صحيفة المثقف

كمال الهردي: للمتطرفين فقط !

kamal alhardiدخل الكيميائي المعمل حيث المحاليل، والأنابيب، والدوارق، والقوارير، والمعدات، والأجهزة، ثم خرج لنا بعقار دوائي... وفي ذات الوقت دخل الفنّان المرسم حيث الألوان، والفُرَش، والألواح الورقية، ثم خرج لنا بلوحة فنية...

أيهما أهم يا تُرى، الكيميائي الذي خرج من مختبره بعقار، أم الفنّان الذي خرج من مرسمه بلوحة؟ المتطرفون - كالعادة - سيسارعون إلى إصدار أحكامهم العرجاء والجوفاء، وسيهرعون إلى رفع نبرات أصواتهم ظناً منهم أن في ذلك حجة قاطعة مانعة !! ولو رجعوا خطوة واحدة فقط للوراء، وأعادوا قراءة السؤال مجدداً لوجدوا أنه سؤال خاطئ ؛ لأن الفطرة السليمة والسّوية العقلية ترفض - أصلاً- أن نُحدث مقارنة بحسب الأهمية ما بين القلب والمعدة مثلاً، إذ أن المعدة مرحلة أولية لإمداد القلب بالطاقة، والقلب رافد أولي للمعدة بالدم اللازم لدوام حركتها . العلاقة ﻻ تقاس بحسب الأهمية ؛ لأنها (علاقة تكاملية).

وهذا بالضبط هو حال التنوع في نسيج المجتمعات البشرية ؛ تنوع للتكامل، وليس تنوع للتضاد، والصدام، والفناء. ﻻ مبرر أبداً لإلغاء الآخر، أو تهميشه، أو إقصائه بحجج واهية كالتراتبيات المجتمعة المـُنمّطة للناس والمقولبة لهم، والواضعة لهم في فئات عرقية، أو لونية، أو جنسية، أو فكرية...

في حقيقة الأمر أننا بحاجة وجودية للتنوع ؛ بحاجة لكل الأفكار والألوان لنحقق النماء (الرأسي والأفقي) على كافة المستويات ؛ فبدون التنوع ﻻ يكون نماء أو رفاء البتة.

أيها الحدّيون ! الخالق أودع في الكون ناموس التنوع الجميل، وأنتم تجهدون أنفسكم بمحاولات عبثية للقضاء على تلك التشكيلة البديعة تحت ذرائع تُقحمون فيها اسم (الله) زوراً وبهتانا. يا له من منطق أجدب، صحراوي، جاف، مغبر، عاصف، ﻻ رؤية فيه، ولا رويّة، وﻻ صفاء !

انظروا - فقط - إلى (واحد مللي لتر) من المياه البحرية، تجدوا فيه - تحت المجهر- مئات من الكائنات الحيّة ! تنوّع مذهل، وفي مكان بحجم رأس الدبوس ! أليس الله هو الخالق لذلك التنوع؟ فلماذا تحاولون القضاء عليه باسم (الله)؟!

أما التناقض الصارخ الذي يضرب بأصوله في منابت المتطرفين فيتمثل في تأصيلهم للفروع وتفريعهم للأصول على غير هدى ولا كتاب مبين ! فعلى سبيل المثال لا الحصر، يحرم المتطرف الموسيقى والتصوير والنحت والرسم، ويبيح القتل والتشريد والتجويع ! ما هذا العته والسخف والجنون؟! الله هو السلام، فتعالوا نتعايش بسلام باسم (السلام)، وﻻ تضعوا أصابعكم في آذانكم، وﻻ تستغشوا ثيابكم، ولا تنفروا مُتَولّين.

دعونا نستوحي فكرة التعايش ونبذ التطرف من الثورة التكنولوجية في العالم اليوم التي  أخرجت الفكر الأنساني من الأداء التقليدي الكبير الكلفة وقتاً وجهداً، وساهمت في بلورة ملامح العالم الجديد- عالم الواحد والصفر.

بعبارة أخرى، اللغة الحاسوبية - الصفرواحدية - نظرية تحولت لمسلمة لأنها أثبتت فعالية أدواتها، وجودة نتائجها تكنولوجياً، فلماذا لا نستفيد من جوهرها سوسيولوجياً- اجتماعياً؟ لا سيما أنه يمكن الإفادة - على المستوى الإنساني العلائقي - من هذه اللغة على نحو من الأنحاء، وليكن كالتالي: الواحد هو الكيان الإنساني، والصفر انعدام التراتبيات التمايزية اللونية، والعرقية، والجنسية. 

أنه لشرٌ مستطير أن يشعر المرء بالتمايز على أترابه وأقرانه، فيبدأ بالتصرف من منطلقات التفوق النوعي مما يُجيز له - بنهاية المطاف - أن يفرض، ويهيمن، ويستبيح ليستريح ! فيهدم بكُرته الحديدية - المعلقة في أنفه والتي هي مستقر أنفته - البناء الأنساني الرائع المـُسيّج بجمال تنوعه وبروعة تعدده ؛ وهذا بالضبط ما يمارسه المتطرفون !

لم تنتج التمايزات (النتوءات القبيحة على الوجه الإنساني) بين القوالب البشرية المتشابهة - والتي تصل لحدّ التطابق - سِوى وبال التطاحن، وخبال الملاحم - الواهم أصحابها ومعانقوها بالتربع على عروش المجد والسؤدد على رفات الآخر. انظروا إلى الجراحات النازفة على الكيان البشري منذ فجر التاريخ: مَشَق التمايز والتطرف خنجره وأعمله وما يزال يعمله في صدر الإنسان الواحد، فاتِحاً جرحاً ومُنكأً آخر قد اندمل ! وهكذا عبر العصور والدهور، ما كلّ، ولا ملّ، ولا تثلّم، وظل بنفس الحدّة والشدّة، والشواهد والمشاهد التاريخية حاضرة عتيدة.

ليكن بين أيامنا - الإنسانية الاحتفالية - يوم بهيج؛ يُخصص لإذابة الفوارق في بواتق الأنسنة بخوارق المحبة والتعارف والتآلف ونبذ التطرف. لا شك أن العالم سيكون أجمل وأكمل.

دعونا نتعايش، دعونا نتآلف، دعونا ننشر ثقافة الحب والتقدير المتبادل، دعونا نتسامح ونتصالح لكي نضيء العالم بمصابيح الحب. دعونا نزرع في قلوب الأطفال بذور المحبة، ونسقي تلك البذور لتراها الأجيال القادمة، وقد أينعت وصارت ثماراً وأشجاراً تزين حدائق ورياض العالم.. 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم