أن الحرب العالمية الثالثة باتت على الأبواب، فهي قادمة؟ والبعض الآخر يرى في إحتدام الصراع بين الدولتين الكبريين أمريكا وروسيا في منطقة إقليمية تتخذ الأولى منها سياسة تكريس النفوذ عن طريق القوة، والثانية التراجع غير المنظم وترك فراغات الأمن الأقليمية، بعد أن تيقن  المتصارعان بأن مجلس الأمن الدولي بات مشلولاً تمامًا أمام أي حلول تقع في خارج مصالحهما، ودون أي إكتراث للأمن والسلم الدوليين، أو إحتمال أن تشعل الصراعات الأقليمية نار الحرب العالمية الثالثة .!!

فهل أن مثل هذه التكهنات وهي تستند إلى عدد من المؤشرات، التي تفصح عن إحتمال نشوب الحرب الكونية بإستخدام أسلحة الدمار الشامل؟ إلا أن السياسة الدولية التي تصاغ ستراتيجياتها في مؤسسات ذات تخصصات وصلاحيات، محكومة بشروط وضع القرار موضع التنفيذ العملي، هي ليست مؤسسات إعلامية تأخذ أحيانًا على عاتقها وضع الأحداث على حافة الهاوية أو تجمدها أو تقلل من شأنها أو تهملها وبالتالي تضخمها أو تقزمها .. فهي تظل سياسة إعلامية تتداخل معها حروب من نوع آخر كبالونات الأختبار والحرب النفسية والإيهامات والتسريبات والتنبؤات بأحداث قادمة .

ومن هنا يتوجب التفريق بين السياسة الدولية والسياسة الأعلامية، ومن الصعب الخلط بينهما في مجال التحليل وإستخلاص النتائج .. فالسياسات الدولية قائمة على أساس إلتقاء المصالح وتقاطعها في مناخات الأستقطاب والتحالفات السياسية والعسكرية، التي قد تكون بعيدة عن تنظيم العلاقات الثنائية ومتعددة الأطراف، وربما على وفق التشريعات واللوائح والأتفاقيات والمعاهدات، التي يقرها القانون الدولي، ومبادئ ميثاق الأمم المتحدة .

الصراع بين الدولتين الكبريين أمريكا وروسيا الأتحادية، هو صراع لم يكن صراعًا بين معسكريين، كما هو حال الصراع السابق بين المعسكر الغربي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية والمعسكر الشرقي بزعامة الأتحاد السوفياتي، ولا بمواصفاته، ولا بمكوناته، ولا بقدراته عدا التدميرية، ولا بقوة الجذب الأستقطابي الكائن والمستمر.. لأن المعسكر الشرقي قد تفكك بإنهيار الأتحاد السوفياتي وتلاشى حلف وارشو وتهدم جدار برلين .. والحالة هنا ليست حالة معسكريين متصارعين، إنما حالة معسكر غربي قائم بذاته أمام روسيا الأتحادية، التي تحاول أن تجد لها مقومات الأستقطاب الدولي بأستخدام القوة لتكريس مناطق نفوذ من جهة، ومن خلال دول (بريكس) المتعارضة، ودول مؤتمر (شنغهاي) من جهة ثانية، فيما هي غارقة في مستنقع الأستنزاف القاري والأقليمي .

التوازن قي الردع النووي المتبادل المؤكد يمنع إندلاع حرب ثالثة .. لأن الضربة الأستباقية الأولى تدمر 40% من عناصر القوة، تقابلها ضربة قاسية تدمر أكثر من 60% من معامل المدن وعناصر القوة لدى الخصم .. فمن الصعب تخيل إندلاع الحرب، إلا في حالة الخلل الآلي أوالخطأ البشري نتيجة لوثة عقلية، ومع ذلك هنالك خط أحمر ساخن متفق عليه بين العاصمتين موسكو وواشنطن .!!

 التعامل الإستراتيجي الدولي قد يضم في إطاره تناقضاً تسيره السياسة بطريقة التوازن المحسوب .. ولا يعني ذلك أن الإستراتيجية، وهي تخطيط السياسة، لها ما يقابلها من إستراتيجيات مضادة تقع في مجال التقاطع الحاد، الذي قد يفضي إلى التصادم .

والتعامل الإستراتيجي الدولي هذا لا يتم على مسرح خالٍ من القضايا والأحداث، إنما يتم على وفقها سواء كانت تنتهي بالاختلاف أو التوافق اللذان ليسا منفصلين عن بعضهما في مسار التعامل وخاصة بين الدول العظمى والكبرى حصراً .

والتعامل من هذا النوع يجمع بين حالتين متناقضتين، يتفق في إحداها ويتعارض في الأخرى ولا شائبة في تفجير موقف محسوب، إلا إذا أدرك أحد أطراف الصراع أن الأمر يمس أمنه القومي أو مجاله الحيوي، حينئذٍ، يتم العمل على وفق مبدأ التعامل بالمثل  (Reciprocity) سياسيًا وعسكريًا أو غير ذلك، كسياسة عض الأصابع أو لي الأذرع في عدد من الأماكن ذات المدلول الأستراتيجي والأقتصادي .

من هذه الزاوية .. هل أن الصين وروسيا الاتحادية عدوان إستراتيجيان لأمريكا.. أو أنهما شريكان إستراتيجيان لها .. أم إنهما منافسان إستراتيجيان، يمكن أن يتعاونا معها في بعض القضايا، ويمكن أن يختلفا معها في قضايا أخرى؟

إن نمط إستراتيجية التعامل هذه، التي تجمع في حقيقتها بين الحالة الأولى والثانية، هي نتاج واقع الصراع والتنافس معاً على المصالح والنفوذ في العديد من مناطق العالم، وخاصة المناطق ذات الأهمية الاقتصادية والإستراتيجية والقريبة من مناطق الاحتقان، ومنها (مناطق خطوط النفط والغاز وحقولها الأنتاجية، وخطوط إمداداتها)، وكل يعرف حدوده المحسوبة كما يعرف حسابات حدود المجازفة. !!

والقاعدة التي يبنى على أساسها التعامل هي أن التناقض أساس التطور وإن التعاون أساس الاستقرار .. فكيف يمكن أن تجمع عناصر التضاد في بنية السياسة الخارجية للدولة، ركنها الذي يتعايش مع التضاد من أجل أن تتطور، وركنها الآخر يتماشى مع التعاون على أساس بناء أسس الاستقرار في التعامل؟!، والأهم من ذلك كيف يمكن ضبط حركة التوازن القائمة بين كفتي ميزان التعامل دون اختلال، رغم الاستفزازات والتراجعات وأوراق الضغط والمساومات، إلخ؟!

فالإستراتيجية الأمريكية إزاء الصين مرسومة على أسس تبدأ بالتعاون معها  والاستفادة من الفرص الكائنة في سوقها، والعمل على إحتوائها، وتدجينها، ومن ثم إجهاضها !! .. ويتضح، أن إطار التعامل الأمريكي - الصيني، الذي يضم بين ظهرانيه التعاون في مسائل، والتصادم في مسائل أخرى، تجمعهما وحدة العمل الإستراتيجي بالرغم من أن أمريكا لا تملك إستراتيجية إقتصادية على عكس الصين تماماً، لأن الاقتصاد الصيني أصبح المحرك الرئيس للدبلوماسية الصينية، وكذا الأمر لنظيرتها الروسية، وذلك لأن الاقتصاد أحد أهم العناصر المحركة للصراعات والمنافسات والمساومات في العالم، إضافة إلى عوامل أخرى. !!

أن فعل السياسة قد لا يتحدد بواقع جيو- سياسي معين، إنما يكون لمثل هذا الفعل إرتدادات جيو- إستراتيجية دولية من جهة، وله ارتدادات إقليمية محسوبة أيضاً .. وهذا يعني أن الأهداف الإستراتيجية الأمريكية لا شك في أنها تدخل في حساب إستراتيجيات أخرى دولية تسمح بالاختلاف معها أو تجاوز بعض أطرها في حالات معينة، ولكن لا تسمح بأن يتعرض فيها أمنها القومي و مجالاتها الحيوية إلى مخاطر تعد أكثر قيمة من تلك الأهداف. !!

العلاقات الإستراتيجية .. ومكوِنات التعامل الدولي : منذ أفول الحرب الباردة بانهيار الإتحاد السوفياتي في أواخر عام 1989، حصلت متغيرات مهمة في ميزان تعادل القوى الدولي أوجدت فراغاً في القوة الدولية، الأمر الذي انعكس على النظام الدولي ومجريات أوضاع العلاقات الدولية، فيما مثلت الحركة الجيو-إستراتيجية لفعل الحادي عشر من سبتمبر-أيلول عام 2001 تطبيقاً إستباقيًا للإستراتيجية الكونية الأمريكية ممثلة بما أسمته (الإرهاب الدولي)، والتي ما زالت صفحاتها ممتدة حتى الوقت الحاضر. !!

والواضح في الفعل الإستراتيجي الكوني بروز ظاهرتين، الأولى-  تمثلت بظهور قوى عظمى (الصين وروسيا وأوربا والهند والبرازيل)، الأمر الذي أدى إلى إدخال النظام الدولي في مرحلة جديدة يمكن وصفها بمرحلة بداية انهيار عصر التفرد الأمريكي، حتى بات موضوع القطبية المتعددة واقعاً جدياً. دولها لم تعد مجرد دول كبيرة، بل أنها باتت تتمتع ببعض من المقومات والمعطيات وفي مقدمتها القدرة على (النمو المتوازن في القوة) - القوة هنا بمفهومها الشامل وليس بمعناها العسكري والتقني فحسب - الكفيلة بأن تحدث تأثيرات في العلاقات الدولية، ضمن سياقات إستراتيجية التعامل المتعارضة (التعاون والصراع) في آن واحد، والثانية - تمثلت بانحسار التأثير الأمريكي وقدرته على فعل السياسة والإقناع من جهة، وانكشاف أدواتها المستخدمة في الحالة الشمولية للعولمة، وإخفاق معالجة الأزمة الرأسمالية بعولمتها من جهة ثانية، وخاصة تدخلاتها الخارجية التي تنتهي دائمًا إلى الأنهاك والتراجع أو الأنكفاء.

فهل أن التحولات على المسرح السياسي الدولي نابعة من طبيعة الدولة القطبية الناشئة ذاتها في النضج والتناسق بين مكونات القوة لديها، أم أن هذه التحولات ناتجة عن ضمور مكونات القوة المتقابلة للدولة القطبية المتفردة، أم أن التحولات ناجمة عن الاثنين معاً أم أنها محصلة مخاض تفاعلات القوى الدولية والأقليمية القائمة على تغيرات بروز القوة واستخداماتها؟!  

قبل الإجابة على مثل هذه التساؤلات، ينبغي التوقف عند الأزمات المحددة، التي شهدتها العلاقات الدولية في ظل القطبية الثنائية :

-  كان التفاعل بين أمريكا والإتحاد السوفياتي في أزمة عام 1956 واضحاً، فقد كانتا (معارضتين) للعمل العسكري البريطاني - الفرنسي في حرب السويس .. ولكن هذه المعارضة لا تعني أن الدولتين (متفقتان)، لأن رد فعلهما كان بعيداً عن التعاون، إلا أن تفاعلهما انصب على (ضبط) حركتهما التنافسية وإبقاء الوضع على مستوى التعارض المتبادل المحسوب للوصول إلى تسوية سياسية ومنع التصعيد. !!

ومعنى ذلك : إن الدولتين العظميين تتفقان على الحد الأدنى من الأهداف المشتركة (كوضع تسويات بوقف القتال وسحب القوات أو اعتماد وضع وسائل حل المنازعات بالطرق السلمية موضع التطبيق وتحت الإشراف الدولي) .

-  ينبع موقف أي من الدولتين العظميين من طبيعة (الأزمة) الدولية أو الإقليمية.. ففي أزمة مضيق (تايوان) عام 1958، اتخذ الموقف الأمريكي حالة احتمال التصادم بتأييد كل منهما أحد الطرفين المتنازعين (الصين وتايوان)، بيد أن ضبط الحالة كان ناجماً عن طبيعة الأزمة ذاتها .. فالاتحاد السوفياتي كان يدعم الصين والولايات المتحدة تدعم تايوان، والصراع اتخذ أهمية متقابلة أو متماثلة، يمكن وصفه بأنه أزمة لا تخضع للتصعيد ويمكن ضبطها ومنع المواجهة الجدية بين الدولتين .

-  أما أن تتخذ العلاقة الكائنة بين الدولتين العظميين صفة منافسة تبرز في إطار تلاقي المصالح وليس تقاطعها، أو أن تتخذ صيغة تنافس مصحوباً بتصعيدات هامشية، أو أن تتخذ صيغة مجابهة مباشرة كالأزمة الكوبية عام 1962، حيث أدركت كل من الدولتين العظميين أن أمنها القومي يتعرض للخطر الجدي، على الرغم من أن الأزمة كانت (ذاتية) .. بمعنى أنها من عمل الدولتين وليس نتاج صراع (حليف) مع غيره أو (وكيل) يمكن التحكم بتصرفاته !!،  حيث انتهت الأزمة بصورة حتمية وعلى شكل تراجع أحد أطراف الأزمة، وهو الأمر الذي كان يعبر عن ما يسمى بالردع المتبادل المؤكد ضمن ميزان تعادل القوى الإستراتيجي .

-  أما حالة التصادم العربي- الإسرائيلي عام 1967، فقد كانت الدولتان العظميان في وضع عدم الجدية في العمل على حل الأزمة، إنما عملتا على تصليب الطرفين العربي والإسرائيلي على حد سواء .

-  وحالة التصعيد العسكري الروسي على الأرض السورية، تمثل إقحام موسكو بقواتها التقليدية بكل زخمها مع حليف إقليمي، أمام مراقبة أمريكية غير مكترثة منذ بدايات الأزمة، فهي حالة تُكْسِرْ قاعدة ضبط التوازن بطرقة المغامرة، التي قد تكون غير محسوبة العواقب أمام خيارات غير واضحة تحتسب قيمة الهدف في حسابات التصعيد من جهة، وحساب حدود المجازفة بأسلحة غير تقليدية من جهة أخرى.!!

والتساؤل هنا ... ونحن بصدد تلمس خط التعامل الإستراتيجي الراهن بين الدولتين العظميين أمريكا وروسيا الاتحادية إضافة إلى الصين، هل أن هاتين الدولتين تتعاملان كشريكين في إدارة الأزمات أم أنهما تتنافستان في صراعات مستمرة محكومة بضوابط مشتركة قائمة على - نقاط تفاهم ضمنية  أو  خطوط تماس محددة ومعروفة.؟  وذلك بفعل التحولات، التي طرأت على ميزان تعادل القوى الإستراتيجي الدولي؟  فاذا كانت حالة التساوي الإستراتيجي النسبي قد حتمت أخذ (مصالح وأهداف وأولويات) أي من الطرفين بنظر الاعتبار قبل انهيار الإتحاد السوفياتي، فأن التفرد الأمريكي الدولي، قد أشاع الاضطراب وعدم الاستقرار في العالم . فيما حفز قانون (التحدي والاستجابة)،  قوى أخرى أدركت أن التحدي يشترط استخدام طاقتها الكامنة والسماح لها بخوض مجال المنافسة الدولية والعمل على كسر الاحتكار المفروض عليها، حيث تحاول روسيا الاتحادية أن ترمم قدراتها، وتعيد رسم خططها الجيو- إستراتيجية الدولية في تحالفات مؤقتة أو نقلات محددة وغامضة، كما الصين هي الأخرى قد تمكنت من بناء قدراتها على نحو مكنتها من ولوج عالم التوازن الإستراتيجي، وهو الأمر الذي وضع الدولتين الكبريين روسيا والصين على أعتاب مرحلة جديدة من التعامل والعلاقات مع الطرف الغربي وفي مقدمته الولايات المتحدة الأمريكية .. بيد أن الراهن يوضح أن روسيا تعوم في مستنقع من ناحية ومتأزمة في إسار القرم من ناحية ثانية .. وهذا الأمر هو بمثابة إستنزاف للأمكانات والقدرات الروسية، وهي في حالة التجميع والترميم .!!

-  القطبية الثنائية من الصعب أن تعود إلى المسرح السياسي الدولي لتتحكم من جديد بأحداث ومقدرات العالم، فقد بات الوضع العالمي أكثر ارتباطاً وتعقيداً خارج سياقات قدرة القطبية الثنائية على التحكم . والتحولات في مجرى العلاقات الدولية تشير إلى قيام مرحلة تسبق التعددية القطبية، وهي المرحلة التي ستتحكم فيها القطبية الثلاثية المكونة للتوازن (أمريكا- روسيا الاتحادية- الصين)، فيما تلعب قوى أساسية على المسرح السياسي الدولي (اليابان – الهند – أوربا - البرازيل)، دور المؤثر السياسي والاقتصادي والإستراتيجي كلما تطلب الأمر تثبيت حالة الصراع أو التوازن الإقليمي  في ضوء التطورات التي تحصل في ميزان تعادل القوى في العالم .

قد يتساءل البعض: هل أن التطورات ممكنة الحدوث، تأتي بفعل ظهور قوى جديدة، أم أن التغيرات ناجمة عن تحولات في الميزان الإستراتيجي؟ .. بمعنى هل أن الميزان المركزي يبقى انفرادياً أو ثنائياً أو ثلاثياً أو متعدد الأقطاب؟!

الثنائية القطبية قد انهارت، فخلق الانهيار فراغ قوة دولية، عبثت خلاله أمريكا بالوضع الدولي، أفرز قطبية أحادية عمقت اختلال التوازن، الذي أدى إلى ظهور ملامح القطبية الثلاثية وهي في بداية مرحلة جديدة على مسرح العلاقات الدولية، فيما تبقى التعددية القطبية في مخاض التحول والصيرورة، لتأخذ وقتاً ليس قصيراً .. كما عمقت إختلال التوازن الأقليمي في عموم منطقة الشرق الأوسط، الذي عزز بدوره سياسة (إقتناص الفرص) الأستراتيجية في التدخل الخارجي، وأشاع الأرهاب المتعدد والعنف والعنف المضاد، الذي اتسعت دائرته إلى خارج المنطقة يصاحبه هجرات قسرية لآإنسانية.. هذا الأضطراب لن يستقيم أمام الحقائق المتزايدة، التي تستوجب إرساء دعائم الأمن والأستقرار الدوليين .

فمن الصعب تجاهل بروز الصين دولة عظمى تستند في علاقاتها على قدرات (التعاون والتنافس والمجابهة) في آن واحد، في ظل القدرة على التحكم، والقدرة على ضبط الحالة في مسائل التوازن في العلاقة .. أما اليابان فتعد القوة الاقتصادية الكبرى في العالم .. فيما تبقى أوربا في إطار الشد والجذب بين الرغبة في تعزيز أسس استقلالها، وبين الرغبة في أن تظل تحت مظلة الحماية الأمريكية، بينما تعمل أمريكا على تحييدها ومنعها من أن تشكل قطبًا مستقلاً تمهيدأ لتفكيكها، وخطوتها الأولى الخطرة كانت إخراج بريطانيا من الأتحاد الأوربي .. والحالة هذه قد تطول كثيراً ما دامت أمريكا لا ترغب في أن تستقل أوربا في قرارها السياسي والاقتصادي والعسكري، إنما تريد أن تستخدمها كأداة في شراكة إستراتيجية تمكن حروبها الإمبريالية في العالم، ولكن الأمور لا تخضع للرغبات دائمًا .

إن مركز الجاذبية يتجسد في مرتكزات قوى دولية عظمى رئيسة (أمريكا- روسيا – الصين)، فيما تبقى القوى الكبرى (اليابان- الهند- أوربا - البرازيل) تمثل نطاق النظام الدولي الراهن، الذي يشق طريقه نحو التبلور، تمهيداً لدخول أي منها مرحلة التعددية القطبية، التي ربما قد تطول بسبب المحددات التي تضعها أمريكا في طريقها، باعتبارها مراكز تأثير عالمية، فيما يظهر في الأفق  ليشير إلى محاولة خروج اليابان من دائرة التبعية الأمريكية، وتبدو المؤشرات على هذا الخروج للحالة الأوربية، التي تعاني من التأثير الأمريكي السلبي، وما الحرب السرية القائمة بينهما إلا دليل يضاف إلى سعي أمريكا صوب تدمير القاعدة النقدية الأوربية (اليورو) ابتداءً من اليونان مروراً بايطاليا وأسبانيا والبرتغال وهولندا، إذ من الصعب أن ترضخ أوربا في وضعها الراهن لمشيئة الغطاء الأمريكي تحت تصورات الحماية. !!

هل تتحقق فرضية الأستقرار في العالم؟، هنالك من يقول " إن توازن القوى قد يعزز الثنائية القطبية والتعددية على حدٍ سواء ( Waltz. Kenneth. N) - مفكر أمريكي  -  وهذا صحيح، ولكن أقول أن الحالة التي تفرض الميزان هي نسبية قد تختل إذا ما عمل أي من الفريقين أو أكثر على الإخلال المتعمد في ميزان تعادل القوة، سواء تعلق الأمر في بُعدِها الاقتصادي خاصة وبُعدِها العسكري والإستراتيجي بشكل عام .. وإن مثل هذا الاختلال يقوض الثنائية أو التعددية القطبية ذاتها .

وهدف (Waltz)، الأساس هو أن يظهر، أن النظام الثنائي القطب يُحْتَمَلْ أن يدعم الاستقرار أكثر من النظام المتعدد الأقطاب، لأن القيود البنيوية - حسب والتز- المتعلقة بالثنائية القطبية تنتج توازناً للقوى أكثر ثباتاً مما تنتجه القيود المتعلقة بالتعددية القطبية . فرضية (والتز) هذه حول الاستقرار لا تكفي وهو الأمر الذي يراد منه إبقاء القوى الأخرى المؤثرة خارج النظام الدولي، وتأكيده على احتكار صنع القرار في العالم .. وأقول في هذا الجانب : إن القطبية المتعددة (أمريكا- روسيا- الصين- أوربا- الهند) هي الضمان للاستقرار النسبي في العالم، وكذا الأمر للقطبية الثلاثية، والسبب هو جعل النظام العالمي (ديمقراطياً) في صنع القرار لإحلال السلام والعدل والإنصاف بما يتلائم مع مبادئ ميثاق الأمم المتحدة، ومنع إحتكار صنع القرار بدولتين تنحازان حتماً لمصالحهما الحيوية وتقيسان مشكلات العالم وحقوق الدول على وفق تلك المصالح .. أما إذا تعددت مراكز الاستقطاب، فأن هامش المصالح الدولية في إطار العمل الدولي المشترك سيتسع لصالح شعوب العالم.. فيما يتوجب إعادة النظر بميثاق الأمم المتحدة وبمقاعد التمثيل الدولي والأقليمي في مجلس الأمن الدولي، وعدم الأبقاء على المنتصرين في الحرب العالمين الثانية يحتكرون القرارات الدولية ويشلون المنظمة الأممية بالفيتو ولا يكترثون لمطالب الشعوب المشروعة والأنسانية. !!

مراكز القوى في العالم ما بين عام 1700- 1935 كانت تتشكل من خمسة مراكز للقرار تتفاعل، وإن أي زيادة في العدد لا يحدث أي فارق، لأن القيود البنيوية الأساسية لا تتأثر جوهرياً بظهور القوة الكبرى السادسة الجديدة .. وعلى الرغم من النظام الدولي والقيود البنيوية فيه القائمة على تراكم المشكلات المتنوعة بدون حلول يجعل أي قطب في التعددية لا يستطيع أن يتنبأ بما تخطط له الأقطاب الأخرى في المستقبل . كما أن القدرات الذاتية للأقطاب تتغير هي الأخرى تغيراً نسبياً وبأساليب يصعب معرفتها مسبقاً. ولأن القوى العظمى في نظام التعددية تتبع إستراتيجيات تمكنها من النمو والتطور والتأثير- في إطار المنافسات- ولكن يصعب عليها لوحدها على خلاف ما يقوله (والتز)، إعادة إنتاجها حالة الفوضى أو الهيمنة أو إستلاب حقوق الشعوب والدول. !!

وإذا كان التنافس بين الدول العظمى التي تشكل القطبية المتعددة أو الثلاثية، يعد سمة من سمات التعامل الدولي، وهو كذلك، فأن هذه القوى لا تستطيع أن تتخلص من التنافس الطبيعي، ولكن التنافس خارج إطار التعامل الطبيعي للعلاقات الدولية قد يفضي إلى مدخلات التصعيد نحو الاحتقان والتوتر، ولكن ينبغي أن يبقى ضمن حدود التنافس .

إن بنية النظام الدولي للقطبية المتعددة والقيود التي تتضمنها في آلية التعامل الدولي ستضع قواعد للاستقرار النسبي في العلاقات الدولية وستحد من عدم اليقين وستخفف من الاعتماد على الذات، وسيصار إلى العمل الدولي المشترك في صنع القرار لحل المشكلات الدولية على وفق قواعد الميثاق أكثر وضوحاً من سابقه، هنا .. لا بد من إعادة النظر في ميثاق الأمم المتحدة، لأنه من صنع المنتصرين في الحرب وليس من صنع الشعوب التواقة إلى السلام والاستقرار والتنمية، الأمر الذي يشترط مؤتمراً دولياً موسعاً من الدول العظمى والكبرى والصغرى .. بمعنى، من كل أعضاء الأمم المتحدة بدون استثناء لهذا الأمر .

التاريخ يذكرنا بأن جميع محاولات الهيمنة العالمية عبر التاريخ قد أحبطت، وإن التفرد في قطبية أحادية أمريكية قد تهاوت، وإن القطبية المتعددة أو الثلاثية لن تسمح بالهيمنة المتفردة على العالم وتهديد النظام الدولي، كما حصل حين انفردت أمريكا منذ عقدين من الزمن استطاعت أن تعبث بالأمن الدولي والإقليمي وتنتهك حقوق الإنسان وحقوق الشعوب في حريتها واستقلالها ومستقبل أجيالها .. كما أن سياسة الأنتهاكات السيادية للحدود الأقليمية للدول، في أجواء إضطرابات السياسة الدولية وفراغات القوة،  لا مستقبل لها في ظل الأدراك العميق  بأهمية وضرورة التوازن الأقليمي، الذي من دونه يمسي التوازن الدولي على حافة الهاوية.. وهذا الهدف يعد في مقدمة الأهداف، التي في ضوئها قد يستقر العالم على سلام يتسم هو الآخر بالاستقرار النسبي القائم على توازن القوى وتوازن المصالح. !!

 

د. جودت العاني - باحث في السياسات الدولية 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم